الثلاثاء، 26 أغسطس 2025

تطويع تعريف معاداة السامية للتغطية على الإبادة الجماعية

 

اليوم اعترف العدو قبل الصديق بأن الطامة الكبرى التي نراها في غزة يومياً، ومنذ أكثر من 23 شهراً، هي إبادة جماعية للبشر، وإبادة شاملة لكل مكونات البيئة الحية وغير الحية، وإبادة للتراث التاريخي الثقافي الدولي من كنائس أثرية ومساجد تاريخية.

فالمنظمات الأممية، مثل منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش أكدت على واقعية هذه الإبادة، كما أن منظمات حقوقية إنسانية في الكيان الصهيوني نفسه أدلت بشهادتها ولأول مرة في يوليو 2025 على أنها إبادة جماعية، كذلك صرح الكثير من علماء ومثقفي التاريخ اليهودي ورجال السياسة والحكم عن هذه الحقيقة الكارثية ومحرقة شعب غزة، مثل "عومير بارتوف" في يوليو 2025، والسياسي "يائير غولان"، ورئيس الوزراء الصهيوني السابق "أيهود أولمرت" في 29 مايو 2025. وعلاوة على ذلك، فقد دعا رئيس "الكنيست" السابق "أبراهام بورغ" في 10 أغسطس 2025 يهود العالم إلى رفع شكوى عند محكمة العدل الدولية بسبب جرائم ضد الإنسانية تقوم بها إسرائيل.

ولكن في الوقت نفسه هناك من المجرمين الصهاينة من اليهود وغير اليهود الذين يحاولون بشتى الطرق والوسائل التغطية الشرعية القانونية على هذه الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، فيحاولون الادعاء والتضليل بأن ما يحدث في غزة من عمليات عسكرية هي بسبب أن المقاومة الفلسطينية معادية للسامية، وأنها تريد القضاء على اليهود والدولة اليهودية، ولذلك ما يقوم به الكيان الصهيوني يدخل ضمن باب الدفاع عن النفس وحماية اليهود وأمن الكيان الصهيوني. ولذلك يسعون جادين وبكل الأساليب الشيطانية الماكرة على تحصين الجرائم الصهيونية، وتوفير المناعة لها، ومنعها من المحاسبة والعقاب عن طريق صياغة تعاريف جديدة لمعاداة السامية، أو تطويع التعريفات القديمة لكي تتوافق مع طرحهم الخبيث، وتتماشى مع ادعاءاتهم الضالة بأن ما يحدث في غزة ليست إبادة جماعية، وليست تطهيراً عرقياً وتصفية كاملة للشعب الفلسطيني، وبالتالي إضفاء روح الشرعية القانونية الدولية على الكارثة البشرية والبيئية والإسكانية التي يرتكبونها في غزة، إضافة إلى تحصين وتأمين الكيان الصهيوني من المحاسبة والعقاب على كافة المستويات الدولية.

وهناك في الواقع ثلاثة تعاريف لمعاداة السامية، فالأول أُعلن في 26 مايو 2016 ومن لجنة دولية متخصصة تأسست عام 1998 وأُطلق عليها "التحالف الدولي لإحياء ذكرى محرقة اليهود"(International Holocaust Remembrance Alliance)، وجاء فيه بأن "اللاسامية" أو معاداة السامية هي: "عبارة عن تصور معين لليهود قد يُعَبر عن كراهية تجاه اليهود. فتُوجه التعبيرات البلاغية والجسدية لمعاداة السامية نحو اليهود وغير اليهود وممتلكاتهم، ونحو مؤسسات المجتمع اليهودي والمرافق الدينية".

وأما التعريف الثاني لمعاداة السامية فقد صدر في القدس في 26 مارس 2021 من مجموعة من العلماء اليهود تحت مسمى: "إعلان القدس حول معاداة السامية"(Jerusalem Declaration on Antisemitism). وهذا الإعلان يُعرِّف معاداة السامية بأنها: "التمييز، أو التحيز، أو العداء، أو العنف ضد اليهود كيهود". وهذا الإعلان يحتوي على 15 بنداً استرشادياً حول تفاصيل تعريف معاداة السامية، ويُقدم توجهاً بديلاً نوعاً ما وجديداً، وهو بذلك يُعد أكثر عدلاً وتوازناً من التعريف الأول، حيث يهدف إلى التوازن والتوفيق بين محاربة معاداة السامية من جهة، وحماية حرية التعبير وحماية الحوارات الدائرة المفتوحة حول مستقبل إسرائيل وفلسطين من جهة أخرى.

وأخيراً جاء التعريف الثالث المتضمن في "وثيقة نكسيس"(Nexus Document)، والمُقدم من فريق عمل من كلية بارنارد(Barnard College) وجامعة جنوب كاليفورنيا(Nexus Task Force). وهذا التعريف يفيد بأن معاداة السامية تحتوي على: "المعتقدات والمشاعر السلبية تجاه اليهود، والسلوك العدائي الموجه ضد اليهود (لأنهم يهود)، والظروف التي تميز ضد اليهود، وتعيق بشكلٍ كبير قدرتهم على المشاركة على قدم المساواة في الحياة السياسية، أو الدينية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية". كذلك تتضمن الوثيقة بياناً بأن:" حتى الانتقادات المثيرة للجدل، أو الحادة، أو القاسية لإسرائيل بسبب سياساتها وأفعالها، بما في ذلك تلك التي أدت إلى إنشاء إسرائيل، ليست في حد ذاتها غير شرعية، أو معادية للسامية".

وأما التعريف الأكثر شيوعاً واستخداماً هو التعريف الأول الذي تبنته الكثير من الدول والمنظمات والجامعات، فهناك حتى اليوم 46 دولة حول العالم تستخدم هذا التعريف، إضافة إلى 38 ولاية أمريكية، و45 مدينة، و 50 حكومة محلية في الولايات الأمريكية. أما على المستوى الاتحادي الأمريكي، فقد ذكر ترمب هذا التعريف في الفترة الأولى من حكمه في الأمر التنفيذي حول مكافحة معاداة السامية في 11 ديسمبر 2019، حيث جاء في الفقرة الأولى تحت عنوان: السياسة. "إدارتي ملتزمة بمكافحة نمو حوادث معاداة السامية في الولايات المتحدة وحول العالم". وعلاوة على ذلك، فقد صادق الكونجرس الأمريكي ممثلاً في مجلس النواب في 6 ديسمبر 2023 على قرار ينص بأن "معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية".

وهناك نقطتان مهمتان يجب التنبه إليهما حول هذا التعريف. أولاً فإن هذا التعريف انحرف عن مساره الأصلي، وخالف الأهداف التي وُضعت من أجلها في عام 2016، حيث جاء في مقدمة التعريف بأنه يهدف إلى: "تقوية تعاون الحكومات للعمل نحو عالم بدون إبادة جماعية". أي أن روح التعريف يهدف إلى العمل الدولي الجماعي المشترك لمنع أية "محارق وإبادة جماعية" أخرى قد تُرتكب في حق أي شعب، أو عرق، أو جنس في أي مكان في العالم. ولكن الصهاينة من اليهود وغير اليهود غيروا هذا الهدف من التعريف لأنه لا يحقق مراميهم الخبيثة التوسعية والعنصرية، فعملوا عكس تيار التعريف كلياً، بل وقاموا بالقانون بتجريم كل من يبدي رأياً مخالفاً، أو ينتقد، أو من يقف أمام استمرار الإبادة الجماعية التي يرتكبونها اليوم في غزة من خلال تطويع كلمات هذا التعريف لتخدم أهدافهم الاستعمارية الدنيئة، والقضاء على الشعب الفلسطيني كلياً، وتصفيته وإبادته تماماً حتى لا يكون هناك فلسطيني يطالب بأرض أو وطن.

