الأربعاء، 7 فبراير 2024

العُلماء ورجال السياسة في خدمة شركات التدخين!

 

نشرتْ صحيفة "التايمز" البريطانية تحقيقاً خاصاً في 14 ديسمبر 2023 تحت عنوان: " كيف تُمول شركات التبغ الكبرى حملة سرية مؤيدة للسجائر الإلكترونية"، حيث هدف التحقيق إلى التعرف على الوسائل والأدوات التي تستخدمها شركات التدخين متعددة الجنسيات من أجل تسويق وتوسيع دائرة منتجاتها وتوزيعها إلى أكبر شريحة من المجتمع البريطاني، وبخاصة الأطفال والشباب. كما ولج التحقيق بعمق في جماعات الضغط بمختلف خلفياتها وتخصصاتها العلمية والاجتماعية والإعلامية والتي كانت تعمل كجنود في الخفاء وفي الظلام، ويتم تجنيدهم كعملاء سريين يُسوقون ويروجون لمنتجات هذه الشركات، فتستعمل وتُكيِّف كل مجموعة وجماعة أدواتها وتخصصاتها العلمية لإقناع الناس بعدم وجود مخاطر صحية وبيئية لهذه المنتجات، ثم ترغيبهم إلى شرائها وتعاطيها.  

 

وقد توصل التحقيق إلى عدة حقائق واستنتاجات مقلقة جداً، بل ومخيفة لكافة أفراد المجتمع، وبالتحديد الطبقة الضعيفة التي من السهل اقناعها وجذبها لتجربة أي منتجٍ جديد، وهم فلذات أكبادنا من صغار السن من الأطفال والشباب. أما الاستنتاج الأول فهو إن المصنعين والمنتجين للسجائر الإلكترونية لهم علاقات واتصالات وطيدة منذ زمن مع عدة أفراد وجهات علمية متخصصة، منهم الأطباء، ومنهم العلماء في مجال التدخين، ومنهم علماء الاجتماع، إضافة إلى نشطاء وإعلاميين يعملون في قطاع الترويج والترغيب في تجربة هذا النوع الحديث نسبياً من التدخين، وهو السجائر الإلكترونية.

 

والاستنتاج الثاني الذي تمخض عن التحقيق فهو أن شركات التبغ قامت بتمويل أبحاث وأوراق علمية تهدف إلى التقليل من مخاطر تدخين الأطفال للسجائر الإلكترونية، أي أن هذه الشركات من أجل مصالحها الاقتصادية تشتري ضمائر بعض العلماء والمختصين الذين يُعرضون ضمائرهم لمن يدفع أكثر، ويستغلون أقلامهم، وعلمهم، وخبراتهم للبيع وبعرضٍ من الدنيا قليل، حتى ولو كان ضاراً وعلى حساب صحة أفراد المجتمع من الأطفال والمراهقين. وأما الاستنتاج الثالث فإن جماعات الضغط هذه كانت تعمل أيضاً على احباط وعرقلة المحاولات من الجهات الحكومية والجمعيات الطبية المعنية بوضع تشريعات تُنظم، أو تمنع مثل هذا النوع من السجائر، أو التي تحاول اقناع الناس بمخاطر هذه السجائر من الناحيتين الصحية والبيئية.

 

وعلاوة على هذه الاستنتاجات والحقائق، فإنني بعد اطلاعي على هذا التحقيق الخاص، أجريتُ دراسة بسيطة حول تاريخ هذه الظاهرة، وتوصلت إلى استنتاجين عامين، أولهما أن هذه الظاهرة قديمة ومتجددة وليست مقصورة على بريطانيا، وستستمر أبد الدهر مادام شياطين الجن أحياء ويوحون مكرهم وحيلهم إلى أوليائهم من شياطين الإنسان، فمعظم دول العالم تقع تحت وطأة استغلال شركات التبغ لكل الأدوات والوسائل الشرعية وغير الشرعية، وتتبني أية حيلة مجدية تهدف إلى تحقيق الربح السريع والمال الوفير واستدامة بقاء شركاتهم. والاستنتاج الثاني فهو أن هذه الظاهرة ليست منعزلة عن باقي المنتجات الاستهلاكية، وبخاصة الضارة منها صحياً وبيئياً واجتماعياً، وليست محدودة في قطاع السجائر والتدخين، وإنما مثل هذه الأساليب والحيل اللاأخلاقية واللاإنسانية تستخدمها أيضاً الشركات الأخرى، مثل شركات الخمر، والأدوية واللقاحات، والمشروبات الغازية وغيرها.

 

وأُقدم لكم نماذج قليلة لبعض الوثائق والدراسات العلمية التي تؤكد شيوع هذه الظاهرة، وقِدَمها واستمراريتها اليوم، وحتى قيام الساعة. فعلى سبيل المثال، نُشرت دراسة في أستراليا في 6 ديسمبر 2023 في مجلة "أبحاث وممارسات الصحة العامة"(Public Health Research and Practice ) تحت عنوان: " كيف تستخدم شركات التبغ الباب الدوار بين الحكومة والصناعة للتأثير على صُنع السياسات: دراسة حالة أسترالية". وهذه الدراسة خلصت إلى عدة استنتاجات منها أن 55% من جماعات الضغط الخاصة بالتبغ في أستراليا قد تقلدوا مناصب حكومية سابقاً، وتغلغلوا بعمق في الأجهزة الحكومية، سواء أكانت على المستوى الاتحادي، أو مستوى الولايات، أو المقاطعات. كما كشفت الدراسة عن قيام شركات التبغ بتجنيد مسؤولين رفيعي المستوى في الحكومة، أو أعضاء في البرلمان للعمل لصالح تدخين السجائر بكل أنواعها، وبخاصة السجائر الإلكترونية، من حيث حث الحكومة على السماح لهذا النوع الجديد من السجائر، إضافة إلى العمل على منع، أو تخفيف لغة أي قانون متعلق بتنظيم التدخين، سواء على المستوى القومي، أو المستوى الخارجي من خلال منظمة الصحة العالمية والمعاهدات الدولية التي ترعاها، مثل "المعاهدة الإطارية المعنية بالتحكم في التبغ".

وهناك دراسة نُشرت في مجلة "المؤشرات الحيوية لعلم الأوبئة السرطانية والوقاية منها"( Cancer Epidemiology Biomarkers and Prevention) في 1 يونيو 2007، وهذه الدراسة التي جاءت تحت عنوان "الجدل حول السجائر" تؤكد بأن جهود شركات التبغ في تجنيد المرتزقة قديمة ومستمرة. وقد كشفت عن عدة حقائق، منها أن شركات التبغ كانت تعلم منذ الخمسينيات من القرن المنصرم بأن التدخين يسبب السرطان، والإدمان، والموت المبكر، ولكنها من أجل إخفاء هذه الحقائق الخطيرة على تجارتهم والمهددة بإغلاقها إلى الأبد، قامت بتمويل الأبحاث العلمية التي تضلل الناس، وتشوش أفكارهم حول أضرار التدخين الصحية، وتبين لهم من خلال نتائج أبحاث العلماء المرتزقة بأن الجانب الصحي "مختلف عليه"، وأنه لا توجد أدلة علمية قاطعة ودامغة تثبت تداعياتها الصحية على المدخن، إضافة إلى إثارة الشكوك والعيوب حول نتائج الدراسات العلمية الموثوقة والصحيحة حول سلبيات التدخين. وهذه السياسية الشريرة، وهذا "التكتيك القذر" في الكذب والتضليل وتقديم معلومات مشوشة من خلال تجنيد العلماء وذوي السلطة والنفوذ مازال يستخدم حتى يومنا هذا بالنسبة للمنتجات الجديدة التي تظهر في الأسواق بين الحين والآخر، كالسجائر الإلكترونية وغيرها.

 

كذلك دراسة في مجلة "بلاس وان" الأمريكية(PLOS ONE)في 23 يونيو 2021 تحت عنوان:" نموذج العلم من أجل الربح-كيف ولماذا تؤثر الشركات على العلوم واستخدام العلوم في السياسة والممارسات". فهذه الدراسة تكشف عن تبني الشركات العملاقة، كشركات التبغ، والأدوية، والمواد الكيميائية أداة "العلم" من أجل تحقيق أهدافهم المتمثلة في تأخير أية محاولة للكشف عن تهديدات منتجاتهم على الصحة العامة، والعمل على عرقلة أي قانون أو تنظيم يقننن أو يمنع استخدامها. فقد خلصت الدراسة إلى أن هذه الشركات تُحوِّر وتُكيِّف نتائج الدراسات العلمية، وتتلاعب في استنتاجاتها لما يخدم مصالحها، وتعمل على التأثير على مواقف العلماء واتجاهاتهم البحثية من خلال تمويل دراساتهم العلمية من جهة، ودعم جامعاتهم ومراكز أبحاثهم بالأموال السخية من جهة أخرى.

 

ولذلك يجب الحذر من جميع هذه الشركات الكبرى، ويجب إثارة الشكوك العلمية المنهجية حول جميع منتجاتها، مهما ادعتْ سلامتها وأمنها لاستخدام البشر أو الشجر أو الحيوان، فهذه الشركات لا ترقُب في أحدٍ إلا ولا ذمة، ولا يهمها إلى مصالحها وازدهار شركاتها على حساب كل شيء آخر.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق