الجمعة، 26 سبتمبر 2025

الاعتدال البيئي


بعض الجماعات والمنظمات البيئية الدولية مثل منظمة السلام الأخضر تتبنى أهدافاً بيئية نبيلة، وغاياتها سليمة وبناءه تتمثل في حماية البيئة وثرواتها الفطرية الحية وغير الحية، والكشف عن التهديدات التي تلحق بالبيئة والأضرار تنزل عليها من ممارسات الشركات والحكومات، كما تسعى في الوقت نفسه إلى رفع وتعميق الوعي البيئي العام لدى الشعوب بالقضايا البيئية المحلية، والإقليمية، والدولية، مثل قضايا التغير المناخي، والصيد السمكي الجائر وصيد الحيتان، والقضايا النووية، وهندسة الجينات، وغيرها من القضايا الحيوية الهامة.

 

ولكن في بعض الحالات نجد أن هذه المنظمة تنحرف فتُخطئ في الوسيلة المستخدمة لتحقيق هذه الأهداف، وتنجرف عن سياساتها السلمية في تحقيق مآربها البيئية، فتلجأ إلى العنف والقيام بأعمال استفزازية تُشكل نوعاً من زعزعة الأمن والاستقرار، أو تقوم بممارسات تخريبية للمرافق العامة والخاصة. وكأنهم في مثل هذه الحالات يطبقون المقولة بأن "الغاية تبرر الوسيلة"، أي أن الغاية والهدف النهائي أصبح عندهم يبرر استخدام أية وسيلة، وأية أداة لتحقيقه، حتى ولو كانت عنيفة، وغير ملائمة، وتتنافى مع الأخلاق والآداب العامة، ومبادئ وسياسات الدولة.

 

وهذا أُطلق عليه بسياسة التطرف البيئي، أو استراتيجية التشدد والتنطع في الأعمال والممارسات وتحقيق الأهداف والغايات البيئية. ومثل هذه السياسة المتطرفة والمتشددة تتنافى مع سياسة الإسلام، وتختلف مع المبادئ والقيم الإسلامية، ومنهجية ديننا الرباني الذي يقوم على سياسة الاعتدال والوسطية في كل شؤون المسلم، سواء أكانت شؤون الدين كالشعائر التعبدية والمعتقدات، أو شؤون الدنيا كالمعاملات والسلوكيات بجميع أنواعها. فالشعار الذي يرفعه المسلم في كل شؤون وأمور حياته هو الاعتدال والوسطية، والوسطية البيئية والاعتدال هو أحد أنواع هذه السياسية التي يتخلق بها المسلم. 

 

وهذه السياسة البيئية المعتدلة هي التي توصل إليها الإنسان بعد تجارب وخبرات شاقة ومضنية وطويلة مع البيئة ومواردها الحية وغير الحية، ذهب ضحيتها الإنسان أولاً ثم الحياة الفطرية النباتية والحيوانية ثانياً، وأخيراً الموارد البيئية غير الحية كالماء والهواء والتربة، وأَطلقَ عليها الآن "التنمية المستدامة"، وهي في الحقيقة منهجية الإسلام في التعامل مع أمور الدنيا وشؤونها.

 

ففي السنوات الأولى من الثورة الصناعية الأولى ثم الثانية تبنى الإنسان قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة"، فكان هدفه الرئيس هو النمو والإنتاج الكبير والسريع مهما كانت الوسيلة المستخدمة، ومهما كانت النتيجة وما يتمخض عنها من مفاسد عامة على الإنسان، وأضرار عقيمة على مكونات البيئة، وكانت الغاية الكبرى والعظمى للمجتمعات البشرية هي الازدهار والنمو الاقتصادي، وجني المال السريع ولو كان على حساب سلامة البيئة وأمنها وصحة الإنسان. ولذلك تطرف وغالى في ممارساته وأنشطته التنموية، وأَطْلقَ بدون ضوابط أو قيود جميع أنواع الملوثات إلى الهواء الجوي بأحجامٍ مهولة لم يسبق لها مثيلاً في التاريخ، وصرف خليطاً من كافة أنواع السموم إلى المسطحات المائية السطحية والجوفية، وأنتج مخلفات صلبة وغير صلبة خطرة ومشعة بكميات غطت مساحات شاسعة من الأرض وداخل بطن الأرض. وهذا السلوك البيئي المتشدد والمتطرف كان له رد فعل مضاد وقوي، ومردودات شديدة أوقعت كوارث وضحايا بشرية، وأنزلت على كوكبنا ظواهر بيئية خطيرة شملت كل شبر من كوكبنا مثل المطر الحمضي والأسود، والتغير المناخي، وتدهور غاز الأوزون في طبقة الأوزون، والإثراء الغذائي، وظاهرة البحيرات الحمراء، وظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي، والتدهور الشديد وعلى نطاق واسع للتنوع الإحيائي وانقراض الأحياء النباتية والحيوانية، إضافة على ظاهرة التلوث في أعالي السماء وفي الفضاء على ارتفاع آلاف الكيلومترات فوق سطح الأرض.

 

فمثل هذه الممارسات المتطرفة من الإنسان والتي أُطلقُ عليها الإرهاب البشري الشامل لكوكبنا كَونَّتْ ردة فعل طبيعية قوية، وممارسات أخرى متطرفة ومضادة أيضاً من بعض الأفراد والمنظمات البيئية المتشددة في أسلوب منعها لهذا الإرهاب والأدوات المستخدمة في ايقافها. ولذلك اضطر الإنسان عامة إلى مراجعة ممارساته وسلوكه وبرامجه التنموية المتطرفة والمعوقة، وتغيير منهجيته وسياساته، وتصحيح المسار المنحرف الذي مشى عليه عقوداً طويلة من الزمن ليسلك طريقاً معتدلاً ووسطياً، فلا إفراط ولا تفريط، ولا تشدد ولا تنطع ولا غلو، وإنما أخذ جميع احتياجات الإنسان والمجتمع في الاعتبار، وليس فقط الجانب التنموي والاقتصادي وتحقيق الثروة المالية الطائلة.    

 

ولذلك تم طرح المنهج الوسطي، وتبني السياسة المعتدلة التي تأخذ في الاعتبار وتهتم بجميع أبعاد وجوانب التنمية، بحيث لا يؤثر أحدهما على الآخر، ولا يفسد أحدهما صحة الآخر، ولا يتعدى أحدهما على حدود الآخر، ولا يضر أحدهما بالآخر، فيعيش الجميع في أمن وأمان وسلامة واستقرار، فتستديم العملية التنموية على المستوى القومي وعلى المستوى الدولي.

 

فكل عمل تنموي يقوم به الإنسان يجب أن يتصف بالاعتدال، أي يهدف إلى التنمية الاقتصادية دون أن يضحي بالجانب الاجتماعي والبيئي، فتكون تنمية اقتصادية، واجتماعية، وبيئية في وقت واحد، مما يعني أن لا تطغى أهداف أحدهما على أهداف التنمية الاجتماعية والبيئية، فيكون هناك توافق وتكامل بين جميع هذه الأهداف. فأية عملية تنموية تُحقق الازدهار الاقتصادي دون تحقيق الازدهار الاجتماعي والبيئي فهي عملية متطرفة وغير مستدامة، وأية عملية تحقق التنمية البيئية دون تحقيق التنمية الاقتصادية فهي أيضاً متشددة وغير مستدامة. فالمعادلة التي يجب على الإنسان تحقيقها من الناحية العملية والواقعية صعبة جداً، ودقيقة للغاية، وتحتاج إلى فهمٍ عميق، ودراسات مستفيضة ومعمقة لجميع مكونات البيئة الحية وغير الحية، وإلى توازن رشيد بين جميع المتطلبات للتنمية المستدامة، كما تحتاج إلى بذل جهود كبيرة للتوفيق بين كل الجوانب وتخفيف أي ضرر قد ينجم عن البرنامج التنموي على أيٍ من أركان التنمية المستدامة.

 

وسأضرب لكم مثالاً في كيفية التوفيق والتوازن بين كل أركان التنمية المستدامة بحيث يخرج الجميع فائزاً من هذه العملية والمشروع التنموي بأقل قدرٍ ممكن من الخسائر والأضرار. فإذا أردنا إنشاء جسر بحري فهناك عدة تصاميم لإنشاء هذا الجسر، وأرخص هذه التصاميم من ناحية الكلفة المالية هو دفن المناطق البحرية، ولكن عملية الدفن فيها خسائر بيئية كبيرة من ناحية تدمير البيئات البحرية، وقتل كل الكائنات التي تعيش عليها. ولذلك من أجل تقليل الخسائر البيئية وتحقيق التنمية البيئية المستدامة، لا بد من اختيار التصاميم الأكثر كلفة من الناحية الاقتصادية على المدى القريب، ولكن الأقل ضرراً على المدى البعيد على البيئة من ناحية تجنب دفن البحر بقدر الإمكان. وهكذا يتم التوفيق والتوازن بين جميع متطلبات التنمية المستدامة، فكل ركن من التنمية المستدامة يجب أن يضحي قليلاً ويتنازل من أجل الركن الآخر، ويتصف بالمرونة، حتى يكون المشروع قد حقق الاعتدال والوسطية ودخل في باب التنمية المستدامة. 