فكل من ينتقد ممارسات الكيان الصهيوني ممثلة في الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني فهو معادٍ للسامية، حتى ولو كان يهودياً مثل عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الديمقراطي "بارني ساندرز". وكل من ينتقد ممارسات الكيان الصهيوني في ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية فهو يكره اليهود ويعادي السامية، حتى ولو كان مسيحياً متشدداً يدافع عن الكيان الصهيوني مثل النائبة الجمهورية في الكونجرس الأمريكي "مارجوري تايلور جرين". وكل من تعاطف مع الشعب الفلسطيني في غزة فهم أيضاً معادون للسامية، حتى ولو كانوا أنفسهم من الذين نجوا من "محرقة اليهود" في ألمانيا! وعلاوة على ذلك كله، فكل دولة غربية حليفة وصديقة للصهاينة إذا أبدت نيتها للموافقة على دولة فلسطينية فهي تقف في صف حماس، وتدعم وتكافئ الإرهاب، وتعادي السامية. كما أن كل منظمة دولية، كمحكمة العدل الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية توافق على إبداء الرأي والمشورة في ما يحصل في غزة فهي تُتهم مباشرة بأنها تقف مع حماس والإرهاب وتعادي السامية. ومن المضحك والجدير ذكره أن الصهيوني ترمب نفسه أُتهم بأنه معادٍ للسامية بسبب استخدامه في خطابه في 4 يوليو 2025 لمصطلح يُشكل حساسية بالنسبة لليهود!  

وأما النقطة الثانية والمهمة جداً فإن هذا التعريف عندما وُضع في عام 2016 كان "غير ملزم قانوناً"، ولكن ما حدث بعد اعتماد التعريف بسنوات، أن الصهاينة بذلوا مجهوداً غير طبيعي، وجندوا كل الطاقات والأدوات لتحويله إلى قانون ملزم لمنظمات الأمم المتحدة وسائر دول العالم بالرغم من معارضة بعض مؤلفي التعريف، ثم تحويل القانون إلى سلاح مرعب لإرهاب كل من يجرؤ على انتقاد ممارسات الصهاينة. ومن الدول التي لها السبق والريادة بشكلٍ فاعل ومؤثر في تحويل التعريف إلى تشريع وسلاح مخيف، وسياسة عامة للدولة هي الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة في عهد ترمب في الفترة الأولى، وحالياً في الفترة الثانية. ففي الفترة الأولى أصدر أمراً تنفيذياً يتبنى فيه التعريف، واليوم يستخدم نفوذه وقوته الرئاسية ليفرض رؤيته وسياسته الموالية للصهيونية في الولايات الأمريكية أولاً، ثم سائر دول العالم ثانياً. فهو يعمل على استئصال القضية الفلسطينية من جذورها في الجامعات بشكل رئيس، حيث ربط سياسة الجامعة في قمع الأنشطة المؤيدة لفلسطين والمعادية للسامية، كما يدَّعي، بالمساعدات والمنح المالية الاتحادية التي تحصل عليها. فبدأ أولاً بفخر جامعات أمريكا في مايو 2025، وأكثرها عراقة وتقدماً فجعلها ترضخ لمطالبه، وآخرها كانت جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس في 7 أغسطس 2025، حيث جمد 584 مليون من الدعم المالي. فقام بابتزاز هذه الجامعات مالياً وقضائياً وقانونياً لإلزامها على إعطاء صفة شرعية خاصة لليهود والصهاينة في الجامعات، وتكميم الأفواه والمُعارضَة، وقمع ومحاكمة وطرد كل من يبدي أي رأي دفاعاً عن القضية الفلسطينية.

وأما على المستوى الدولي فقد حارب ترمب باسم القانون الأمريكي وتحت ذريعة معاداة السامية كل المنظمات الأممية التي لها علاقة بفضح جرائم الكيان الصهيوني، منها انسحابه لأول مرة من مجلس حقوق الإنسان في 20 يونيو 2018، والانسحاب مرة ثانية في 4 فبراير 2025 ووقْف مشاركة أمريكا في المجلس الحقوقي الأممي، إضافة إلى ممارسة ترمب سياسة التنمر سراً وعلناً والضغط الشديد على الحكومات والمنظمات للانضمام إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، ووقف جميع الإجراءات القانونية ضد الحكومة الصهيونية عامة، وضد نتنياهو بصفة خاصة. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، هدَّد المستشار القانوني لوزارة خارجية ترمب في 8 يوليو 2025 "ريد ريبينشتين"(Reed Rubinstein) جميع دول العالم في اجتماع رسمي لمحكمة الجنايات الدولية قائلاً: "نحن نتوقع أن تتوقف جميع الإجراءات ضد الولايات المتحدة وحليفتنا إسرائيل وكل التحقيقات ومذكرات الاعتقال".

فكل هذه الحصانة القانونية والدبلوماسية التي يحمي بها الغرب عامة، وأمريكا خاصة هذا الكيان الصهيوني بحجة معاداة السامية، هي التي أطلقت سراح الصهاينة لارتكاب الإبادة الجماعية الشاملة دون تردد أو خوف من أحد، وجعلتها تفلت من أي حساب، أو مسائلة، أو عقاب.

 

الخميس، 14 أغسطس 2025

يوم التحرير من الإمبريالية المناخية


من الواضح الآن بأن أي جهد دولي مشترك لعلاج أية قضية عالمية تخص كوكبنا برمته لن يكتب له النجاح والتقدم إلى الأمام إلا بعد الموافقة الكلية للولايات المتحدة الأمريكية، والتأكد من مباركتها ورغبتها الجادة واستعدادها التام لركوب القطار الدولي الجماعي المشترك، وقيامها بقيادة وإدارة هذا القطار نحو وجهتها الحزبية ومواقفها السياسية.

 

ولذلك نجد بأن قضية التغير المناخي وسخونة الأرض تراوح في مكانها منذ أكثر من 33 عاماً، وخطوات الحل والعلاج تتقدم خطوة إلى الأمام ثم ترجع خطوات واسعة على الخلف، وكل ذلك نتيجة لتذبذب سياسات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه التغير المناخي بين مدٍ وجزر، وعدم استقرار مواقفها وممارساتها نحو علاج هذه القضية، وبالتحديد بالنسبة لوضع الإجراءات اللازمة لخفض انبعاثات الغازات المسؤولة عن وقوع التغير المناخي للكرة الأرضية، وتحديد السياسات التي من شأنها خفض مصادر تلوث الهواء بغاز ثاني أكسيد الكربون المتهم الأول لرفع درجة حرارة الأرض، إضافة إلى التحول التدريجي من استخدام الوقود الأحفوري المسبب للتغير المناخي إلى مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والطاقة النووية.

 

فاليوم، في عهد الرئيس ترمب المُعادي لسياسات التغير المناخي، بل والمُنْكر لدور الإنسان في وقوع هذه الظاهرة الدولية المشتركة، فإن الجهود الدولية لعلاج هذه الظاهرة تعيش عصرها المظلم والأسود، فقد انسحب ترمب من تفاهمات باريس حول التغير المناخي لعام 2015 مرتين، ولذلك أية محاولات دولية حول التغير المناخي سيكتب لها الفشل، وبخاصة إذا علمنا بأن النسبة الأعلى من انبعاثات غازات الدفيئة والاحتباس الحراري المسببة لسخونة الأرض تنبع من أراضي أمريكا، فهي المسؤولة تاريخياً عن نزول هذه الظاهرة العقيمة على سكان الأرض.

 

وعلاوة على انسحاب ترمب من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتغير المناخي، فإنه يعمل جاهداً وبكل قوة وبسرعة شديدة على استئصال كل ما له علاقة بالتغير المناخي من جذوره من المجتمع والسياسة الأمريكية، وهدم كل ما بناه الرؤساء الآخرون من أجل مواجهة ظاهرة التغير المناخي، والعمل على إلغاء كل الأنظمة والخطوات التي اتُخذتْ من قبل لخفض حجم انبعاثات أمريكا من غاز ثاني أكسيد الكربون.

 

فقد أعلنتْ وكالة حماية البيئة في 29 يوليو 2025 وبكل فخر واعتزاز إعلاناً تاريخياً يعد وصمة عار في جبين أمريكا، وأَطلقتْ عليه " يوم التحرير"(Liberation Day)، أي يوم فك القيود عن القوانين والأنظمة المناخية والتحرر كلياً من الإمبريالية المناخية الدولية والاتحادية، ويوم "شيطنة" الأنظمة المناخية بأنها تدمر وتؤخر التنمية. فترمب يؤمن بالنظرية التي أكل عليها الدهر وشرب، ويعتقد بالفكر البالي الذي تخطاه وعفا عليه الزمن وكان سائداً أيام جهل الإنسان بدور الملوثات في تدمير صحة البيئة والإنسان معاً ووقوع المظاهر والكوارث البيئية الصحية. فترمب يعتبر بأن وضع الأنظمة وتحديد المواصفات البيئية على انبعاثات السيارات، ومحطات توليد الطاقة، والمصانع عملية مكلفة وتعيق عملية النمو الاقتصادي، وتعد حجر عثرة أمام استمرار التطور والتقدم في البلاد، فهو بهذه الثقافة القديمة ينسف سياسة التنمية المستدامة التي أجمعت عليها كل دول العالم في قمة الأرض في ريو دي جانيرو عام 1992، والتي تقف على قاعدة التوازن بين حماية البيئة والتنمية الاقتصادية، أي تحقيق التنمية البيئية والاقتصادية معاً، ولا تعارض ولا خلاف بينهما.

 

وبإعلان التحرير من الأنظمة البيئية المناخية يكسر ترمب ولا يعترف بالإجماع العلمي المناخي على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية وعلى المستوى الدولي على حدٍ سواء، ويناقض الاستنتاجات التي توصلت إليها وكالة حماية البيئة الأمريكية نفسها في عهد أوباما في عام 2009، وأُطلق عليها "نتائج الخطورة"(endangerment finding)، بناءً على التقرير تحت عنوان: "التقييم المناخي القومي"(National Climate Assessment). والاستنتاج هو أن غازات الاحتباس الحراري المسببة لسخونة الأرض، وبخاصة غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان تشكل تهديداً للصحة العامة ورفاهية الشعب لهذا الجيل والأجيال اللاحقة، حيث اعتُبر هذا الاستنتاج العلمي الأساس القانوني لوضع هذه الغازات ضمن قائمة مواصفات جودة الهواء، وبالتالي وضع الحدود المسموح بها في انبعاثات وسائل النقل ومحطات توليد الكهرباء وغيرهما. 

 

فمثل هذه الحالة التي نشهدها أمامنا تؤكد لي بأن أمريكا لم تعد دولة مؤسسات وثوابت وحقائق علمية، وإنما تحولت إلى دولة مضطربة وغير مستقرة عقلياً، فقراراتها تتغير حسب قناعات وأهواء ومزاج الرئيس نفسه. فالجميع يتذكر بأن أوباما انضم إلى تفاهمات باريس حول التغير المناخي لعام 2015، فجاء ترمب وانسحب منها، ثم في عهد بايدن انضمت أمريكا مرة ثانية إليها، فجاء ترمب وانسحب منها للمرة ثانية. كذلك بالنسبة للأنظمة البيئية المناخية، حيث وضعها أوباما في عام 2009، فجاء ترمب وألغاها كلياً وكأنها لم تكن موجودة أصلاً، وعندما جاء بايدن أعادها من جديد كما كانت في عهد أوباما، والآن ترمب ينسفها من جذورها، ويتخلص منها. فلا أنظمة ولا معايير لانبعاث الغازات المناخية من السيارات بجميع أنواعها وأحجامها، ولا قيود ولا ضوابط لانطلاق هذه الغازات من المصانع ومحطات توليد الكهرباء ومن علميات الاستكشاف عن النفط والغاز الطبيعي. وهذا يعني بأن أمريكا رجعت إلى الخلف سنوات طويلة بالنسبة لالتزاماتها القومية والدولية وتعهداتها بخفض الانبعاث للغازات المتهمة بالتغير المناخي، ومثل هذه الممارسات غير العقلانية وغير المستندة على الأدلة العلمية تنعكس سلباً على كوكب الأرض، فترتفع حرارتها وستصاب بالحمى المزمنة التي لا يمكن علاجها.

 

ولم يكتف ترمب بهذه الإجراءات، ولم يقف عند هذا الحد، وإنما اتخذ عدة قرارات من شأنها ضرب جميع الجهود الدولية والقومية لمكافحة التغير المناخي ومنع تفاقم ارتفاع درجة حرارة الأرض. فقد فتح الباب مرة ثانية على مصراعيه أمام التنقيب عن جميع أنواع الوقود الأحفوري، حتى ولو كان في منطقة المحميات الطبيعية مثل محمية ألاسكا الشهيرة، كما ألغى كافة البرامج ومراكز البحوث المتعلقة بالتغير المناخي، وأوقف عنها الدعم المالي. كذلك من أجل تغيير الرأي العام حول واقعية وتأثير التغير المناخي على الكرة الأرضية والإنسان، فقد عيَّن عدة علماء في بعض الوزارات، مثل وزارة الطاقة في 8 يوليو 2025، وذلك من أجل خلقٍ مناخ علمي جديد يختلف عن الاجماع العلمي السائد الآن، والعمل على التشكيك والتخفيف من دور الإنسان في نزول التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية الناجمة عنها.

 

فهذه المعطيات والمؤشرات المناخية السلبية التي تصدر من أمريكا تجعلني أتشاءم من نجاح اجتماع التغير المناخي رقم (30)، والذي سيعقد في نوفمبر 2025 في البرازيل، وبخاصة أن أمريكا بقوتها ونفوذها الكبيرين وتأثيرها المباشر على المناخ الدولي لن تشارك بوفد رسمي في الاجتماع، حسب ما ورد في المحطة الإخبارية "سي إن إن" في 29 يوليو 2025.

 

الخميس، 7 أغسطس 2025

الأبعاد الصحية للمخلفات المايكروبلاستيكية


بدأ العلماء اليوم سباقاً ماراثونياً جديداً لا يعرف أحد إلى أين ينتهي، ومتى سينتهي، فهو سباق لا حدود زمني ولا مكاني له، ويغطي الكرة الأرضية برمتها، ومجال هذا السباق البحثي الطويل هو التعرف عن كثب على الجوانب الصحية المتعلقة بالمخلفات البلاستيكية، أو الجسيمات البلاستيكية الدقيقة والصغيرة الحجم التي بعضها لا يرى بالعين المجردة، ولكنها تسبح وتمرح في جميع مكونات بيئتنا الحية وغير الحية وفي كل شبرٍ من أعضاء وخلايا أجسامنا.

 

 فبعد أن انتهى العلماء قبيل سنوات من السباق الأول الذي استغرق قرابة 50 عاماً، شرعوا في هذا السباق الحديث الثاني المعقد، وكثير التحديات والغموض. فأما السباق القديم الأول الذي بدأ في الستينيات من القرن المنصرم كان مجاله المخلفات البلاستيكية الكبيرة الحجم التي يرميها الإنسان ويتخلص منها في البر والبحر، أو في سلات وحاويات المخلفات والقمامة المنزلية، أو مع مياه المجاري. وهذا النوع من المخلفات لا يمكن أن يختفي عندما يدخل في عناصر بيئتنا، من هواءٍ، وماءٍ، وتربة، فهي تكشف عن نفسها بوضوح وتبدو جلية مشهودة أمام أعين الناس. فهذه المخلفات، المتمثلة في الأكياس البلاستيكية نراها تطير في الهواء الجوي حرة طليقة، وبعضها نجدها معلقة في أغصان الأشجار، وكأنها قناديل تزين بها الأشجار، كما نرى البعض الآخر في الشوارع وفي الطرقات، كما نراها في البيئات الصحراوية والبحرية، فتسبب تلوثاً وتشوهاً جمالياً لهذه البيئات الفطرية الطبيعية الجميلة، وتعكر صفاء ونقاوة منظرها.

 

وهذا النوع من المخلفات كوَّن ظاهرة بحرية فريدة من نوعها، وغريبة جداً لم يشهدها الإنسان من قبل، وهي تجمعها وتراكمها بأحجام ضخمة جداً في بعض المناطق البحرية، وبخاصة في المحيط الهادئ، حيث تشكلت مقبرة جماعية واسعة جداً، وتحتوي على الملايين من كل ما يمكن أن يخطر ببالك أو لا يخطر ببالك من أنواع المخلفات البلاستيكية الكبيرة والصغيرة الحجم. واليوم أصبحت هذه المقبرة دائمة، تدور فيها المخلفات إلى الأبد بفعل التيارات والموجات البحرية في دائرة مغلقة لا تخرج منها، وكأنها دخلت سجناً عظيماً لا تستطيع الهروب منه. وهذه المساحة العظيمة التي تَجَمَّعَ فيها المخلفات في المحيط الهادئ أُطلقُ عليها "المدفن البحري"، ويُطلق عليها العلماء عادةً ببقعة القمامة العظيمة(Great Pacific Garbage Patch)، حتى أن مساحته الآن وصلت إلى قرابة 700 ألف كيلومتر مربع وبعمق قرابة عشرة أمتار تحت سطح المحيط، أي أكبر من مساحة البحرين بنحو 970 مرة، ويحمل في بطنه أكثر من خمسة ملايين طنٍ من كل أنواع المخلفات الطافية فوق سطح البحر، أو في عمود الماء، ومعظمها مخلفات بلاستيكية. كما أن هذا المدفن البحري الكبير تم اكتشاف ما يقارب له في المساحة والحجم في المحيط الأطلسي بين برمودا وجزر أزورس البرتغالية حسب نتائج الدراسة المنشورة في 8 مايو 2012 في مجلة بريطانية هي "رسائل علم الأحياء".

 

ومع الأيام اكتشف العلماء أن هذه المخلفات بمختلف أنواعها وأشكالها وأحجامها قد تدخل في أجسام الكائنات الفطرية مباشرة في البحر، والبر، حيث تعتبرها هذه الأحياء مواد غذائية، فتلتقمها وتبلعها وتسبب لها مشكلات صحية حادة، مثل انسداد الجهاز الهضمي الذي يؤدي إلى نفوقها. كما كشفت الدراسة عن حقيقة جديدة حول سلوك هذه المخلفات، حيث أفادت أن المخلفات البلاستيكية الكبيرة والصغيرة الحجم تعمل كالإسفنج على امتصاص المواد الكيميائية السامة التي تُصرف في البيئة البحرية، وبخاصة المركبات العضوية الثابتة والمستقرة، فتتراكم هذه السموم مع الزمن في هذه المخلفات ويزيد تركيزها، وعندما تتغذى عليها الأسماك، ثم الإنسان، تَكُون قد وصلت إلى تركيزٍ عالٍ قد يهدد صحة وسلامة الكائنات البحرية والإنسان على حدٍ سواء. وفي الوقت نفسه تعمل هذه المخلفات كمستعمرات تنمو وتتكاثر عليها الكائنات الحية المجرية من فيروسات، وبكتيريا، وغيرهما، وتنتقل من موقع إلى آخر مع الوقت. 

 

وأثناء السباق الماراثوني الأول اكتشف العلماء ظاهرة وحقيقة أخرى جديدة متعلقة بمصير هذه المخلفات البلاستيكية الكبيرة وكيفية تصرفها عندما تدخل في مكونات البيئة، والتحولات التي تطرأ عليها مع الزمن. فقد تبين للعلماء أن هذه المخلفات البلاستيكية الكبيرة الحجم لا تبقى على حالها من حيث الحجم، وإنما وبفعل الظروف المناخية من ضوء، وحرارة، ورياح وتيارات وأمواج بحرية، وكائنات دقيقة، تبدأ في التفتت، والتكسر، والتحول إلى أجزاء أصغر فأصغر حتى تبلغ حجم الجسيمات غير المرئية كالمساحيق، حيث نُشر أول بحث يصف هذه الحالة والظاهرة في عام 2004، وتم اكتشاف جسيمات دقيقة قطرها 20 ميكرومتراً في الكائنات البحرية العالقة في عمود الماء، وأُطلقَ عليها بالجسيمات "الميكروبلاستيكية". وهذا البحث مهَّد الطريق أمام العلماء، وفتح لهم باباً واسعاً لا يمكن غلقه، وهو باب وجود الجسيمات الميكروبلاستيكية في مكونات البيئة الحية وغير الحية، علاوة على أعضاء وخلايا جسم الإنسان. فمع البحث الميداني وازدياد أعداد الأبحاث تم وضع تعريف للجسيمات الميكروبلاستيكية(جزء من المليون)، وهي أن يكون قطرها يساوي أو أقل من 5 مليمترات، أو أصغر من حجم شعر الإنسان، إضافة إلى النانوبلاستيك، أو جزء من البليون. كما أنه تم تحديد مصادر هذه الجسيمات المتناهية في الصغر، فمنها مصادر أولية كالميكروبيدز(microbeads) التي تُضاف إلى منتجات الزينة والتبرج ومعجون الأسنان والدهان وغيرها. كما أن هناك المصادر الثانوية مثل انبعاث الجسيمات البلاستيكية من إطارات السيارات أثناء احتكاكها بالشارع، والعبوات البلاستيكية، والملابس أو الألياف الميكروبلاستيكية التي تتسرب من الأقمشة أثناء الغسيل، ومنها أيضاً ما ينتج عن تكسير وتفتت المخلفات البلاستيكية الكبيرة في مكونات البيئة بالعمليات الحيوية، والكيميائية، والطبيعية كأشعة الشمس، والضوء، والتيارات والموجات البحرية. كذلك فإن الإنسان يتعرض لكل هذه المصادر من الملوثات الميكروبلاستيكية إما مباشرة عن طريق الهواء بالتنفس، أو الامتصاص الجلدي، أو عن طرق غير مباشرة من خلال أكل وشرب مواد غذائية تحتوي عليها.

 

واليوم ونحن في نهاية السباق الماراثوني الأول نؤكد على حقيقة علمية يُجمع عليها العلماء، وهي أن هذه المخلفات الميكروبلاستيكية المجهرية موجودة في كل شبرٍ من بيئتنا، مهما كانت صغيرة أو نائية وبعيدة، فقد تم اكتشافها في تربة المدن الحضرية والزراعية، وفي الهواء الجوي، وفي مياه الشرب، وفي أعالي الجبال الشاهقة، وفي أعماق المحيطات السحيقة الباردة والمظلمة على بعد 10 كيلومترات تحت سطح البحر، وفي ثلوج ومياه القطبين الشمالي والجنوبي، إضافة إلى الحياة الفطرية النباتية والحيوانية. وعلاوة على ذلك، وما يدق ناقوس الخطر هو اكتشاف هذه المخلفات الميكروبلاستيكية في أعضاء جسم الإنسان، فهي موجودة في اللعاب، والرئة، والكبد، والكلية، وأنسجة القلب، وفي الحيوانات المنوية، وفي الخصية، وفي المشيمة، أي أنها تخطت وكسرت الحاجز الفاصل بين الدم والخلايا، فانتقلت مباشرة إلى خلايا الإنسان، وبدأت تتراكم فيها ويرتفع تركيزها مع الزمن.

 

فهذا الاكتشاف الأخير بدأ الآن سباقاً ماراثونياً جديداً ثانياً يُشارك فيه عشرات الآلاف من العلماء والأطباء حول العالم، ويهدف إلى الوصول إلى نهاية خط السباق بالإجابة عن السؤالين التالين: ما هي التأثيرات على الصحة العامة من وجود المخلفات الميكروبلاستيكية في أعضاء وخلايا جسم الإنسان؟ وما هي الأمراض التي ستسببها مع الزمن؟

 

ومن أجل الإجابة عن هذين السؤالين نُشرت دراسة في 18 ديسمبر 2024 تحت عنوان: "تأثير التعرض للميكروبلاستيك على الجهاز الهضمي، والتناسلي، والتنفسي: حصر منهجي للدراسات السابقة"، والمنشورة في مجلة "علوم البيئة والتقنية" (Environmental Science and Technology). فقد قامت هذه الدراسة بحصر جميع الدراسات المنشورة في الفترة من يوليو 2022 إلى أبريل 2024 حول علاقة وجود الميكروبلاستيك في أعضاء الإنسان بالصحة العامة والأسقام التي قد يصاب بها. أما الاستنتاج العام لهذه الدراسة الشاملة هو عدم وصول العلماء إلى إجماع حول التأثيرات الصحية للميكروبلاستيك، أو الأمراض التي يتعرض لها الإنسان، أي أن هناك في هذه المرحلة من السباق الماراثوني "شكوكاً وشبهات" تدور حول أضرار الميكروبلاستيك على الجهاز التناسلي، والهضمي، والتنفسي، مع وجود "احتمال" لارتباط وجودها بسرطان القولون والرئة من غير المدخنين الذين انتشرا في المجتمعات البشرية في السنوات الأخيرة بنسبٍ مرتفعة غريبة بين الذين تقل أعمارهم عن 55 عاماً، والمتهم الوحيد حتى الآن هو الميكروبلاستيك، ولكن المتهم بريء حتى تُثبت إدانته.

 

فنحن الآن نقف أمام تحدٍ جديد، ولغز محير ومعقد سيحاول العلماء فك رموزه، واكتشاف أسراره، فوجود كل هذه المخلفات الميكروبلاستيكية والنانوبلاستيكية في بيئتنا كلها، وفي أعضاء الكائنات الفطرية الحية، وفي الإنسان، لا بد وأن يكون له تداعيات صحية خطيرة، ويسبب أمراضاً مزمنة للإنسان، وسنعرف الإجابة في نهاية السباق الشاق والطويل، فمتى ستكون النهاية؟