الخميس، 22 مايو 2025

قصص نجاح وفشل للجهود الدولية المشتركة


أبدأ معكم بقصة نجاح للجهود الدولية المشتركة في المجال البيئي لكي أرفَع من معنوياتكم، وأُعمق من إيمانكم ومعتقداتكم بأنه عندما تصح النوايا، ويتوافر القرار السياسي، وتوجد الإرادة للحكومات للتنفيذ، وعند توافق والتقاء المصالح بين الدول، فإن العمل البيئي الدولي المشترك ينجح ويؤتي أكله طيبة ثرية للجميع، ويحقق أهدافه في حماية بيئتنا، وصيانة ثرواتها ومواردها العامة والمشتركة التي تهم كل دول وشعوب العالم.

 

فالقصة الأولى حول نجاح الجهود الدولية الجماعية المشتركة تتمثل في حالة الطوارئ القصوى التي أعلنها المجتمع الدولي في الثمانينيات من القرن المنصرم لإنقاذ طبقة الأوزون فوق سطح الأرض، وبالتحديد حماية غاز الأوزون في هذه الطبقة من النضوب التدريجي البطيء مع الزمن.

 

فطبقة الأوزون التي خلقها الله سبحانه وتعالى بقدرٍ واتزان وهي جزء من طبقة الاستراتسفير العليا تحتوي على غاز الأوزون السام والخطر، ولكن هذا الغاز السام أودعه الخالق ووضعه في بيئة يتراوح ارتفاعها بين 15 إلى 30 كيلومتراً فوق سطح الأرض، فلا يتعرض لها الإنسان، ولا تتعرض لها الحياة الفطرية بشقيها النباتي والحيواني، فيؤدي هذا الغاز السام وظيفة وجودية للحياة على وجه الأرض، حيث يمتص هذا الغاز الجزء الأشد خطورة من الأشعة فوق البنفسجية التي تنبعث من الشمس ومن أعالي الفضاء السحيق، فيمنع وصولها على الأرض. ولذلك فإن هذا الغاز يلعب دور المظلة الواقية التي تحمي الأرض ومن عليها من كائنات حية من هذه الأشعة القاتلة، والمسببة للأمراض المزمنة المستعصية على العلاج، مثل السرطان.

 

ولكن الإنسان بسبب جهله، وقلة علمه، وضعف خبرته، قام بالسماح بمجموعة من المواد الكيميائية غير الخطرة وغير السامة للبشر التي صنعها بيديه بالانبعاث والدخول في الهواء الجوي، ويُطلق عليها بالفريون، أو غازات الفلوروكلوروكربون، المستخدمة في تطبيقات ومنتجات لا تعد ولا تحصى في حياتنا اليومية، كغاز تبريد في الثلاجات والمكيفات والبخاخات وغيرها الكثير.  

 

فهذه المواد الكيميائية الخاملة، والمستقرة، والتي في ظاهرها صديقة للبشر والبيئة، كانت هي السبب في تحلل غاز الأوزون في طبقة الأوزون. فهذه المواد فعلاً تتصف بمميزات وخصائص فريدة وحميدة عندما تكون في طبقات الجو السفلى، ولكن الطامة الكبرى التي لم يعرفها الإنسان عندما صنعها واستخدمها، أن هذه المواد تتحرك ببطء يوماً بعد يوم دون أن يحدث عليها أي تغيير في مكوناتها، أي دون أن تتحلل، فتغزو مع الوقت طبقة الأوزون، وتمكث فيها وتتراكم بداخلها. وهناك في تلك الطبقة العليا تقوم الأشعة فوق البنفسجية بتحليل هذه المواد الكيميائية التي تُطلق عنصر الكلور النشط جداً الذي يهاجم غاز الأوزون، ويحوله إلى غاز الأكسجين غير المرغوب فيه في تلك الطبقة، وغير القادر على امتصاص الأشعة فوق البنفسجية القاتلة. مما يعني ونتيجة لذلك وصول كمية كبيرة من هذه الأشعة إلى سطح الأرض وتعريض الإنسان والحياة الفطرية للأمراض العقيمة.

 

وقد اعترف المجتمع الدولي العلمي بهذه الظاهرة المهلكة للحرث والنسل في مايو 1985، وأكد على أن أنشطة الإنسان التنموية قد تسببت في وقوع ثقب في طبقة الأوزون فوق القطب الجنوبي، حسب المقال المنشور في مجلة "الطبيعة" المرموقة في 14 مايو 2025، تحت عنوان: "كيف تمكن العلم والتعاون الدولي من اغلاق ثقب الأوزون". ونتيجة للدبلوماسية البيئية الدولية فقد وافقت بعض دول العالم أولاً على معاهدة فينا لحماية طبقة الأوزون في مارس 1985، ثم وقعت دول العالم على برتوكول مونتريال الشهير في عام 1987، وكان ثمرة جهودٍ دولية مشتركة تمخضت عنها هذه المعاهدة الدولية. وكان نجاح هذه المعاهدة لا يتمثل فقط في مصادقة الدول عليها، وإنما وهو الأهم العمل على تنفيذها في الواقع، مما أدى فعلاً إلى حدوث تغيير ايجابي في تركيز الأوزون، واستعادة الطبقة لعافيتها وصحتها. 

 

ولكن ليست كل المعاهدات والاتفاقيات الدولية كُتب لها التوفيق والنجاح، فهناك اتفاقيات دولية، وعلى رأسها المعاهدة الخاصة بالتغير المناخي، فإنها في تقديري قد أصابها الإخفاق الشديد، بل والفشل الذريع. فالجهود مستمرة منذ أكثر من 33 عاماً، وبالتحديد منذ عام 1992 في البرازيل، عندما وقعت الدول على اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التغير المناخي، ومازال المجتمع الدولي فاشلاً في الاجماع على معاهدة مشتركة وملزمة للجميع لخفض انبعاثات الغازات المتهمة بالتغير المناخي وتداعياتها الكثيرة، مثل سخونة الأرض وارتفاع حرارتها، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حموضة يماه البحر.

 

فكلما اتخذ المجتمع الدولي خطوة واحدة ناجحة إلى الأمام، وحقق بعض الانجازات، رجع إلى الوراء عشرات الخطوات، وإلى النقطة صفر التي بدأ منها. فالخطوة الناجحة الأولى كانت في تدشين الاتفاقية المناخية الإطارية، ثم تلتها في عام 1997، أي بعد خمس سنوات معاهدة عُرفت ببروتوكول كيوتو، حيث تعهدت الدول الصناعية المتقدمة الكبرى بخفض انبعاثاتها من الغازات الملوثة للبيئة والمؤدية إلى وقوع التغير المناخي. ولكن بعدها جاءت خطوات الإخفاق والفشل في التزام الدول العظمى بتعهداتها، حيث ضربت معظمها هذا البروتوكول عرض الحائط ولم تلتزم به، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية الملوث الأول للبيئة، والمسؤول الأول عن التغير المناخي، والتي انسحبت كلياً من البروتوكول في عام 2001 في عهد الرئيس جورج بوش الإبن. وبعد مفاوضات ماراثونية عقيمة استغرقت أكثر من 18 عاماً بين دول العالم، وافقت الدول في باريس 2015 وبمشاركة الرئيس الأمريكي أوباما على معاهدة مناخية طوعية خجولة لا ترقى إلى الطموحات العلمية وإلى عظمة وحجم الحدث، وهو الارتفاع المطرد في درجة حرارة كوكبنا ومستوى سطح البحار. وبالرغم من ذلك، فقد فشلت المعاهدة ولم تر النور فترة طويلة من الزمن، حيث انسحب منها ترمب في ولايته الأولى، فجاء بايدن وأعلن انضمامه إليها، وأخيراً تولى ترمب الحكم للمرة الثانية وأعلن انسحابه منها مرة ثانية في يناير 2025.

 

ففي الحالة الأولى نجحت الجهود الدولية لعلاج ظاهرة انخفاض غاز الأوزون في طبقة لأسباب عدة، منها توافق العلم والسياسة على أسباب الظاهرة وحلولها، وثانياً الحل كان بسيطاً ويتمثل في اقناع شركات قليلة في التوقف التدريجي عن إنتاج المواد المستنفدة لطبقة الأوزون، وهي قليلة جداً، وثالثاً أن البدائل تم تصنيعها بسرعة وبسهولة دون عوائق فنية أو اقتصادية.

 

وأما بالنسبة للتغير المناخي فحلولها معقدة جداً ومتشابكة وصعبة، فأولاً لا يوجد توافق واجماع دولي تام بين العلماء ورجال السياسة والصناعة على أسباب التغير المناخي والحلول المقترحة، فهناك حتى يومنا هذا من رجال السياسة والصناعة من ينكر واقعية هذه الظاهرة ودور الإنسان في وقوعها. وثانياً البديل الرخيص والموثوق لسبب نزول المشكلة الدولية المناخية غير موجود وغير متاح لكل دول العالم، فالسبب الرئيس لوقوع ظاهرة التغير المناخي هو حرق الوقود الأحفوري، من فحم، ونفط، وغاز طبيعي، ولا يوجد حتى اليوم البديل المناسب الذي ينجح بجدارة وثقة في أن يحل محل الوقود الأحفوري في كافة القطاعات والتطبيقات، من الطائرات، والسيارات، ومحطات توليد الكهرباء، وتشغيل المصانع. ورابعاً وأخيراً فإن الوقود الأحفوري يعد سلعة استراتيجية للكثير من دول العالم، فهو العمود الفقري للتنمية في الدول، وهو الركن الرئيس للاقتصاد على المستويين القومي والعالمي، ولذلك من الصعب جداً الاستغناء عنه والتخلص منه. وهذا يعني أن الوصول إلى معاهدة دولية مشتركة وملزمة للجميع سيكون أمراً صعب المنال في المستقبل المنظور، وسيكون مصيره الفشل.  

 

الجمعة، 16 مايو 2025

هل ارتكبتْ أمريكا إبادة بيئية شاملة في حرب فيتنام؟


نشرتُ مقالاً في صحيفة أخبار الخليج في 19 أبريل 2025 تحت عنوان: "الإبادة البيئية الشاملة في غزة وأوكرانيا". وفي هذا المقال بيَّنت الدمار الشامل، والفساد العظيم الذي نزل على كافة مكونات بيئة غزة الحية وغير الحية، من ماءٍ، وهواءٍ، وتربة، وحياة فطرية نباتية وحيوانية، ومزارع غذائية مُشيدة من أشجار الزيتون التاريخية والمعمرة.

 

وفي الحقيقة فإن إثبات حجم الدمار النوعي والكمي الذي وقع على البيئة في غزة لم يكن صعباً، فقد كانت وسائل الإعلام في كل أنحاء العالم تنقل وتغطي على الهواء مباشرة بالصوت والصورة الحية هذه الكارثة البيئية الشاملة التي حلَّت على سكان وبيئة غزة، كما أن المقابلات الشخصية مع شهود العيان، وسكان غزة عامة، أكدوا على حجم الضرر الكبير وعلى نطاق واسع الذي وقع على كافة عناصر بيئتهم.

 

وكل هذه الإبادة البيئية الشاملة والجامعة كانت بأيدي يهودية صهيونية في الكيان الصهيوني، وبأسلحة أمريكية مسيحية صهيونية ودعم أمريكي سياسي ومالي وعسكري لم يتوقف يوماً ما، وبأسلحة فتاكة توازي في مجموعها قوة ودمار أسلحة الدمار الشامل النووية.

 

وهذا الجُرم البيئي الشامل، وهذا البطش والتنكيل والكرب العقيم الذي لم يسبق له مثيلاً في التاريخ وتَعَرضَ له سكان غزة المستضعفين، والذي شاركت في ارتكابه أيادي الحكومات الأمريكية السابقة والحالية، ليس بغريبٍ ولا جديد على الولايات المتحدة الأمريكية، فهذا هو ثقافتهم، وهذا هو سلوكهم أثناء الحرب، فلا يرقُبون في بشر، ولا حجر، ولا شجر إلاَّ ولا ذمة.

 

وتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية المظلم، وسيرتها السوداء القاتمة، ستبقى خالدة في ذاكرة البشرية، وستبقى تلاحقها أبد الدهر كالكابوس المزعج الذي سيجثم على قلوبهم، وكُتبْ التاريخ تمتلئ بجرائم أمريكا، سواء جرائم الإبادة الجماعية للشعوب، أو جرائم الإبادة الشاملة لبيئات كوكبنا حول العالم.

 

ومن الجرائم التي قامت بها أيدي البطش والعدوان الأمريكية، وبالرغم من وقوعها أكثر من 60 عاماً، إلا أن الأبحاث والدراسات مازالت تُجرى لسبر غورها، والتعرف عن كثب على تفاصيلها، والدخول في أعماق إثباتها من خلال الدليل العلمي الموثوق كجرائم إبادة بيئية شاملة، وهي بالتحديد عند غزو واحتلال الولايات المتحدة لفيتنام في الستينيات من القرن المنصرم.

 

فقد خصصتْ مجلة بحثية أمريكية مرموقة، "العلوم"(Science)، في عددها الأخير المنشور في 24 أبريل 2025 حول الإبادة البيئية الشاملة للأنظمة البيئية المختلفة برمتها في فيتنام، فجاء عنوان الغلاف: " إرث العميل البرتقالي"، وشملت عدة مقالات منها المقال تحت عنوان: "هل الولايات المتحدة ارتكبت إبادة بيئية شاملة خلال حرب فيتنام"؟، ومقال آخر عنوانه: " ضباب الحرب".

 

فأعمال الإبادة البيئية الشاملة بدأتْ في عام 1961 وانتهت بعد عقدٍ طويل من الزمن، وبالتحديد في عام 1971، حيث ارتكبت أيدي الأمريكيين الآثمة جريمة بشعة، وعقاباً جماعياً ظالماً لأكثر من 3 ملايين من سكان فيتنام، المقاومين منهم والمدنيين العزل على حدٍ سواء. فمن أجل تطويق مصدر الغذاء كلياً، وتجويع المقاومين وغيرهم، ومنعهم من الحصول على الغذاء، وبهدف تعرية مواقعهم الآمنة التي يختبؤون فيها في الأدغال الكثيفة، وغابات الحشائش والأعشاب المرتفعة التي تقيهم وتحميهم من عيون العدوان، قامت أمريكا برش مبيدٍ سام وقاتل للأعشاب والبشر مُخزن في براميل خاصة عليها علامات برتقالية، فأُطلق عليها (العميل البرتقالي)، أو علامات وردية، أو بيضاء، وهذه يمكن اعتبارها من ضمن أسلحة الدمار الشامل، أو القنابل الكيميائية المحرمة دولياً.

 

 فقد بلغ حجم المبيد المسرطن والسام الذي تم رشه جواً وبراً وبحراً، بوساطة الطائرات، والشاحنات، والسفن قرابة 74 مليون لتر، وغطى مساحة شاسعة من غابات فيتنام الجنوبية الفطرية العذراء، إضافة إلى المستنقعات الواسعة لأشجار القرم، أو المانجروف، وقُدرت المساحة بأكبر من 22 ألف كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة البحرين بـ 23 مرة، كما غطت السموم دولاً أخرى مجاورة مثل كمبوديا.

 

فسلاح الدمار الشامل المتمثل في هذه المبيدات، كان يحتوي على أخطر مادة صنعها الإنسان، وأشدها تنكيلاً وتدميراً لصحته وصحة البيئة، وتُعرف بمجموعة مركبات "الديكسين". وهذه المركبات لا تتحلل بسهولة وبسرعة عندما تدخل في عناصر البيئة، ولذلك فهي تتراكم ويزيد تركيزها مع الزمن، فتبقى في تربة فيتنام لسنوات طويلة، وتمكث في مياهها السطحية والجوفية لعقود طويلة من الزمن، وتنتقل عبر السلسلة الغذائية حتى تصل إلى الحياة الفطرية من أسماك، وحيوانات برية، وطيور، ثم أخيراً إلى الإنسان.

 

فأيادي العدوان الأمريكي المباشرة على سكان وبيئة فيتنام توقفت عام 1975، ولكن تداعياتها تغلغلت في أعماق جسم الإنسان وسلامة البيئة والحياة الفطرية، ومركبات الديكسين تجذرت في كل عناصر البيئة وأعضاء جسم الإنسان، فشملت كل كائن حي وغير حي، ومازالت تداعيات هذه الإبادة الشاملة للبشر والشجر والحجر متأصلة حتى يومنا هذا، ويعاني منها الشعب الفيتنامي، بل حتى الجنود الأمريكيين أنفسهم الذين تعرضوا لمبيد الأعشاب والسم الذي يحتويه.

 

ومن هذه التداعيات للإبادة البيئية الشاملة ما يلي، حسب نتائج الدراسات والأبحاث المنشورة:

أولاً: الإبادة الشاملة للأراضي الزراعية التي تلوثت بالمبيدات وبمادة الديكسين خاصة، بحيث أصبحت كلياً غير صالحة لزراعة المحاصيل التي يتغذى عليها الإنسان، مما يعني التأثير المباشر على تحقيق الأمن الغذائي للشعب.

ثانياً: سموم المبيدات تراكمت مع الزمن في كافة المكونات البيئية من ماءٍ، وهواءٍ، وتربة، ثم انتقلت إلى جميع أنواع الحياة الفطرية، وأخيراً وصلت جسم الإنسان، وتركزت في أعضائه، حتى أن حليب الأم تلوث بالديكسين والملوثات الأخرى.

ثالثاً: وجود الديكسين في البيئة بمستويات مرتفعة وفي جسم الإنسان، أدى إلى بروز أزمات صحية خطيرة للشعب الفيتنامي، ومنها 19 نوعاً من السرطان، إضافة إلى أمراضٍ أخرى، كتعقيدات الحمل، وولادة أجنة مشوه خَلْقياً، وتعاني من مشكلات عقلية وذهنية. علماً بأن البعض من هذه الأمراض انكشف أيضاً على الجنود الأمريكيين وجنود الدول الأخرى التي ساعدت أمريكا في الحرب، مثل كوريا الشمالية، وأستراليا، ونيوزلندا.

رابعاً: هذه السموم لم تؤثر على جيل واحد فقط من الفيتناميين وإنما انتقلت عبر الأجيال، من جيل الحرب المباشر إلى أربعة أجيال ما بعد توقف الحرب، أي أن السموم عَبَرتْ حدود الأجيال المتلاحقة، ولا يعلم أحد إلى أي جيل ستبلغ هذه السموم.

 

الأربعاء، 14 مايو 2025

وسائل التواصل الاجتماعي خطر يهدد الكبار والصغار

 

ينتابني شعور مخيف، ويراودني إحساس غريب بأنني أصبحت أعاني نوعاً من الإدمان على استخدام الهاتف النقال الذكي وبرامج ووسائل التواصل الاجتماعي الكثيرة التي بداخل هذا الجهاز الصغير والبسيط في هيئته، والكبير والمعقد في مضمونه ومحتواه، بحيث إن هذا الهاتف يرافقني في أي وقت، وفي أي مكان أتواجد فيه. فهذا الهاتف أصبح منذ سنوات رفيقي وصديقي ومؤنسي أينما كُنت، في السفر والحضر، فهو يلازمني وفي متناول يدي منذ الدقيقة الأولى من استيقاظي من النوم، حتى آخر دقيقة قبل الخلود إلى النوم. فهذا الواقع المقلق والمخيف في الوقت نفسه الذي أنا فيه، والملايين من البشر في كل أنحاء العالم، جعلني أفكر في مدى تأثيره على صحتي العضوية، والنفسية، والعقلية.

ولكن الانطباع العام لدي منذ سنوات عدة، وعند الكثير من الناس، أن هذا الهاتف الذكي ووسائل التواصل الاجتماعي الكثيرة والمتنوعة يقع تأثيرها على الأطفال، وصغار السن من المراهقين والشباب فقط، وإنما الكبار فهم بمنأى عنها، فهم أكثر خبرة في الحياة، وأشد نضوجاً، وأكبر عقلاً وفكراً من أن يسقطوا ضحية، وفريسة سهلة لسلبيات وتهديدات وسائل التواصل الاجتماعي.

وتغير هذا الانطباع السائد عندما اطلعتُ على مقابلة شخصية مع أحد الخبراء والاختصاصيين أجرتها صحيفة "التايمس" البريطانية في 2 مايو 2025 مع طبيبة خبيرة في شؤون وشجون وسائل التواصل الاجتماعي، وتأثيراتها على الفرد والمجتمع. فقد أكدت وحذرت هذه الخبيرة البريطانية بأن ظاهرة الإدمان على الهاتف النقال الذكي ووسائل الاتصال الاجتماعي لا يقع فيها الأطفال فحسب، وليست لصغار السن والمراهقين، وإنما يقع الكبار أيضاً فريسة سهلة لمغريات هذه الوسائل، وبعض المحتويات الضارة، فتأثيراتها السلبية الخطرة يتعرض لها الصغار والكبار، والأطفال والشباب والشيوخ معاً.

أما الأطفال وصغار السن فتهديدات وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت واقعية منذ سنوات عدة، والإدمان عليها تحول إلى ظاهرة اجتماعية عقيمة لها تداعيات صحية تضرب بشدة الجانب العقلي والنفسي للمراهقين، فتعرضهم للإصابة بالقلق، والاكتئاب، والعزلة، والذي مع الوقت يتحول إلى مرض عضوي مزمن يصعب علاجه، ويؤدي إلى الانتحار. وكل هذه التهديدات والمخاطر تقع ضمن مصطلح جديد وشامل وعام هو التوتر، أو "الاضطراب الرقمي"(Digital Disorders)، وهو مرض عقلي ونفسي يصيب الذين يُفرطون في استخدام الإنترنت، والكمبيوتر، والهواتف الذكية، ووسائل التواصل الاجتماعي لساعات طويلة من اليوم والليلة لسنوت طويلة. فلهذا "الاضطراب الرقمي" أوجه كثيرة وأنوع مختلفة، منها المتعلق بالإدمان على ألعاب الفيديو، ومنها بالإدمان على الإنترنت، ومنها الهاتف الذكي وما يحتويه من وسائل للتواصل الاجتماعي. ومن أقدم الأنواع هو الإدمان على ألعاب الفيديو، واعتراف المجتمع الطبي رسمياً بوجود مرض عقلي ونفسي تحت مسمى مرض "اضطراب الألعاب"(Gaming Disorder)، حيث اعتمدت منظمة الصحة العالمية رسمياً في عام 2022 هذه التوتر والاضطراب كمرض خاص ضمن التصنيف الدولي للأمراض.

والدراسات والأبحاث المنشورة تؤكد هذا الواقع الحالي المتعلق بالإفراط في الاعتماد على الوسائل الرقمية بمختلف أنواعها واشكالها، وتعرض الجميع من صغار وكبار لأمراض عقلية ونفسية نتيجة لهذا الإدمان. فهناك دراسة منشورة في 28 أبريل 2025 في "مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين"( Journal of the American Medical Association) تحت عنوان: " نحو تعريف أنماط استخدام وسائل التواصل عند المراهقين". وقد أكدت هذه الدراسة على الانتشار الواسع للاستخدام المفرط والسيء وغير الصحي لهذه الوسائل، حيث إن 15% من الأطفال والمراهقين في الولايات المتحدة الأمريكية يقضون ويمضون قرابة 9 ساعات يومياً على أجهزة رقمية، مثل الهاتف النقال، والآي باد، والكمبيوتر، كما أن أكثر من 95% من مراهقي أمريكا من الذين تتراوح أعمارهم بين 13 إلى 17 استخدموا نوعاً من أنواع وسائل التواصل. ونظراً لشدة تفاقم هذه الأزمة الصحية والاجتماعية في المجتمعات عامة، وفي المجتمعات الأمريكية والغربية المتقدمة والثرية خاصة، فإن جمعية الأطباء الأمريكية قارنت هذا النوع من الإدمان الرقمي بالإدمان على شرب الخمر.

وفي تحقيق نُشر في المحطة الإخبارية الأمريكية "سي إن إن" في 22 أبريل 2025 تحت عنوان: "المراهقون، وسائل التواصل والصحة العقلية"، فقد أفاد التحقيق إلى أن نسبة مرتفعة من المستخدمين يقولون بأن وسائل التواصل تضر بصحتهم العقلية، وهذه النسبة في ارتفاع مستمر مع الوقت، مما أضطر الجراح العام الأمريكي السابق "فيفك ميرثي"(Vivek Murthy) إلى وصف هذه الحالة المتعاظمة بالأزمة الصحية القومية الواقعية التي تهدد الأمن الصحي للأطفال والمراهقين الأمريكيين. فقد نشر في 17 يونيو 2024 مقالاً صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية، إضافة إلى التقرير الاستشاري الصحي الموجه للشعب الأمريكي تحت عنوان: "التواصل الاجتماعي والصحة العقلية للشباب"، حيث دعا المسؤول الأول عن الصحة العامة الكونجرس الأمريكي للتدخل سريعاً في تنظيم هذه الوسائل من خلال سن قانون يلزم شركات التكنلوجيا الكبرى المنتجة لهذه الأدوات الحديثة، مثل جوجل، وفيس بوك، ومنصة أكس، وغيرها إلى إصدار ووضع علامات تحذيرية، وملصقات توجيهية على هذه الوسائل والتطبيقات، ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي. ومن العبارات التحذيرية التي يقترحها (الجراح العام) المسؤول الأول عن صحة الشعب الأمريكي هي: "التواصل الاجتماعي له علاقة بوقوع أضرار جسيمة على الصحة العقلية للمراهقين". فوجود مثل هذه العبارات التي تدق ناقوس الخطر، تُلفت عناية ورعاية المجتمع الأمريكي برمته، وتوقظ الآباء، وأوليا الأمور، والمسؤولين في المدارس والجامعات وغيرهما وترفع من إدراكهم ووعيهم على ضرورة أن تكون هناك هبَّة جماعية مجتمعية لمكافحة هذا الوباء الجديد الذي ولج إلى بيوت كل مواطن، وخلق أزمة صحية كبيرة وطارئة تتمثل في تدهور الصحة العقلية والنفسية للأطفال والشباب والمراهقين، بل وكبار السن على حدٍ سواء.

وعلاوة على ذلك فقد دخل "المنتدى الاقتصادي العالمي" المهتم عادة بالجانب الاقتصادي والتنموي على خط تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل التقنية الرقمية الكثيرة، ونَظَّم عدة حلقات نقاش وحوار في عدة دورات منها الاجتماع الذي عقد في الفترة من 15 إلى 19 يناير 2024، حيث طرح عدة أسئلة منها: ما هي أهم العوامل الأكثر تأثيراً على الصحة العامة، حيث كانت وسائل التواصل الاجتماعي في مقدمة هذه العوامل التي تسبب اضطراباً وتوتراً صحياً واجتماعياً على الفرد والأسرة. 

فالأزمة الصحية العقلية، والنفسية، والجسدية التي تنجم عن الاستخدام المفرط وغير المسؤول للهاتف الذكي ووسائل التواصل الاجتماعي تعاني منها كل المجتمعات حول العالم، ولكن التأثيرات السلبية انكشفت أولاً على المجتمعات الغربية والمجتمعات المتقدمة الغنية التي تستطيع تحمل تكاليف شراء الهواتف الذكية، وتمتلك بنية تحتية تقنية رقمية متطورة وثابتة ومستقرة، ولكن عدوى هذه التأثيرات بلغت اليوم كل دول العالم بدون استثناء، مما يعني أنها تحولت إلى قضية دولية عامة ومشتركة تستدعي جهوداً جماعية مشتركة، وتتطلب في الوقت نفسه حلولاً مشتركة أيضاً. 

 

الخميس، 8 مايو 2025

الهجرة العكسية للعقول المبدعة


عندما كنتُ طالباً في جامعة مانشستر للعلوم والتكنلوجيا في مدينة مانشستر العريقة في بريطانيا في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، ومكثتُ فيها قرابة أربع سنوات للتحضير ونيل درجتي الماجستير والدكتوراه في كيمياء البيئة، لاحظتُ خلال هذه السنوات القليلة ظاهرة ليست بغريبة، فهي معروفة منذ عقود طويلة من الزمن وشاهدناها في الكثير من مناطق العالم، وهي هجرة الكثير من العقول العلمية المبدعة والمتميزة من أساتذة الجامعة البريطانية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث بلد حرية الرأي والتعبير، وبلد المجال الواسع للبحث والدراسات العلمية النادرة والمتقدمة، وبلد الفرص العظيمة للإبداع والإنتاج وتحسين الوضع المعيشي للفرد والأسرة.

 

فالعقول العلمية المبدعة دائماً تبحث عن النور بدلاً من الظلام، والاستقرار وراحة النفس والبال بدلاً من حالة عدم الأمن والسلام، والمفكرون دائماً يسعون ويعملون على الدعوة إلى آرائهم وأفكارهم في جو صحي يسوده الأمن والطمأنينة ويشجع ويحفز حرية التعبير والرأي والفكر المستنير، ورجال الثقافة والعلم ذات الكفاءة العالية يبحثون عن إحداث الفرق والتغيير في حياتهم وحياة الناس في بيئة خصبة تَرْعى وتدعم هذا التغيير نحو الأفضل ونحو الرقي والتطور للمجتمعات والشعوب.

 

ولذلك جميع هذه العقول الكبيرة التي ذهبتْ في العقود الماضية وهاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعمل والانجاز والتطوير، تواجه اليوم سداً منيعاً قوياً  يقف أمام استدامة سعيهم نحو العطاء والانجاز، وتصطدم بواقعٍ سياسي جديد وعقيم منذ يناير 2025 لا يؤمن إلا بالرأي الواحد، ولا يدعم إلا الفكر الواحد، ولا ينفذ إلا سياسة الرجل الأوحد الجالس في البيت الأبيض، فيُحبط هذا الواقع السياسي الغريب والشاذ كل أبحاثهم ودراساتهم المستقلة، ويضع أمامهم العراقيل، ويمارس عليهم كافة أنواع الضغوط المادية، والسياسية، والأمنية التي تقف حجر عثرة أمام شغفهم وحبهم نحو التقدم والرقي بالبشرية جمعاء. كما يعيشون الآن في بيئة مريضة مُعدية قد تنقل إلي عقولهم ونفوسهم الأوبئة الفكرية المتأخرة والرجعية، وتقتل جهودهم، وتجمد فكرهم وآراءهم، ولذلك كان لا بد اضطراراً وليس رغبة وطواعية الخروج من هذه البيئة السقيمة الملوثة، والبحث عن بديل ومن جديد عن بيئة صحية سليمة، تُعيد إليهم نشاطهم، وتشجعهم على إنجاز برامجهم البحثية والعلمية.

 

ومن أجل الإعلان والتحذير من هذه الحالة المأساوية للعلم والعلماء والبحث العلمي المستقل والموضوعي، وبيان التهديدات التي تواجه العلم في الولايات المتحدة بشكل عام، فقد قام أكثر من 2000 من أفضل علماء أمريكا من الأكاديميات القومية للعلوم والهندسة والطب بنشر خطاب عام في وسائل الإعلام في مارس 2025، وحذروا فيه قائلين: " بأننا نُرسل هذا الخطاب للتحذير بشكلٍ واضح بأنه يتم تدمير المشاريع العلمية للأمة"، أي أن هؤلاء العلماء الكبار يعلنون بأن العلم في أمريكا في خطر عقيم، وأن لهذا الوضع تداعيات شاملة على المستوى الدولي برمته.

 

وقد نُشر بحث في 29 أبريل 2025 في مجلة "الطبيعة"(Nature) المعروفة دولياً تحت عنوان: "هل سينجو العلم في الولايات المتحدة في عهد ترمب الثاني"، حيث عرض البحث تلخيصاً واضحاً لأهم عوامل استياء العلماء وهروبهم من أمريكا التي كانت يوماً ما بلد جذب واستقطاب لهم. فمن الأسباب أولاً تهميش وإلغاء الكثير من الوكالات العلمية والبحثية التابعة للحكومة الاتحادية تحت مبرر ترشيد النفقات، وثانياً الغاء بعض البرامج البحثية التي توظف الآلاف من أهل الخبرة والعلم في كل المجالات العلمية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وثالثاً وقف المنح الاتحادية لإجراء الدراسات والبحوث في بعض المجالات في الجامعات ومراكز الأبحاث، إضافة إلى قطع المساعدات المالية عن الجامعات، منها الغاء منحة مالية قدرها 2.2 بليون دولار لجامعة هارفرد الأعرق والأقدم على المستوى الدولي. ورابعاً سيكون هناك خفض ملموس في الميزانية العامة على الأبحاث والجامعات والاستثمار في المجالات العلمية، إضافة إلى تقليل البرامج العلمية في الهيئات والوكالات الاتحادية، مثل ناسا، والمعاهد القومية للصحة. وخامساً وأخيراً فقد تم تقييد وتسييس حرية الرأي والتعبير والبحث العلمي في الجامعات ومراكز البحوث والمعاهد العلمية، وإرهاب أعضاء هيئة التدريس والطلبة على حدٍ سواء، إما بتهديدهم بالفصل من وظائفهم، أو الغاء تأشيراتهم، أو طردهم من أمريكا إذا لم يلتزموا بسياسة ترمب ومواقفه المتعلقة بمعاداة السامية والقضية الفلسطينية. 

 

وقد قرأتْ القارة الأوروبية العجوز هذا الواقع المريض الذي يعيش فيه العلماء في أمريكا، ودرست عن كثب معاناتهم الأليمة والصعوبات المالية والسياسية التي نزلت عليهم لإجراء الأبحاث العلمية الموضوعية والمستقلة. ولذلك استغلت أوروبا، وعلى رأسهم فرنسا حالة الفوضى السياسية وخفض الدعم المالي في عهد ترمب، كما تبنت حاجة العلماء والمفكرين والأطباء للعمل في بيئة ناضجة، وتوفير تربة خصبة تساعدهم على زرع محاصيلهم وجني ثمراتهم. فهذه فرصة لا تعوض لاستقطاب العلماء والباحثين وتنمية وتعميق البحث العلمي في القارة الأوروبية بعد سنوات عجاف، وتأخر مشهود في الإنجازات والاختراعات في كافة مجالات الحياة، لكي تتصدر المشهد العلمي بعد أن كانت الريادة والقوة العلمية والتقنية منذ الحرب العالمية الثانية للولايات المتحدة الأمريكية.

 

وقد نظمت المفوضة الأوروبية العديد من المؤتمرات، وورش العمل، والندوات لإبراز قدرة وامكانيات القارة الأوروبية من جميع النواحي المالية، والسياسية، والاجتماعية، والتقنية على جذب هؤلاء العلماء الهاربين من بطش ترمب السياسي والمالي، وتسييس البحث العلمي وحرية الرأي والتعبير، منها المؤتمر الترويجي الذي عقد في الخامس من مايو 2025 في العاصمة الفرنسية باريس في جامعة السوربون العريقة تحت شعار " اختر أوروبا من أجل العلم". أما من الناحية المادية فقد أعلنت المفوضية الأوروبية عن تمويل سخي بمبلغ 500 مليون يورو للفترة من 2025 إلى 2027 لجذب واستقطاب الكفاءات المتميزة والعالية للتخلص من توجيهات ترمب وإملاءاته السياسية المتحيزة والأحادية. وعلاوة على تخصيص هذا المبلغ من الاتحاد الأوروبي فقد أعلن الرئيس الفرنسي عن تخصيص حكومة بلاده 100 مليون دولار إضافية لتشجيع وتحفيز العقول العلمية الهاربة من أمريكا لنقل أبحاثهم ودراساتهم إلى فرنسا.

 

والآن هل ستقوم الدول العربية، وبخاصة دول الخليج بما تقوم به أوروبا في استغلال هذه الفرصة النادرة وتشجيع الهجرة العكسية إلى بلادنا من خلال استقطاب الكفاءات العلمية النادرة والمتفوقة والمتميزة، وتشجيعهم للعمل في بلادنا وتطوير وتنمية الباحثين والبحث العلمي؟

 

الأحد، 4 مايو 2025

من يسيطر على ثرواتنا الأرضية المشتركة؟

 

من الناحية النظرية هناك "الأمم المتحدة" بمنظماتها التخصصية المتنوعة والمختلفة، حيث إنها من المفروض أن تسعى لتحقيق أهداف دولية عامة ومشتركة تخص كل دول العالم قاطبة، كما أنها من الناحية القانونية عليها أن تعمل على التصدي للقضايا الدولية المشتركة التي تهم كل دول العالم، ويتضرر، أو يستفيد منها الجميع، سواء أكانت سياسية، أو أمنية، أو اقتصادية، أو بيئية، أو اجتماعية، أو صحية. فكل منظمة أممية لها اختصاصاتها ومهماتها الدولية، فهناك منظمات لحماية البحار الدولية التي لا تقع تحت سيادة أية دولة، أي أنها تُعتبر موارد وثروات عامة مشتركة تنتفع منها جميع الدول، الفقيرة والغنية، المتنفذة والمستضعفة، المتقدمة والمتأخرة، وهناك منظمات لحماية بيئة الفضاء فوق الكرة الأرضية، إضافة إلى الكواكب والأجسام السماوية الأخرى.

 

ولكن الواقع مختلف جداً دائماً، والأحداث الدولية التي نشهدها أمامنا تؤكد أننا لا نعيش في عالم مثالي جميل يتم فيه العدل والمساواة بين الأمم والشعوب، فيساوي بينها في الحقوق والمنافع والمصالح المشتركة. فما نراه ونعيشه من تعديات من الدول الصناعية المتقدمة والمتنفذة على حرمات بيئاتنا المشتركة والعامة يتناقض مع أهداف وواجبات هذه المنظمات في الكثير من الحالات، فالنظريات في واد والواقع في واد آخر. فالقوي هو الذي يهيمن ويدير الثروات والخيرات المشتركة العامة بأسلوب يصب مباشرة في مصلحته، دون أي اعتبار لمصالح الدول النامية والفقيرة التي لا حول لها ولا قوة، ولا كلمة مسموعة لها على الساحة الدولية، والمتنفذ من الدول هو الذي ينال حصة الأسد من هذه الموارد الطبيعية والخيرات الأرضية العامة، وما تبقى من فتات منها يوزع كصدقات ومِنَّة على الدول الضعيفة.

 

وأُقدم لكم مثالاً واقعياً حيوياً يقف أمامنا اليوم، ويثبت لنا هذه الحقيقة المرَّة التي نعيشها في هذا العالم غير العادل، وغير المتزن، الذي يسير على نهجٍ غير حضاري، وغير إنساني، فالقوي يلتهم الضعيف ويتعدى عليه، والمتنفذ يخالف الأنظمة والقوانين الدولية دون حسيب، أو رقيب، أو خوف من العقاب والتبعات القانونية الدولية.

 

فهناك في أعماق المحيطات المظلمة والشديدة البرودة والتي تقع خارج الحدود الجغرافية لجميع الدول، ولا تخضع لسلطة وسيادة أي دولة، توجد ثروات ضخمة لا حدود لها، وتجثم في تربة قاع هذه المحيطات خيرات كبيرة يحتاج إليها الإنسان بسرعة في هذه المرحلة التي تتجه نحو الاقتصاد الدائري، وتعتمد على مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، بدلاً من الوقود الأحفوري الناضب وغير المتجدد والملوث للبيئة، والمسبب لظاهرة التغير المناخي. فبطارية السيارات الكهربائية تحتاج إلى عناصر أرضية نادرة، وطاقة الرياح والطاقة الشمسية وغيرهما يحتاجون إلى هذه العناصر الموجودة في قاع المحيطات. ولذلك هناك سباق طويل محتدم وقوي وشرس بين الدول الصناعية المتقدمة، وهناك تنافس شديد على السيطرة على منابع ومصادر هذه العناصر الموجودة في مواقع مشتركة في قاع المحيطات، والسعي نحو تحقيق المرتبة الأولى في السباق، واحتكار جميع الصناعات القائمة عليها، سواء أكانت لأهداف مدنية أو عسكرية، دون إعطاء أي اعتبار للدول النامية التي من المفروض أن تكون لها حصة من هذه الثروات المشتركة.

 

ومن الدول المتقدمة التي لها تاريخ أسود طويل في احتلال واستغلال مصادر ثروات الشعوب الخاصة، ومصادر وخيرات الأرض المشتركة العامة هي الولايات المتحدة الأمريكية. وينكشف هذا جلياً اليوم في استباحة الولايات المتحدة لحرمات البيئة القاعية المشتركة في المحيطات من أجل استخراج مواردها من مختلف أنواع العناصر المطلوبة صناعياً، ليس فقط في المواقع التي تقع ضمن سيادتها وسيطرتها، وإنما في المواقع العامة المشتركة الأخرى الواقعة خارج حدود أمريكا. ومن أجل إعطاء الضوء الأخضر للبدء رسمياً في عملية التنقيب في قاع البحر عن المعادن في جميع مناطق محيطات الكرة الأرضية حتى دون الحصول على رخص دولية رسمية معتمدة من وكالات الأمم المتحدة المعنية، ومن أجل التسريع في هذه الإجراءات للحاق بالصين المنافس الرئيس لأمريكا، فقد وقَّع ترمب على أمرٍ تنفيذي في 15 أبريل 2025 بشأن استخراج المعادن من تربة قاع المحيطات، كما وجه هذا الأمر التنفيذي كافة الأجهزة الحكومية الاتحادية، كوزارة الداخلية للاستعجال في تقديم الرخص اللازمة للبدء في العمليات.

 

فمثل هذا الأمر التنفيذي الرئاسي الأمريكي يخالف القوانين الدولية الخاصة بتقديم التراخيص للسماح في عملية استخراج هذه المعادن الموجودة في مواقع مشتركة في المياه الدولية في المحيطات، فهناك سلطة ومعاهدة دولية تحت مظلة الأمم المتحدة تحت مسمى: "السلطة الدولية لقاع البحر"(International Seabed Authority)، وهي مختصة بإدارة الثروات والخيرات العامة المشتركة لكل سكان الكرة الأرضية. ولكن هذه السلطة ومنذ تكوينها منذ أكثر من عشر سنوات لم تُجمع على قانون ومعايير دولية تقنن وتنظم عمليات الاستكشاف، والاستخراج، وتوزيع هذه الثروة من المعادن الصناعية، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تعترف بهذه المنظمة الدولية والمنظمات الدولية الأخرى عامة، فهي ليست عضو في هذه السلطة، كما هي ليست عضو في قانون البحار لعام 1982 الذي أنشأ هذه السلطة. 

 

والولايات المتحدة الأمريكية ستكون في المستقبل في المقدمة بالنسبة لاستخراج المعادن من أعماق المحيطات، حيث إنها زادت من مساحتها المتعلقة بالجرف القاري أكثر من مليون كيلومتر مربع، وبدون رخصة أو إذن من أحد. فقد أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في 19 ديسمبر 2023 في المنشور الصادر تحت عنوان: "إعلان عن الحدود الخارجية الممتدة للجرف القاري للولايات المتحدة"، عن الحدود الخارجية للجرف القاري للولايات المتحدة في مناطق تتجاوز 200 ميل بحري من الساحل، ويُطلق عليها "الجرف القاري الممتد"  (Extended Continental Shelf) . وهذه المساحة اللامتناهية التي ضمتها أمريكا إلى مساحتها تُقدر بنحو مليون كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة ولاياتها الكبيرة كولاية كاليفورنيا وتكساس. وتحتوي هذه المساحة العظيمة التي تطالب بها أمريكا والواقعة في القطب الشمالي وبحر برنج (Bering Sea)على ثروات بحرية فطرية كسرطان البحر، والشعاب المرجانية، إضافة إلى النفط والغاز، والموارد والثروات المعدنية التي هي أساس النجاح والتفوق في الثورة الصناعية في مجال مصادر الطاقة النظيفة المتجددة. وقد أَكدتْ على هذه الحقيقة وكالة "بلومبيرج" في 23 ديسمبر 2023 عن حصة الأسد التي تطالب بها أمريكا من خيرات قاع المحيطات والموارد المخزنة للبشرية جمعاء، حيث ورد هذا في المقال تحت عنوان: "الولايات المتحدة تطالب بجزء كبير من قاع البحر وسط دفعة استراتيجية للموارد". وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة أخذت أيضاً مساحات إضافية في مناطق أخرى في المحيط الأطلسي وخليج مكسيكو تحت مبرر وحجة الجرف القاري.

 

ولذلك فالقوة والنفوذ والهيمنة العسكرية والسياسية هي التي تجعل أية دولة تتحكم في ثروات وخيرات الأرض والفضاء العامة والمشتركة، وهي التي تهيمن عليها وتحتكرها، وتستأثر بها، وتتحكم فيها، وتوجهها لمصالحها القومية، والولايات المتحدة اليوم هي التي تتميز بكل هذه الصفات، فلديها مساحة جغرافية عظيمة وواسعة جداً، وقوة عسكرية هائلة وفتاكة، ونفوذ سياسي قوي لا منافس له.