 

ومن أجل تقنين هذه العملية، صمم الإنسان عدة أدوات بيئية علمية وممنهجة لتحقيق الاعتدال والوسطية لكل مشروع تنموي، ويُطلق عليها "أدوات الإدارة البيئية"، منها أداة تقييم الأثر البيئي للمشاريع، والأدوات الاقتصادية البيئية، وأداة تقييم دورة الحياة. 

 

الجمعة، 12 سبتمبر 2025

تطبيق مبادئ الاقتصاد البيئي على مشاريعنا


أكبر معضلة يوجهها علماء البيئة، وأكثرها تعقيداً وصعوبة هي كيفية اقناع المسؤول الحكومي وصاحب القرار على أن تدهور مكونات البيئة الحية وغير الحية له تأثيرات عقيمة على حياة الإنسان والحياة الفطرية بشقيها النباتي والحيواني، وعلى استدامة جودة الحياة الكريمة والصحية التي يعيش فيها الإنسان.

 

فصاحب القرار لا يأخذ في الاعتبار عند اتخاذ أي قرار لاعتماد البدء في المشروع التنموي إلا الجانب الاقتصادي الإيجابي البحت، من حيث الأرباح التي يجنيها مباشرة وبعد فترة قصيرة من الزمن لهذا المشروع، وبما يُطلق عليه بالجدوى الاقتصادية للمشروع، أي الفوائد الاقتصادية الفورية من القيام به.

 

فالمشكلة إذن تكمن في كيفية اقناع متخذ القرار بأن تدهور وفساد البيئة له تداعيات اقتصادية أيضاً، ولكنها انعكاسات سلبية وليست ايجابية، أي أنها تعتبر كُلفة إضافية للمشروع يجب اتخاذها في الاعتبار، فتُعد خسائر اقتصادية تنجم عن القيام بالمشروع ويجب تضمينها وإدخالها في الحسابات المالية، حيث إنها قد تفوق وتتعدى الأرباح المتوقعة.

 

فما هي الأدوات والوسائل التي يمكن تبنيها واستخدامها لتغيير توجهات ومرئيات وسياسة المسؤول والحكومات، واقناعه بأن الخسائر الاقتصادية المالية المباشرة وغير المباشرة التي تنتج عن تلوث الهواء، والماء، والتربة، أو تدمير بيئة بحرية متنوعة ومنتجة بسبب إنشاء المشروع أكبر وأعلى من الفوائد والأرباح المالية التي سيحصل عليها عند القيام به.

 

وبعبارة أخرى كيف يمكن تحويل، على سبيل المثال، القضاء على الشعاب المرجانية بسبب الحفر والدفان إلى مبلغٍ مالي نقدي ومحسوس؟ وكيف يمكن تحويل تلوث ماء البحر بالأتربة التي تنتج من عمليات الحفر والدفان إلى قيمة سوقية، وكلفة مالية يمكن حسابها وتقديمها كخسائر اقتصادية نقدية للمشروع يُقدرها متخذ القرار ويأخذها في الحسبان؟

 

ومن أجل الإجابة عن كل هذه الأسئلة، قام الباحثون بتصميم واعتماد علم متخصص جداً يجيب عن هذه الأسئلة، وهو "الاقتصاد البيئي". وهذا العلم الحديث نسبياً يُعتبر فرعاً متخصصاً من علم قديم وأوسع وهو علم "الاقتصاد"، ويحاول إيجاد العلاقة بين الاقتصاد والبيئة، وربطهما مع بعض بقيمة مالية نقدية، وإجراء تحليل وتقييم للمؤثرات الخارجية السلبية والضارة لأي مشروع تنموي، وكلفتها على هذا المشروع، مثل تلوث الهواء الجوي ومردوداته السلبية على صحة العمال والصحة العامة، أو تلوث المسطحات المائية، أو تدمير البيئات البحرية وتأثيره على الثروة الفطرية البحرية من أسماك وغيرها، أو انتاج المخلفات الصلبة والسائلة والكلفة المالية الناجمة عن معالجتها والتخلص الآمن منها.

 

فهذا العلم الفرعي المتخصص يَنْبي على فلسفة أن البيئة برمتها، والموارد والثروات البيئية ليست سلعاً مجانية لا قيمة لها مالياً، فيتعامل الإنسان معها وكأنها غير موجودة، ولا فائدة منها للإنسان والنظام البيئي العام، فيُسمح له بتدميرها واستنزافها من الناحيتين النوعية والكمية. فهي إذن حسب علم الاقتصاد البيئي سلع اقتصادية كغيرها من السلع التي يتداولها الإنسان في الأسواق، ويتعامل معها بشكلٍ يومي، فتُباع وتشتري بمبلغ نقدي محدد ومعروف. فإذا تدهورت جودة الهواء بدخول الملوثات إليها نتيجة لإقامة أي مشروع تنموي صناعي أو غير ذلك، فهذا يعني خسائر ناجمة عن المشروع، وكلفة إضافية للمشروع، وتُقدر هذه التكاليف والخسائر بمبالغ مالية محددة حسب نوع وكمية الملوثات التي ولجت في جسمها. كذلك إذا أدخلنا ملوثات كيميائية، أو حيوية كالبكتيريا والفطريات والفيروسات، أو فيزيائية كالضوضاء والأصوات المرتفعة، أو الأضواء العالية الساطعة في المسطحات المائية، أو المياه الجوفية نتيجة للقيام بمشروع تنموي، فإننا بذلك قد سقطنا في خسائر اقتصادية تقدر بمبلغ مالي معين. وهذا ينطبق على تدمير الموائل والبيئات البحرية، من شعاب مرجانية، وفشوت، وحشائش بحرية، وبيئات المد والجزر وغيرها من المواقع البحرية المنتجة. فكل بيئة صغيرة أو كبيرة عبارة عن سلعة اقتصادية تتغير قيمتها المالية حسب أهمية، وتنوع، وثراء هذه البيئة، ونوعية الأحياء التي تعيش فيها، ولذلك فتدميرها نوعياً أو كمياً يعني خسائر اقتصادية نقدية مباشرة.  

 

فالاقتصاد البيئي باختصار يهتم بالقضايا البيئية والمظاهر البيئية التي تنجم عنها كالمطر الحمضي، والمد الأحمر، والتغير المناخي وسخونة الأرض، ويصب اهتمامه على ثلاثة مواضيع رئيسة. الأول هو تحديد الآثار الاقتصادية السلبية، والكلفة المالية المترتبة على التدهور البيئي من الناحيتين الكمية والنوعية، وثانياً معرفة وتحديد أسباب ومصادر التدهور البيئي كماً ونوعاً. وأما الموضوع الثالث الذي يلج فيه علم الاقتصاد البيئي فهو استخدام أدوات الإدارة البيئية، وبالتحديد الأدوات الاقتصادية التي من شأنها منع، أو خفض وقوع الفساد البيئي للمشروع التنموي، مثل أداة الملوث يدفع، أي أن الذي يلوث مكونات البيئة، سواء من الأفراد أو الشركات الخاصة والعامة فعليها تحمل كلفة التدهور الذي نزل على هذه المكونات والحياة الفطرية التي تضررت منها. كذلك من الأدوات الاقتصادية هي فرض الضرائب البيئية على الجهة المسببة لفساد عناصر البيئة الحية وغير الحية، إضافة إلى أداة الدعم والإعفاءات الضريبية لكل من يحمي البيئة ويحافظ على مواردها وثرواتها ويمنع تدهورها كمياً ونوعياً.

 

وعلاوة على ما سبق من أهمية بالغة لإدخال هذا العلم الحديث في شؤوننا اليومية المتعلقة بالمشاريع والسياسات العامة، فإنه يعتبر أداة فاعلة وقوية تصب في تحقيق سياسة أكثر شمولية وافقت وأجمعت عليها دول العالم في قمة الأرض في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية عام 1992، وهي تحقيق التنمية المستدامة في كافة القطاعات ومجالات الحياة.

 

فهذا العلم الحديث يدعم بشكلٍ مباشر تحقيق التنمية المستدامة على مستوى المجتمعات والدول، وعلى مستوى كوكبنا برمته، وبالتحديد يعمل على مواجهة تحديات تحقيق 17 هدفاً عالمياً مشتركاً تم اعتمادها عام 2015 كجزء لا يتجزأ من جدول الأعمال العالمي لعام 2030.

 

ومن أجل مواكبة التطورات الدولية في مجال الإدارة البيئية المستدامة، ومن أجل أن تكون البحرين رائدة في السير جنباً إلى جنب مع قطار التنمية الدولي وجهود حماية البيئة، فلا بد من تبني الأدوات الدولية التي تحقق هذا الهدف، ومن أهمها الاقتصاد البيئي الذي يُدخل ويضم العوامل البيئية الخارجية كتلوث الهواء وتدمير البيئات البرية والبحرية كسلع ذات قيمة مالية سوقية، فتكون كجزء رئيس في حسابات الجدوى الاقتصادية لأي مشروع تقوم به مملكة البحرين.