الثلاثاء، 30 يوليو 2024

المخلفات البلاستيكية تغزو حليب الأم

 

نحن أمام حربٍ طويلة ومعقدة نخوضها ضد التلوث منذ أكثر من قرن من الزمان، وكلما انتصرنا في معركة واحدة فاصلة ضد أحد الملوثات، انكشفت وظهرت لنا ملوثات جديدة لم تكن في الحسبان ولم تخطر على بال أحد، وتكون أشد قوة وبأساً، وأكثر وطأة على مكونات البيئة وصحة الإنسان من الملوثات السابقة، وفي تقديري فإن الإنسان لن ينجح في الانتصار كلياً في هذه الحرب الماراثونية المتغيرة في هويتها وقوتها، وإنما ستبقى معنا ويضطر الإنسان أن يتعايش معها في هدنة طويلة الأمد، فلا يستطيع التخلص منها جذرياً وكلياً.

 

ففي كل يوم نجد أنفسنا أمام ساحة جديدة نحارب فيها هذه الملوثات ونصطدم معها بشكلٍ مباشر، حيث إن المعارك الدائرة ليست ثابتة في موقع واحد وإنما تنتقل من موقع إلى آخر، فكانت ساحة المعارك في البداية هي مكونات البيئة من ماءٍ، وهواءٍ، وتربة وفي المواقع التي يراها الإنسان، ثم انتقلت مع الوقت ومع ازدياد مصادر التلوث والملوثات وارتفاع أحجامها إلى ساحات بعيدة جداً ونائية لا يمكن رؤيتها أو الإحساس بوجودها، مثل سفوح الجبال العالية الشاهقة، أو الثلوج في القطبين الشمالي والجنوبي ومياه المحيطات المتجمدة، أو أعماق البحار السحيقة الشديدة البرودة والظلمة وعلى بعد أكثر من عشرة كيلومترات تحت سطح المحيطات.

 

وبعد عقود من الزمان وجدنا أنفسنا في صراع مع الملوثات من نوعٍ جديد وخطير في داخل أجسامنا، بل وفي كل عضو من جسدنا صغير كان أم كبير، فانتقلت ساحة المعركة إلى جسم الإنسان نفسه، وهددت كيانه واستدامة وجوده على سطح الأرض. فقد كشف الإنسان عن وجود الملوثات أولاً في الجهاز التنفسي أو الرئتين، حيث يوجد خط الدفاع الأول أمام غزو الملوثات، ثم امتدت ساحة القتال إلى الدورة الدموية، ومنها إلى كل خلية من خلايا الجسد، سواء أكانت خلايا المخ، أو الكلية، أو الأنسجة القلبية، أو أنسجة المشيمة التي تمد الجنين بالغذاء والحياة، أو حليب الأم.

 

وفي الوقت نفسه فإن طبيعة هذا العدو وهويته اختلفت عبر الزمن، فكلما تعرف الإنسان على طبيعة وخصائص وهوية أحد الأعداء ونجح في التعامل معه والتغلب عليه والحد من انبعاثه إلى مكونات البيئة، ظهر عدو جديد آخر وغريب على المجتمع البشري ولا يعرف عنه الكثير، من حيث تصرفه عند ولوجه في مكونات البيئة، ومن حيث قدرته على التراكم والتركيز في عناصر البيئة واحتمالية انتقاله وتراكمه في جسم الإنسان، إضافة إلى التهديدات التي قد يشكلها على الأمن الصحي للبشر، وشدة الأمراض التي ستُصيب الإنسان.  

 

فالعدو في العقد الأول من القرن المنصرم كان يتمثل في الدخان الأسود، أو ما يعرف بالجسيمات الدقيقة الكربونية، وأكاسيد الكبريت والنيتروجين والكربون في الهواء الجوي، إضافة إلى العناصر الثقيلة كالرصاص والزئبق والكروميوم والكادميوم في المسطحات المائية والتربة. وتمكن الإنسان بعد معارك ضارية ضد هذه الملوثات أن يعرف خصائصها جيداً ونقاط قوتها وضعفها، فقام بتطوير الوسائل والسبل والتقنيات للتحكم فيها ومنع انطلاقها كلياً إلى عناصر البيئة، أو الخفض من انبعاثاتها. وهذه الملوثات أصبحت الآن قديمة وتقليدية وتغلب عليها الإنسان وأصبحت الآن حالة من الهدنة طويلة الأمد بينها وبين الإنسان، فظهرت في منتصف القرن الماضي ملوثات حديثة غير تقليدية، فوجد الإنسان نفسه يواجه عدواً جديداً لا يعرف عنه أي شيء، ولا يعرف كيف يتعامل معه، مثل غاز الأوزون والملوثات المؤكسدة الأخرى، وثاني أكسيد الكربون، إضافة إلى المركبات العضوية متعددة الفلورين والكلورين الأروماتيكية الثابتة والمستقرة وغير الأروماتيكية. وبعض هذه الملوثات انتشر على نطاق جغرافي واسع جداً بحيث إن ساحة الصراع معها غطت الكرة الأرضية برمتها، مما استدعي تجنيد كل قوى البشر في كل العالم للتصدي لها وتجنب تهديداتها ومخاطرها الصحية على الإنسان وعلى سلامة الكرة الأرضية.

 

واليوم يواجه البشر ومنذ نحو عقد من الزمن عدواً شرساً من نوع جديد لم يخطر على بال أحد، ودائرة الصراع معه شملت كل شبرٍ صغير أو كبير من كوكبنا، وغطت كل موقع قريب أو بعيد عن أنشطة البشر، بل وامتدت المعارك إلى كل خلية من خلايا جسم الإنسان، وهذا العدو هو المواد البلاستيكية والمخلفات التي تنجم عن استخدامها ثم التخلص منها.

 

فمنذ قرابة عشر سنوات والعلماء منشغلون بالتعرف عن كثب على نقاط الضعف والقوة لهذا العدو الذي تغلغل بعمق في كل مكونات بيئتنا، وانتقل إلى الحياة الفطرية النباتية والحيوانية، ثم إلى جسد الإنسان. وهنا أريد أن أُركز على وصول زحف هذه المخلفات البلاستيكية إلى حليب الأم والذي يمثل تحولاً خطيراً وتهديداً عميقاً ليس لأطفالنا في هذا الجيل وإنما للأجيال اللاحقة والمستقبلية. فانتقال هذا العدو إلى حليب الأم له مدلولات ومؤشرات كثيرة، منها أن هذا العدو تمكن بنجاح من تخطي والقفز على جميع الموانع والحواجز الحيوية الموجودة في جسم الإنسان، كحاجز الدورة الدموية، وغزو هذا العدو لجدار الخلايا وتراكمه هناك واحتلاله لهذا الموقع المتقدم جداً للبشر، إضافة على أن وجود المخلفات البلاستيكية في حليب الأم يؤكد انتقال المعركة من هذا الجيل الحالي إلى الأجيال المتعاقبة، ونجاح هذا العدو الجديد من كسر حاجز الأجيال وعبور الحدود الزمانية.

 

فأول دراسة كشفت عن وجود الجسيمات الميكروبلاستيكية في حليب الأم نُشرت في 30 يونيو 2022 في مجلة "المواد المتبلمرة"(Polymers) تحت عنوان: "الكشف والتشخيص عن الميكروبلاستيك في حليب الأم باستخدام جهاز رامان مايكروسبكتروسكوبي"، والتي صدرت كعدد خاص حول: "تحلل المواد المتبلمرة وتأثيراتها البيئية". وفي هذه الدراسة جُمعت عينات من حليب الأم من 34 امرأة، وتم الكشف ولأول مرة لجسيمات المخلفات المايكروبلاستيكية في 26 عينة من مجموع 34، وأكثر أنواع الميكروبلاستيك كان البولي إيثلين، وبولي فاينل كلوريد، وبولي بروبلين، حيث تراوح حجم الجسيمات من 2 إلى 12 مايكرومتراً.

 

وجدير بالذكر أن حليب الأم منذ الخمسينيات من القرن المنصرم أصبح المؤشر الحيوي الذي يُثبت تعرض الإنسان لشتى أنواع الملوثات الموجودة في بيئتنا. وآخر دراسة نُشرت، حسب معلوماتي حول وجود الملوثات الجديدة في حليب الأم هي في 24 يناير 2024 في مجلة "العلوم والتقنية البيئية" تحت عنوان:" تأثير التعرض البيئي على دهون حليب الثدي البشري في الأمراض المناعية المستقبلية"، حيث كشفت هذه الدراسة عن وجود ملوثات عضوية متعددة الفلورين (perfluorinated alkyl substances (PFASs)) في حليب أمهات السويد.

 

وهكذا نجد أنفسنا نخوض حرباً ضروساً لا نهاية لها بسبب المنتجات الجديدة التي نُطلقها في الأسواق بدون دراسات كافية وشاملة، والتي تنجم عنها مخلفات وملوثات غازية، وسائلة، وصلبة قديمة وحديثة ومتجددة، وفي كل مرة علينا الدخول في معركة جديدة لم نحسب لها أي حساب للتصدي لملوث جديد يدخل بيئتنا وأجسادنا، ثم علينا أن نجد الحلول العملية والمستدامة للتعامل معها، وفي تقديري فإن هذه الحرب مع الملوثات لن تنتهي أبداً، وستصبح الملوثات جزءاً لا يتجزأ من عناصر بيئتنا ومن السلسلة الغذائية التي تنتهي أخيراً بالإنسان.

الثلاثاء، 23 يوليو 2024

لماذا يَطْرُد سكان برشلونه الإسبانية السياح من مدينتهم؟

 

تفتخر الدول كثيراً وتتباهى أمام الناس بارتفاع أعداد الزوار من السياح إلى بلدانهم كل سنة، وكلما زاد العدد اعتبروا ذلك فخراً وانجازاً تنموياً، وازدهاراً اقتصادياً يصب بالخير الوفير والكبير في ميزانية الدولة.

 

فقد زار مدينة برشلونة الاسبانية الساحلية العريقة، على سبيل المثال، أكثر من 12 مليون سائح عام 2023، وفي اسبانيا كلها وصل عدد السياح إلى 85 مليون في عام 2023، وبزيادة قدرها 18.7% عن عام 2022، حسب احصائيات "المعهد القومي للإحصاء".

 

فمثل هذه الاحصائيات العالية لعدد السياح في برشلونة خاصة، وفي اسبانيا عامة، من المفروض أن تكون مصدر فخرٍ وسرور، ومدعاة للاعتزاز بهذا الإنجاز السياحي والاقتصادي الكبيرين. ولكن ما يحدث في مدينة برشلونة اليوم، وفي بعض المدن الاسبانية الساحلية والجزر الأخرى، يشير إلى أن هذه الاحصائيات تُعتبر سلبية وخطيرة تهدد السكان والمقيمين في هذه المدن، فالسكان يعتبرنها مؤشراً على شقائهم وعدم سعادتهم، وينددون بهذا المد السياحي المفرط الذي ينمو ويتوسع كل عام.

 

فسكان برشلونة الآن يحتجون على هذا النمو المطرد في عدد السياح، فخرجوا من منازلهم وأعمالهم يتظاهرون في الشوارع ليرفعوا أصواتهم، ويبدون سخطهم وغضبهم للأعداد المتزايدة من السياح في مدنهم والتي غطت كل شوارعهم فاكتظت بهم، وملأت فنادقهم ومطاعمهم فلا محل للسكان لهم، فأصبحوا أجانب في مدنهم ولا يستطيعون ممارسة حياتهم اليومية في راحة، وسعادة، وطمأنينة بدون الإحساس بهذا الضغط السياحي الجماهيري العظيم. ومنها المظاهرات العارمة الواسعة التي خرجت في السادس من يوليو في مدينة برشلونه، ورفعوا فيها شعارات قوية مناهضة للسياح، وتدعو إلى طردهم من مدينتهم. ومن هذه الشعارات: "كفى، دَعُونا نضع حداً للسياحة"، ومنها لافتات تقول: "خففوا من السياحة".

 

فلماذا إذن هذه العدائية العلنية للسياحة في مدينة برشلونة خاصة، ومدن ساحلية أخرى بشكلٍ عام؟

 

ففي تقديري فإن هذا القلق العميق من السياحة، ليس للسياحة العادية البسيطة الموجودة في الكثير من مدن العالم، ولكن السياحة في برشلونة تعدت هذه المرحلة المقبولة، فأصبح هناك إفراط وتفريط مشهود في عدد السياح وممارساتهم أثناء وجودهم في المدينة. كما أنها تحولت من الحالة العادية المقبولة والتي يمكن تحملها والتعايش معها إلى حالة ومرحلة التشبع في عدد السياح والضغط الشديد على مرافق المدينة. كما أن اليوم تحولت إلى مرحلة ما فوق التشبع، وهي المرحلة التي تتحول فيها السياحة من خير للشعب إلى شر ونقمة، وتتحول فيها السياحة من أداة بناء وتنمية إلى أداة هدم ومفسدة للمجتمع والبيئة برمتها، وبخاصة إذا لم تقم المدينة بمواكبة هذا المد السياحي، ولم تَلحقْ خدماتها العامة بهذه الأعداد المتزايدة سنوياً من السياح. ولذلك قال أحد المتظاهرين الذين أضربوا عن الطعام:" ليست لدي أية مشكلة مع السياحة، ولكن في برشلونة نحن نعاني من السياحة المفرطة والمتزايدة مما جعل الحياة في المدينة لا تطاق".

 

فعلينا إذن أن نعلم بأن كل سائح يطأ أرض أية مدينة سياحية فإن وجوده يشكل ضغطاً إضافياً على الثروة المائية ومياه الشرب بصفةٍ خاصة، وأن كل سائح يمثل ضغطاً على شوارع المدينة ومواقف السيارات، كذلك فإن وجود كل سائح يؤدي إلى زيادة إنتاج المخلفات الصلبة، أو القمامة، إضافة على ارتفاع في إنتاج مياه المجاري، كما أن كل سائح إضافي يأتي إلى المدن والجزر السياحية فإنه يشكل عبئاً على شبكات الكهرباء، ويمثل ضغطاً جديداً متعاظماً على الخدمات السكانية من شقق ومنازل وغرف فندقية، إضافة على الخدمات الصحية والملاعب والمتنزهات العامة الساحلية وغير الساحلية والمحميات الطبيعية ومواقف السيارات.

 

وكلما ارتفعت وتيرة المد السياحي، فإن الضغط والعبء يزيدان على الخدمات والمرافق العامة حتى يبدأ بالانفجار الانشطاري التدريجي والبطيء، أي انفجار صغير ومحدود، ثم انفجار آخر أوسع تأثيراً، ثم انفجار كبير يهز الركن الأمني لهذه المدن.

 

وهذا ما حدث في برشلونة، فالخدمات أصبحت مرهقة ومتعبة وبالية ولا تستطيع مواكبة وتحمل الزيادة المستمرة في الأعداد البشرية الهائلة من السياح، فكلفة خدمات الإسكان ارتفعت كثيراً حتى بلغت أكثر من 68% خلال العقد الماضي، وأسعار الإيجارات زادت بدرجة مفرطة لا يتحملها سكان المدينة، وأثرت على التجارة المحلية في أحياء المدينة، فأغلقت الكثير من المتاجر والبرادات الصغيرة التي كانت تخدم مباشرة السكان وتقدم لهم ما يحتاجون، فاستبدلت بمتاجر تخدم السياح مباشرة. كذلك فإن الأسعار ارتفعت بشكل كبير لا يطيقه السكان فأصبحت الحياة والمعيشة غالية في المدينة ولا يمكن تحملها، حتى أن المدينة ضاقت بسكانها الأصليين، وتحولت حياتهم من سعادة وراحة وطمأنينة إلى شقاء وبلاء.

 

فكان حل سكان المدينة لهذه الظاهرة العقيمة هو الخروج أمام الناس وأمام المسؤولين في المدينة لإظهار سخطهم على الأوضاع التي يعيشونهم، ولفت نظر المعنيين للحالة المزرية التي يعانون منها، ولذلك طالبوا بإحداث نوعٍ من التوازن بين التنمية السياحية المتمثلة في خفض وتقنين عدد السياح سنوياً من جهة، واحتياجات السكان للحياة الكريمة والمعيشة المناسبة، إضافة تقليل استضافة الفعاليات والأنشطة الإقليمية والدولية وتوسعة، وتجديد وتحديث الخدمات والمرافق العامة للمدينة لامتصاص هذا الضغط السياحي المتنامي من جهة أخرى.

 

وبالتالي دعا المتظاهرون إلى تغيير النموذج السياحي القديم المعتمد فقط على زيادة عدد السياح بأية وسيلة ودون الأخذ في الاعتبار الجوانب الأخرى المرتبطة بهذه الزيادة والمصاحبة لها، والعمل على استبداله بنموذج حديث مستدام يأخذ في الاعتبار الجانب الاقتصادي جنباً إلى جنب مع الجانبين الاجتماعي والبيئي، إضافة إلى التصدي للحالة الراهنة للسكان ومعالج مشاكلهم وحل معاناتهم اليومية. 

 

فهذا الحالة الموجودة أمامنا في برشلونة هي في الحقيقة ظاهرة حديثة، وواقع مر يعاني منه الكثير من مدن ودول العالم الصغيرة المساحة والمحدودة الموارد، وتؤكد علينا ضرورة عدم التركيز كلياً على الجانب الاقتصادي البحت فقط في كافة البرامج والأنشطة السياحية وغير السياحية، وعدم تجاهل الجوانب الأخرى ذات العلاقة مثل الجانب الاجتماعي والبيئي، فلا توجد أية دولة بمنأى عن السقوط في هذه الحالة العقيمة والمعقدة التي تهدد أمن واستقرار الدولة برمتها.