أدوات ووسائل التقنيات
الحديثة يبدأ استخدامها أولاً في الدول الصناعية الغنية والمتقدمة التي تقوم
باختراعها وتطويرها وطرحها في الأسواق على المستوى القطري ثم على المستوى الدولي،
ولذلك هي دائماً ما تكتوي أولاً بنارها وبإساءة استخدامها، والوقوع في سلبياتها،
وبخاصة من الأطفال والمراهقين، فتكون هي الفريسة الأولى التي تقع ضحية سهلة لهذه
الأدوات والتقنيات الجديدة التي تخرج علينا بين الحين والآخر.
واليوم نقف أمام تقنية
حديثة ظهرت منذ أكثر من عقد من الزمن وتطورت سريعاً بدرجة غير مسبوقة، وانتشرت
كانتشار النار في الهشيم في كل دول العالم، وهي وسائل التواصل الاجتماعي
وتطبيقاتها المتعددة التي دخلت في منازلنا، ومدارسنا، وجامعاتنا، ومكاتبنا، ودور
حكوماتنا وفي جميع مجالات حياتنا. فهذه الوسائل التي يتحدث الجميع عن ايجابياتها
وتسهيلها لحياة الناس اليومية، وربطها قلوب ونفوس الناس بعضها ببعض في كل أرجاء
العالم، بدأت تنكشف يوماً بعد يوم بعض سلبياتها الخطيرة المهددة والمفسدة لعقول
ونفوس مستخدميها، وبخاصة بين فئة الأطفال والمراهقين والشباب.
ونظراً لخطورة هذه
السلبيات التي انكشفت في السنوات القليلة الماضية على فلذات أكبادنا وقرة أعيننا
بصفة خاصة، فقد أعلن المسؤول الأول عن الصحة العامة في الولايات المتحدة الأمريكية
والذي يُطلق عليه اسم "الجراح العام"، أو "المرشد الصحي الأعلى
لأمريكا" الحرب على هذه الوسائل، وحذر من الإفراط وسوء التعامل معها والإدمان
عليها، فدعا إلى تقنين وتنظيم استخدامها عاجلاً قبل أن يفلت الزمام من أيدينا،
وتخرج عن سيطرتنا والتحكم فيها، فتتجذر بصماتها السيئة عميقة في المجتمع برمته فلا
يمكن إصلاحها وعلاجها.
فقد حذر "الجراح
العام"، فيفك ميرثي(Vivek Murthy) في 17
يونيو 2024 في مقال افتتاحي كتبه في صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية، حيث دعا
الكونجرس الأمريكي للتدخل سريعاً في تنظيم هذه الوسائل من خلال سن قانون يلزم
شركات التكنلوجيا الكبرى المنتجة لهذه الأدوات الحديثة، مثل جوجل، وفيس بوك، ومنصة
أكس، وغيرها إلى إصدار ووضع علامات تحذيرية، وملصقات توجيهية على هذه الوسائل
والتطبيقات، ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي. ومن العبارات التحذيرية التي يقترحها
المسؤول الأول عن صحة الشعب الأمريكي هي: "التواصل الاجتماعي له علاقة بوقوع
أضرار جسيمة على الصحة العقلية للمراهقين". فوجود مثل هذه العبارات التي تدق
ناقوس الخطر، تُلفت عناية ورعاية المجتمع الأمريكي برمته، وتوقظ الآباء، وأوليا
الأمور، والمسؤولين في المدارس والجامعات وغيرهما وترفع من إدراكهم ووعيهم على
ضرورة أن تكون هناك هبَّة جماعية مجتمعية لمكافحة هذا الوباء الجديد الذي ولج إلى
بيوت كل مواطن، وخلق أزمة صحية كبيرة وطارئة تتمثل في تدهور الصحة العقلية
والنفسية للأطفال والشباب والمراهقين، بل وكبار السن على حدٍ سواء.
كما أصدر "الجراح
العام" في الوقت نفسه بياناً استشارياً صحياً توضيحياً حول هذه الأزمة الصحية
المتفشية في المجتمع الأمريكي، وبخاصة سقوط الأطفال والمراهقين والشباب في سن
مبكرة في شباك الأمراض العقلية والنفسية، والتي من ضمن أسبابها الهاتف النقال ووسائل
التواصل الاجتماعي.
وقد نُشر هذا التقرير
الاستشاري الصحي الموجه للشعب الأمريكي تحت عنوان: "التواصل الاجتماعي والصحة
العقلية للشباب"، ويحتوي على عدة أبواب، منها الفصل حول سلبيات وايجابيات
التواصل الاجتماعي على الأطفال والمراهقين، ثم يُقدم الأدلة العلمية التي تثبت
المخاطر المتعلقة بمحتوى التواصل والتهديدات المتزايدة للإفراط وسوء الاستخدام.
كما أن التقرير يقدم بعض الاحصائيات حول انتشار استخدام التواصل الاجتماعي، حيث
يفيد بأن أكثر من 95% من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 13 إلى 17 يستخدمون
منصات التواصل، كما أن المراهقين يقضون معدل 4.8 ساعة يومياً مع صحبة منصات
التواصل الاجتماعي، وبخاصة يو تيوب، وتيك توك، وإنستجرام، وسناب تشات، وإكس.
