الثلاثاء، 5 مارس 2024

الحدائق وصفة طبية لعلاج الأمراض

 

استغربتُ كثيراً من قرار مجلس بلدية الشمالية في 8 يناير 2024 بتحويل قطعة أرض مخصصة لإنشاء حديقة ومنطقة خضراء يتنفس فيها الناس الهواء العليل الصافي، ويقضون وقتاً ممتعاً صحياً مع الطبيعة وجمالها ونقائها إلى مواقف ميتة صماء للسيارات، لا روح فيها ولا حياة، فتُصلب القلب، وتؤذي النفس، وتتعب البدن.

 

وهذا القرار يشير إلى أن البحرين وكأنها تحولت إلى مروجٍ خضراء، وحدائق غناء مترامية الأطراف وواسعة وموجودة في كل محافظات البلاد، بحيث إننا يمكننا الاستغناء عن أية قطعة أرض لتحويلها إلى استخدام آخر، فقد اكتفينا الآن من إنشاء المتنزهات والمساحات الخضراء ولا داعي لحديقة أخرى تُضاف إلى باقي الحدائق.

 

وهذا القرار ليس له مردودات بيئية وجمالية سلبية فحسب، وإنما انعكاسات صحية تهدد أمننا الصحي، وتفاقم من تعرضنا للأسقام الجسدية والنفسية والعقلية، وبخاصة عندما يتربى الأطفال في بيئة لا يرى فيها سوى الخرسانات المسلحة الإسمنتية الصماء، والأعمدة الحديدة الجوفاء، والمباني البكماء، ولا يتعرض إلا لملوثات السيارات السامة والمسببة للسرطان.

 

وليس هذا من باب المبالغة أو المزايدة في أهمية الحدائق وضرورة وجودها في مناطق البحرين المختلفة، وإنما أجمعتْ الدراسات العلمية قديماً وحديثاً، ووثقتْ أهميتها الصحية الواقعية من خلال الدراسات الميدانية والسريرية، ودورها في استدامة حياة سليمة خالية من الأمراض المزمنة للناس.

 

فهناك دراسة نُشرت في 4 يناير 2024 وتؤكد دور المساحات الخضراء بمختلف أنواعها من حدائق ومتنزهات وسواحل بحرية في تنمية واستدامة الصحة العامة للناس، وبخاصة الأطفال. وهذه الدراسة الحديثة تناولت جانباً مهماً وحيوياً متعلقاً بصحة الطفل، فركزت على قياس كثافة المعادن في العظام عند الأطفال الذين هم في عمر يتراوح بين 4 و 6 سنوات. فمن المعروف أن كتلة العظام تتكون من حجم العظم والكثافة المعدنية، وهما يحددان قوة العظم على مدى حياة الإنسان، وهذه الكتلة تصل إلى ذروة نموها وبنائها وقوتها في سن المراهقة، أي تقريباً سن العشرين. وقد أفادت الدراسات الطبية على أن هناك عدة عوامل لها علاقة ببناء ونمو العظام أثناء فترة الطفولة والمراهقة، وهي نوع وكمية الغذاء، وبخاصة الأنواع التي تحتوي على العنصر الرئيس في بناء العظام القوية وهو الكالسيوم، إضافة على العامل المتعلق بممارسة الأنشطة الرياضية، والجينات الوراثية التي يحملها الطفل.

 

وهذه الدراسة الحديثة هدفت إلى التعرف على دور عامل آخر في بناء العظام القوية والمستدامة وهو أن يعيش الإنسان فترة الطفولة في بيئة طبيعية فطرية، فتُحيط به المساحات الخضراء الغناء المريحة للقلب والنفس، من حدائق، وغابات، ومتنزهات، وسواحل بحرية. فحاولت الدراسة الإجابة عن السؤال التالي: هل هناك علاقة بين العيش في بيئة خضراء ومنطقة أشجار وحشائش في سن الطفولة وكثافة المعادن في العظام، والتي تعتبر من المؤشرات الأساسية لقوة العظام؟

 

وقد نُشرت نتائج وتفاصيل الدراسة في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية(الشبكة المفتوحة)(Journal of American Medical Association) تحت عنوان: "التعرض للمساحات الخضراء في موقع السكن وكثافة المعادن في العظام لدى الأطفال الصغار". وقد أُجريت الدراسة في بلجيكا واستغرقت قرابة سبع سنوات وشملت 327 طفلاً من الذكور والإناث.

 

وقد توصلت إلى عدة استنتاجات مهمة، كما يلي:

الأول: أن هناك علاقة إيجابية بين أن يعيش الطفل مراحل حياته الأولى في مناطق خضراء تحفها الأشجار الغناء وارتفاع كثافة المعادن في عظامه، أي زيادة كتلة العظام في جسمه، مما يعني قوتها ومقاومتها للكسور وهشاشة العظام في السنوات القادمة من عمره.

ثانياً: كلما ابتعد الطفل في حياته اليومية عن التعرض لهذه البيئات الطبيعية والمساحات الخضراء، انخفضت عنده كثافة المعادن في العظام، مما يعني ضعفها وهشاشتها مع الوقت، وانعكاسها مستقبلاً على صحته ومخاطر التعرض والسقوط في أمراض مزمنة.

ثالثاً: قضاء أوقات يومياً منذ الطفولة في المناطق الخضراء والحدائق له مردودات طويلة الأمد تنعكس ايجابياً على الصحة العقلية والنفسية والجسمية. 

 

وعلاوة على هذه الدراسة فإن هناك أبحاثاً أخرى سابقة دخلت في مجال العلاقة بين الطبيعة والمناطق الخضراء والبيئات الفطرية وأحد الجوانب الصحية للإنسان، سواء أكان الجانب الجسدي الفسيولوجي، أو الجانب النفسي والعقلي والذهني، وجميع هذه الأبحاث أجمعت على وجود علاقة بين أن يعيش الإنسان فترة من حياته اليومية في المواقع الخضراء واستدامة سلامة صحته الجسمية والنفسية والعقلية.

 

فعلى سبيل المثال، هناك دراسة منشورة في أكتوبر 2021 في مجلة "استدامة الطبيعة"(Nature Sustainability) وشملت عينة من 3568 مراهقاً تتراوح أعمارهم بين 9 و 15 عاماً يعيشون في لندن، واستغرقت الدراسة 4 سنوات. وقد أثبتت بأن الأطفال الذين يعيشون بالقرب من المتنزهات والغابات الخضراء يتمتعون بصحة عقلية وذهنية وإدراكية أفضل من غيرهم من الذين يعيشون بعيداً عن الحدائق والمساحات الخضراء.  كذلك يكون هؤلاء الأطفال أفضل في التحصيل الدراسي، والنمو الذهني والعقلي، وتنخفض عندهم مخاطر التعرض للمشكلات العاطفية والسلوكية. فكلما تعرض الطفل لساعات أكثر وقضاها في المناطق والمساحات الخضراء ارتفعت عنده القدرات الذهنية وانخفضت مشكلاته السلوكية والعاطفية.

 

كذلك هناك الدراسة المنشورة في أكتوبر 2021 في مجلة اللانست الطبية الدولية المرموقة(THE LANCET Planetary Health) تحت عنوان: " تقييم العلاقة بين التعرض مدى الحياة للمساحات الخضراء وتنمية الطفولة المبكرة وتأثيرات تلوث الهواء والضوضاء في كندا: دراسة أترابية للمواليد على أساس السكان". وقد تكونت عينة الدراسة من 37745 طفلاً يعيشون في مدينة فانكوفر الكندية وتم متابعتهم لمدة 5 سنوات. وأما الاستنتاجات العامة التي تمخضت عن الدراسة فتصب في أن هناك علاقة بين تحسن نمو الطفل ذهنياً وعقلياً وهو في سنٍ مبكرة والعيش بالقرب من مساحات خضراء، فزيادة المساحة الخضراء بالقرب من السكن، رفعت من القدرات الذهنية للطفل عند أدائه للامتحانات التي تقيس هذه القدرات، وهذه المساحات الخضراء تخفف من التأثيرات السلبية الناجمة عن التعرض لتلوث الهواء، وبخاصة غاز ثاني أكسيد النيتروجين. وأوصت الدراسة بضرورة تخصيص مواقع كثيرة ومساحات واسعة ضمن المنطقة الحضرية للحدائق والمتنزهات والمساحات الخضراء الأخرى لما لها من تأثيرات صحية كبيرة على الأمن الصحي للأطفال والكبار على حدٍ سواء.

 

 فجميع هذه الدراسات تُقدم الدليل الشافي والكافي بأن كثرة وجود الحدائق والمساحات الخضراء بالقرب من المجمعات السكنية لها تأثيرات على كافة الجوانب الصحية للإنسان، فهي تعتبر وصفة طبية دوائية لعلاج أمراض كثيرة، وتبدأ من المهد إلى اللحد. فعلى كافة الوزارات والهيئات الحكومية، سواء أكانت وزارة الصحة، أو البيئة، أو التخطيط الحضري والبلديات، أو الهيئات الرياضية إعطاء قضية تخصيص مساحات خضراء في البحرين في كل المحافظات أهمية كبيرة وعدم التهاون فيها وتجاهلها.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق