أبدأ معكم بقصة نجاح
للجهود الدولية المشتركة في المجال البيئي لكي أرفَع من معنوياتكم، وأُعمق من
إيمانكم ومعتقداتكم بأنه عندما تصح النوايا، ويتوافر القرار السياسي، وتوجد
الإرادة للحكومات للتنفيذ، وعند توافق والتقاء المصالح بين الدول، فإن العمل
البيئي الدولي المشترك ينجح ويؤتي أكله طيبة ثرية للجميع، ويحقق أهدافه في حماية
بيئتنا، وصيانة ثرواتها ومواردها العامة والمشتركة التي تهم كل دول وشعوب العالم.
فالقصة الأولى حول نجاح
الجهود الدولية الجماعية المشتركة تتمثل في حالة الطوارئ القصوى التي أعلنها المجتمع الدولي في الثمانينيات من القرن المنصرم لإنقاذ
طبقة الأوزون فوق سطح الأرض، وبالتحديد حماية غاز الأوزون في هذه الطبقة من النضوب
التدريجي البطيء مع الزمن.
فطبقة الأوزون التي
خلقها الله سبحانه وتعالى بقدرٍ واتزان وهي جزء من طبقة الاستراتسفير العليا تحتوي
على غاز الأوزون السام والخطر، ولكن هذا الغاز السام أودعه الخالق ووضعه في بيئة
يتراوح ارتفاعها بين 15 إلى 30 كيلومتراً فوق سطح الأرض، فلا يتعرض لها الإنسان،
ولا تتعرض لها الحياة الفطرية بشقيها النباتي والحيواني، فيؤدي هذا الغاز السام
وظيفة وجودية للحياة على وجه الأرض، حيث يمتص هذا الغاز الجزء الأشد خطورة من
الأشعة فوق البنفسجية التي تنبعث من الشمس ومن أعالي الفضاء السحيق، فيمنع وصولها
على الأرض. ولذلك فإن هذا الغاز يلعب دور المظلة الواقية التي تحمي الأرض ومن
عليها من كائنات حية من هذه الأشعة القاتلة، والمسببة للأمراض المزمنة المستعصية
على العلاج، مثل السرطان.
ولكن الإنسان بسبب
جهله، وقلة علمه، وضعف خبرته، قام بالسماح بمجموعة من المواد الكيميائية غير
الخطرة وغير السامة للبشر التي صنعها بيديه بالانبعاث والدخول في الهواء الجوي،
ويُطلق عليها بالفريون، أو غازات الفلوروكلوروكربون، المستخدمة في تطبيقات ومنتجات
لا تعد ولا تحصى في حياتنا اليومية، كغاز تبريد في الثلاجات والمكيفات والبخاخات
وغيرها الكثير.
فهذه المواد الكيميائية
الخاملة، والمستقرة، والتي في ظاهرها صديقة للبشر والبيئة، كانت هي السبب في تحلل
غاز الأوزون في طبقة الأوزون. فهذه المواد فعلاً تتصف بمميزات وخصائص فريدة وحميدة
عندما تكون في طبقات الجو السفلى، ولكن الطامة الكبرى التي لم يعرفها الإنسان
عندما صنعها واستخدمها، أن هذه المواد تتحرك ببطء يوماً بعد يوم دون أن يحدث عليها
أي تغيير في مكوناتها، أي دون أن تتحلل، فتغزو مع الوقت طبقة الأوزون، وتمكث فيها
وتتراكم بداخلها. وهناك في تلك الطبقة العليا تقوم الأشعة فوق البنفسجية بتحليل
هذه المواد الكيميائية التي تُطلق عنصر الكلور النشط جداً الذي يهاجم غاز الأوزون،
ويحوله إلى غاز الأكسجين غير المرغوب فيه في تلك الطبقة، وغير القادر على امتصاص
الأشعة فوق البنفسجية القاتلة. مما يعني ونتيجة لذلك وصول كمية كبيرة من هذه
الأشعة إلى سطح الأرض وتعريض الإنسان والحياة الفطرية للأمراض العقيمة.
وقد اعترف المجتمع الدولي العلمي بهذه
الظاهرة المهلكة للحرث والنسل في مايو 1985، وأكد على أن أنشطة الإنسان التنموية
قد تسببت في وقوع ثقب في طبقة الأوزون فوق القطب الجنوبي، حسب المقال المنشور في
مجلة "الطبيعة" المرموقة في 14 مايو 2025، تحت عنوان: "كيف تمكن
العلم والتعاون الدولي من اغلاق ثقب الأوزون". ونتيجة للدبلوماسية البيئية
الدولية فقد وافقت بعض دول العالم أولاً على معاهدة فينا لحماية طبقة الأوزون في
مارس 1985، ثم وقعت دول العالم على برتوكول مونتريال الشهير في عام 1987، وكان
ثمرة جهودٍ دولية مشتركة تمخضت عنها هذه المعاهدة الدولية. وكان نجاح هذه المعاهدة
لا يتمثل فقط في مصادقة الدول عليها، وإنما وهو الأهم العمل على تنفيذها في
الواقع، مما أدى فعلاً إلى حدوث تغيير ايجابي في تركيز الأوزون، واستعادة الطبقة
لعافيتها وصحتها.
ولكن ليست كل المعاهدات
والاتفاقيات الدولية كُتب لها التوفيق والنجاح، فهناك اتفاقيات دولية، وعلى رأسها
المعاهدة الخاصة بالتغير المناخي، فإنها في تقديري قد أصابها الإخفاق الشديد، بل
والفشل الذريع. فالجهود مستمرة منذ أكثر من 33 عاماً، وبالتحديد منذ عام 1992 في
البرازيل، عندما وقعت الدول على اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التغير
المناخي، ومازال المجتمع الدولي فاشلاً في الاجماع على معاهدة مشتركة وملزمة
للجميع لخفض انبعاثات الغازات المتهمة بالتغير المناخي وتداعياتها الكثيرة، مثل
سخونة الأرض وارتفاع حرارتها، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حموضة يماه البحر.
فكلما اتخذ المجتمع
الدولي خطوة واحدة ناجحة إلى الأمام، وحقق بعض الانجازات، رجع إلى الوراء عشرات
الخطوات، وإلى النقطة صفر التي بدأ منها. فالخطوة الناجحة الأولى كانت في تدشين
الاتفاقية المناخية الإطارية، ثم تلتها في عام 1997، أي بعد خمس سنوات معاهدة
عُرفت ببروتوكول كيوتو، حيث تعهدت الدول الصناعية المتقدمة الكبرى بخفض انبعاثاتها
من الغازات الملوثة للبيئة والمؤدية إلى وقوع التغير المناخي. ولكن بعدها جاءت
خطوات الإخفاق والفشل في التزام الدول العظمى بتعهداتها، حيث ضربت معظمها هذا
البروتوكول عرض الحائط ولم تلتزم به، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية الملوث
الأول للبيئة، والمسؤول الأول عن التغير المناخي، والتي انسحبت كلياً من البروتوكول
في عام 2001 في عهد الرئيس جورج بوش الإبن. وبعد مفاوضات ماراثونية عقيمة استغرقت
أكثر من 18 عاماً بين دول العالم، وافقت الدول في باريس 2015 وبمشاركة الرئيس
الأمريكي أوباما على معاهدة مناخية طوعية خجولة لا ترقى إلى الطموحات العلمية وإلى
عظمة وحجم الحدث، وهو الارتفاع المطرد في درجة حرارة كوكبنا ومستوى سطح البحار.
وبالرغم من ذلك، فقد فشلت المعاهدة ولم تر النور فترة طويلة من الزمن، حيث انسحب
منها ترمب في ولايته الأولى، فجاء بايدن وأعلن انضمامه إليها، وأخيراً تولى ترمب
الحكم للمرة الثانية وأعلن انسحابه منها مرة ثانية في يناير 2025.
ففي الحالة الأولى نجحت
الجهود الدولية لعلاج ظاهرة انخفاض غاز الأوزون في طبقة لأسباب عدة، منها توافق
العلم والسياسة على أسباب الظاهرة وحلولها، وثانياً الحل كان بسيطاً ويتمثل في
اقناع شركات قليلة في التوقف التدريجي عن إنتاج المواد المستنفدة لطبقة الأوزون،
وهي قليلة جداً، وثالثاً أن البدائل تم تصنيعها بسرعة وبسهولة دون عوائق فنية أو
اقتصادية.
وأما بالنسبة للتغير
المناخي فحلولها معقدة جداً ومتشابكة وصعبة، فأولاً لا يوجد توافق واجماع دولي تام
بين العلماء ورجال السياسة والصناعة على أسباب التغير المناخي والحلول المقترحة،
فهناك حتى يومنا هذا من رجال السياسة والصناعة من ينكر واقعية هذه الظاهرة ودور
الإنسان في وقوعها. وثانياً البديل الرخيص والموثوق لسبب نزول المشكلة الدولية
المناخية غير موجود وغير متاح لكل دول العالم، فالسبب الرئيس لوقوع ظاهرة التغير
المناخي هو حرق الوقود الأحفوري، من فحم، ونفط، وغاز طبيعي، ولا يوجد حتى اليوم
البديل المناسب الذي ينجح بجدارة وثقة في أن يحل محل الوقود الأحفوري في كافة
القطاعات والتطبيقات، من الطائرات، والسيارات، ومحطات توليد الكهرباء، وتشغيل
المصانع. ورابعاً وأخيراً فإن الوقود الأحفوري يعد سلعة استراتيجية للكثير من دول
العالم، فهو العمود الفقري للتنمية في الدول، وهو الركن الرئيس للاقتصاد على
المستويين القومي والعالمي، ولذلك من الصعب جداً الاستغناء عنه والتخلص منه. وهذا
يعني أن الوصول إلى معاهدة دولية مشتركة وملزمة للجميع سيكون أمراً صعب المنال في
المستقبل المنظور، وسيكون مصيره الفشل.