وجدير بالذكر بأن هذه
الأزمة ليست وليدة اليوم، ولكنها تتفاقم يوماً بعد يوم وتظهر مؤشراتها المهددة
للصحة العقلية والنفسية للشباب سنة بعد سنة، ولذلك نبه "الجراح العام"
من قبل إلى هذه الأزمة، وأصدر في مايو 2023 وثيقة الاستشارة الصحية تحت عنوان:
"أزمة الصحة العقلية بين الشباب: تأثير التواصل الاجتماعي على الصحة
العقلية"، حيث وصف عندها هذه الأزمة بأنها "أزمة صحة عامة عاجلة"،
وأنها أزمة إدمان، ولكن هذه المرة مع الهاتف النقال وفي ظل التطبيقات ووسائل
الاتصال الاجتماعي الموجودة بداخله.
وعلاوة على تحذيرات "الجراح
العام" فقد نُشر كتابٌ في 29 مارس 2024 ونال شرف "أكثر الكتب
مبيعاً" من صحيفة النيويورك تايمس العريقة، حيث جاء تحت عنوان: "الجيل القلق: كيف أن التجديد الكبير للطفولة يسبب وباء المرض
العقلي" من إعداد "جوناثون هيدت". فهذا الكتاب يتناول هذه
القضية الحيوية المصيرية التي تعاني منها المجتمعات في كل أنحاء العالم، وتتفاقم
هذه المعاناة وتزيد في وتيرة سرعتها ونطاق ودائرة تأثيرها عاماً بعد عام، كما أن
هذا الكتاب في الوقت نفسه يمس أهم فئة عمرية في كل مجتمعات العالم بدون استثناء،
وهي فئة فلذات أكبادنا من الأطفال والمراهقين والشباب، فهي الفئة التي تُشكل
القاعدة الأساسية الصلبة للبناء والنمو المستدام لأي مجتمع. فهذا الكتاب
يشير باختصار إلى أن الهاتف النقال وما يحتويه من تطبيقات للتواصل الاجتماعي يتحمل
مسؤولية الأزمة الصحية بين الشباب، ويبين بالأدلة بأن مرحلة الطفولة التي عادة ما
تتمحور وتتمركز حول الألعاب بمختلف أنواعها وأشكالها في المنزل والمدرسة والحديقة
قد استبدلت الآن باللعب بالهاتف النقال.
ولكن هل سينج الكونجرس
الأمريكي بسهولة وبسرعة في وضع تشريع يفرض على شركات التكنلوجيا العملاقة
والمتنفذة في أعماق السياسة الأمريكية، والمسيطرة على توجهات وقرارات رجال التشريع
في مجلس النواب ومجلس الشيوخ؟
فهذه الشركات لن تقف
مكتوفة الأيدي أمام هذه التوجهات الجديدة لوضع ملصقات تحذيرية على منتجاتها، وهذه
الشركات لن ترفع العلم الأبيض مستسلمة لهذا الطلب. فوضع مثل هذه العبارات
والملصقات التي تُحذر من استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي يعني باختصار شديد
انخفاض أرباحها ونفور البعض من الدخول فيها، فهي شركات قائمة أساساً على الربح
السريع والكبير دون الالتفات إلى أي شيء يقلل من أرباحها مهما كان، سواء صحة الشعب
عامة، أو صحة الأطفال والشباب خاصة.
ولذلك أتوقع أن تبدأ الحرب
الضروس الماراثونية من الآن بين لوبي هذه الشركات المنتفعة والمستفيدة مع الجهات
الإصلاحية المعنية بالصحة العامة. وهذه الحالة تُذكرني بما حدث في الستينيات من
القرن المنصرم بالنسبة لتدخين السجائر ووضع علامات تحذيرية على علب السجائر. فقد
أصدر "الجراح العام" في 1964 التقرير التاريخي الأول الذي أثبت فيه
مخاطر التدخين الصحية وعلاقته بسرطان الرئة، واقترح أيضاً وضع علامات تحذيرية على
علب السجائر. فعندها بدأت الحرب الشرسة بين لوبي وشركات السجائر والجهات الصحية،
واستمرت عشرات السنين تُراوح وتدور في أروقة المحاكم، حتى اضطرت شركات السجائر إلى
حل وسط ومعتدل بالنسبة لهم، وهو وضع عبارات مخففة وغير كافية لمنع التدخين، فكان
الملصق الأول يقول: "تحذير: تدخين السجائر ربما يكون خطراً لصحتك". ولم
تنته الحرب عند هذه العبارة غير المجدية وغير القوية حول أضرار التدخين، فاستمرت
المعارك على أشدها بين قوى الشر وقوى الخير حتى انتصر الخير بعد قرابة عشر سنوات،
فألزمت شركات التبغ على وضع عبارات واضحة وقوية تؤكد بأن التدخين قاتل ويسبب عدة
أنواع من السرطان ويؤدي إلى الموت الحتمي.
ولذلك فالنسبة لوضع علامات
تحذيرية على منصات التواصل الاجتماعي، ففي تقديري أنه سيمر بالمراحل العقيمة نفسها
التي مرَّت بها مع شركات التبغ، وسيواجه العقبات والمعوقات نفسها، وستكون هناك
حتماً الكثير من المعارك المحتدمة القاسية بين شركات التقنيات الكبرى من جهة
والأجهزة الحكومية ومنظمات المجتمع المدني من جهة أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق