الأربعاء، 20 نوفمبر 2024

خبراء الأمم المتحدة ينتقدون اجتماعات المناخ الأممية

 

تزايدت التصريحات وارتفعت نبرتها وشدتها سنة بعد سنة حول عبثية اجتماعات الأمم المتحدة حول التغير المناخي المستمرة منذ نحو 32 عاماً، بدءاً بقمة الأرض في عام 1992 والتي تمخضت عنها الاتفاقية الاطارية حول التغير المناخي، وآخرها الاجتماع رقم (29) الذي عُقد في أذربيجان، وسيُعقد للمرة الثلاثين العام القادم في البرازيل.

 

فقد كانت التصريحات ونداءات الاستغاثة اليائسة تأتي أولاً من العلماء والباحثين في مجال المناخ وتأثير التغيرات المناخية وتداعياتها على كوكبنا وعلى المجتمع البشري، ثم انتقلت هذه التصريحات الشديدة إلى النشطاء والمهتمين بواقع التغير المناخ الميداني على الأجيال المتلاحقة، الحالية والمستقبلية، وبعدها تحولت إلى قادة دول العالم، وبخاصة الدول الجزرية الفقيرة والمستضعفة التي أصابها اليأٍس والإحباط من جدوى هذه الاجتماعات لأنها تكتوي يومياً وتتضرر واقعياً من مردودات وانعكاسات التغير المناخي وسخونة الأرض وارتفاع مستوى سطح البحر، حتى أن بعض الدول مثل دولة "بابو غينيا الجديدة" قاطعت الاجتماع رقم (29) في باكو في نوفمبر 2024، وأصدرتْ بياناً من رئيس الوزراء ومن وزير الخارجية يقول فيه بأن هذه الاجتماعات مضيعة للوقت وتدور في دائرة مغلقة بدون اتخاذ قرارات مؤثرة وقوية تحمي كوكبنا من الانهيار كلياً وتدعم مالياً وتقنياً الدول الفقيرة الشديدة الضرر والمعاناة لمواجهة هذه التغير المناخي.

 

واليوم نقرأ خطاباً مفتوحاً من مجموعة من المسؤولين السابقين في الأمم المتحدة ومن بعض رؤساء الدول وعلماء المناخ، حيث نشرت هذه المجموعة الخطاب في 15 نوفمبر 2024 تزامناً مع انعقاد اجتماع المناخ رقم (29) في باكو في الفترة من 11 إلى 22 نوفمبر 2024. وقد تكونت المجموعة من عدة شخصيات عامة معروفة مثل الأمين العام السابق للأمم المتحدة "بان كي مون"، والرئيس الإيرلندي السابق "ماري روبينسون"، والرئيس الأممي السابق للمناخ.

 

وفي هذا الخطاب أبدتْ المجموعة امتعاضها وعدم رضاها كلياً من النتائج التي تتمخض عن هذه الاجتماعات السنوية التي وصلت إلى 29 اجتماعاً، وأشارت بأن هذه الاجتماعات أصبحت لا جدوى منها ولا فائدة كبيرة وملموسة ترجى من عقدها، فهي لم تحقق أياً من الأهداف الرئيسة التي وُضعت منذ أكثر من 32 عاماً في ريو دي جانيرو في البرازيل. فالنتائج البسيطة والسطحية التي تتمخض عنها لا تواكب الواقع الميداني للتغيرات المناخية، ولا تلاحق سرعة سخونة الأرض وارتفاع حرارتها طوال العقود الماضية، ولم تستطع مواجهة التحديات العظيمة التي نجمت عن التغير المناخي من ارتفاع درجة حرارة كوكبنا، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حموضة مياه البحر، وما ينجم عن كل هذه التداعيات من زيادة واتساع رقعة الكوارث المناخية التي تضرب مناطق واسعة من كوكبنا. بل وفي تقديري فإن عقد هذه الاجتماعات في حد ذاتها يعد جزءاً من المشكلة وليس من الحل، فحركة عشرات الآلاف من الوفود المشاركة في الاجتماعات السنوية وانتقالهم من دولة إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى باستخدام الطائرات، والسيارات، والقطارات، تنبعث عنها أحجام كبيرة من الغازات المتهمة بوقوع التغير المناخي، وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون من حرق الوقود الأحفوري. 

 

فقد أكدت المجموعة في خطابها: "إنه من الواضح الآن أن اجتماعات الدول الأطراف في اتفاقية التغير المناخي لم تعد صالحة للأهداف التي وُضعت لتحقيقها، فنحن نحتاج إلى التحول من التفاوض إلى التنفيذ". أي بعبارة أخرى مباشرة، وغير دبلوماسية، وغير لطيفة فإن هذه الاجتماعات أصبحت عبثية، ولا فائدة منها، ولا جدوى من تنظيمها سنوياً، فهي لا تحقق الأهداف التي تجتمع الدول من أجل تحقيقها. كذلك جاء في الخطاب بأن: "اجتماعات التغير المناخي يجب أن تُعقد في الدول التي تبدي دعماً لتنفيذ السياسات المناخية، ولها تشريعات صارمة حول استخدام الوقود الأحفوري، كما إننا نحتاج إلى وضع معايير صارمة لاستبعاد الدول التي لا تدعم التخلص أو التحول بعيداً عن الوقود الأحفوري. فالدول المضيفة يجب أن تقدم ما يثبت عزمها في تحقيق أهداف اتفاقية باريس". كما أكد "ألجور" نائب الرئيس الأمريكي الأسبق على مضمون هذا الخطاب حيث قال بأن: "على المجتمع الدولي تنظيم طريقة أكثر فاعلية لهذه الاجتماعات".

 

وهناك عدة أسباب لهذا التشاؤم والإحباط من فاعلية هذه الاجتماعات المناخية الدولية السنوية، ومن أهمها فشل دول العالم في خفض انبعاثاتها من غازات الدفيئة، أو غازات الاحتباس الحراري المتهمة بالتغير المناخي وسخونة الأرض. فبدلاً من أن تنخفض انبعاثات الدول لهذه الغازات بشكلٍ سنوي، وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون، فإن هذه الانبعاثات في ارتفاع مطرد بشكلٍ عام، أي أن الدول لم تلتزم ببنود الاتفاقيات والتفاهمات التي من بينها أن تضع كل دولة حدوداً معينة تتعهد بها لخفض نسبة الانبعاث بشكلٍ سنوي. فمستوى انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون على المستوى الدولي ضرب رقماً قياسياً جديداً في عام 2024، حسب التقرير المنشور في 15 نوفمبر 2024 من (Global Carbon Budget). وهذا التقرير قدَّر حجم غاز ثاني أكسيد الكربون الإجمالي المنطلق إلى الهواء الجوي بنحو 41.6 بليون طن في عام 2024، أي بزيادة قدرها قرابة 1% مقارنة بعام 2023، والذي قُدر بنحو 40.6 بليون طن. وهذا الارتفاع المشهود في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون انعكس مباشرة على سخونة كوكبنا، وبالتالي تعارض مع تفاهمات باريس لعام 2015، والذي كان من أهم مخرجاتها وقراراتها التي صفق الجميع لها واعتبروها انجازاً غير مسبوق، هو أن تلتزم دول العالم وتتعهد بخفض انبعاثاتها بشكلٍ طوعي وبنسب محددة بهدف منع ارتفاع درجة حرارة الأرض أكثر من 1.5 درجة مئوية عن مستوى ما قبل الثورة الصناعية(1850 إلى 1900). فبناءً على الدراسة المنشورة في 11 نوفمبر 2024 في مجلة (Nature Geoscience) فإن حرارة الأرض في عام 2023 ارتفعت قرابة 1.49 درجة مئوية أعلى من مستويات ما قبل الثورة الصناعية، واليوم حتماً ستكون نسبة السخونة أعلى، مما يعني فشل آخر لتنفيذ ما توصل إليه المجتمعون أنفسهم في باريس وعدم الالتزام بالقرارات.

 

وانطلاقاً مما سبق لا بد من المجتمع الدولي، ممثلاً في منظمات الأمم المتحدة المعنية التفكير في آلية إبداعية جديدة ذات جدوى وفاعلية أشد، واقتراح أداة صارمة تضمن تنفيذ القرارات التي تُتخذ في هذه الاجتماعات ومحاسبة أية دولة لا تُفعِّل هذه القرارات، حتى لا تتحول هذه الاجتماعات إلى رحلات سياحية سنوية مجانية لوفود الدول المشاركة.

الخميس، 14 نوفمبر 2024

اجتماعات التغير المناخي الأممية "مضيعة كاملة للوقت"

 

هذه المرة لستُ من يدَّعي ويصف اجتماعات الأمم المتحدة حول التغير المناخي والتي بلغ عددها حتى الآن 29 اجتماعاً، وتُعقد منذ 32 عاماً، وطافت وساحت في معظم دول العالم، بأنها عبثية، ولا فائدة منها، وتُعتبر مضيعة للوقت الثمين، والمال الغالي للشعوب.

 

فقد صرح وزير خارجية "بابو غينيا الجديدة"(Papua New Guinea) "جستن تاشينكو(Justin Tckatchenko)، وهي من الجزر المنخفضة الواقعة مباشرة على المحيط الهادئ والواقعة شمال أستراليا، في الثامن من نوفمبر 2024، أي قبيل أيام من انعقاد الاجتماع رقم (29) للدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التغير المناخي في 11 نوفمبر في أذربيجان، حيث قال بأن "هذه الاجتماعات عبارة عن وعود فارغة ولم تتمخض عنها أية نتائج، ولذلك فهي اجتماعات مضيعة للوقت"، كما أضاف وزير خارجية "بابو غينيا الجديدة" قائلاً: "نحن لن نتسامح بعد الآن مع الوعود الفارغة والتقاعس عن تنفيذ الوعود، بينما يعاني شعبنا من العواقب المدمرة لتغير المناخ، فلم يخرج أي شيء ملموس من مثل هذه الاجتماعات الكبرى متعددة الأطراف". كما قال الوزير:" وقد دارتْ اجتماعات مؤتمر الأطراف الثلاثة الأخيرة في دوائر، ولم تسفر عن نتائج ملموسة للدول الجزرية الصغيرة، ولن يكون الاجتماع (29) مختلفاً، لذلك لن تشارك "بابوا غينيا الجديدة" على المستوى السياسي، فقد أظهر المجتمع الدولي عدم احترام تام لبلدان مثل بلدنا والتي تؤدي دوراً حاسماً في التخفيف من تغير المناخ. لقد سئمنا من التهميش".

 

وهذه التصريحات القوية والشديدة اللهجة لم تأت من فراغ، وإنما بسبب عقودٍ طويلة من الاجتماعات المناخية التي أَطلقتُ عليها سابقاً "اجتماعات السياحة المناخية"، والتي لم تسفر عنها أية نتائج ملموسة وفاعلة ومؤثرة تؤدي إلى إحداث تغيير وبطءٍ في سخونة الأرض وارتفاع حرارتها، إضافة إلى عدم توفير الدعم المالي اللازم للدول التي تضررت بسبب عبث وفساد أيدي الدول الصناعية المتقدمة في البيئة لأكثر من قرنين. فهذه الاجتماعات العبثية أصبحت عديمة الجدوى والفائدة، فالفساد البيئي للكرة الأرضية يسير في خطوات سريعة جداً وواسعة النطاق ولا توازيها ولا تواكبها أية قرارات دولية مناخية يتم تنفيذها لحماية استدامة الكرة الأرضية وخفض حرارتها ووقف التدهور الحاصل لها.

 

ومن أكثر الدول تضرراً لسخونة الأرض وارتفاع مستوى سطح البحر والفيضانات والأعاصير الناجمة عنها هي الدول الجزرية الصغيرة الواقعة مباشرة على سطح البحر، وبخاصة في المحيط الهادئ، فأصاب هذه الدول التي تَلْحقُ بها سنوياً الخسائر في الأرواح، إضافة إلى الخسائر المادية في تدمير المرافق الساحلية، فهذه الدول أصابها الإحباط الشديد، واليأس المدقع، وعدم الوثوق بالمجتمع الدولي ممثلاً في هذه الاجتماعات المناخية السنوية، والكفر كلياً بمصداقيتها وجديتها في محاربة التغير المناخي ودعم ومساعدة الدول الصغيرة الضعيفة التي تعاني من تداعيات هذا التغير المناخي. 

 

ومثل هذه التصريحات التي وردت عن وزير خارجية "بابو غينيا الجديدة"، جاءت أولاً في 22 أغسطس 2024 من رئيس وزراء هذه الدولة "جيمس مارابي" (James Marape )، الذي أصدر بياناً من مكتب رئيس الوزراء والمجلس التنفيذي الوطني حول موقف دولته من اجتماعات التغير المناخي الدورية، وبخاصة الاجتماع رقم (29). فقد برَّر البيان عدم مشاركة حكومته في الاجتماع المناخي "احتجاجاً على الدول أصحاب البصمة الكربونية الكبيرة في العالم، لإثبات بأن دول الغابات الكثيفة تطالب جدياً في معالجة قضايا التغير المناخي، وبخاصة المواجهة العملية لقضية الحفاظ على الغابات كاستراتيجية للتخفيف من آثار التغير المناخي". كما ورد في البيان الصادر عن رئيس الوزراء:" إن عدم حضورنا هذا العام للاجتماع سيشير إلى احتجاجنا على الدول الكبرى، هذه الدول الصناعية التي تمتلك بصمة كربونية كبيرة، لافتقارها إلى الدعم السريع لضحايا التغير المناخي من أمم الغابات والمحيطات، فنحن نحتج على الدول التي تشارك في الاجتماعات وتعلن عن الوعود والالتزامات ولكن لا تفي بها". كما أضاف بأن:" اقتصادنا يحتاج إلى المال فنحن نحمي الأشجار التي تعتبر رئة الأرض، بينما تواصل الدول الصناعية انبعاثاتها، فهي لم تدفع لوسائل الحماية".

 

فهذا الإحباط المشهود من هذه الدولة الصغيرة الواقعة على المحيط والمعروفة بكتلة "أوسيس"(AOSIS Bloc)، أو ائتلاف دول الجزر الصغيرة، وهذا اليأس من مصداقية الدول الصناعية والغنية الكبرى من تنفيذ وعودها التي تقطعها على نفسها أثناء اجتماعات التغير المناخي، ليس فقط نابعاً عن هذه المجموعة من الجزر وحدها، وإنما هو رأي سائد وعام، واقتناع كامل عند الكثير من الدول الضعيفة الفقيرة النامية والشديدة التضرر من تداعيات التغير المناخي، والتي لا تمتلك في الوقت نفسه الموارد المالية من جهة، كما لا تمتلك الموارد والخبرات التقنية من جهة أخرى للتصدي لهذه التداعيات ومواجهتها وتخفيف قوتها وشدتها على مرافق دولها.  

 

وفي تقديري فإن هذا اليأس من اجتماعات التغير المناخي وضعف قراراتها وعدم تنفيذها سيتفاقم وسيزيد بعد انتخاب الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب مرة ثانية للبيت الأبيض. فهذا الرئيس أثبت في السنوات الماضية بأنه عقيدته ضد التغير المناخي، وأنه لا يؤمن بواقعتيه، أو بدور ومساهمة أنشطة الإنسان التنموية في وقوع هذه الظاهرة المناخية، بل ويعتبرها "خدعة واحتيال"، كما إنه يتعالى على الأمم المتحدة، ولا يقدرها ولا يعترف بها، فلا يوجد عنده أي استعداد شخصي وحزبي جمهوري للالتزام بأية قرارات تتمخض عن منظمات الأمم المتحدة عامة، فهو نفسه الذي انسحب رسمياً من منظمة "اليونسكو" في عام 2018، وأوقف الدعم المالي السنوي الذي يقدر بنحو 75 مليون دولار، كما أنه يستصغر اجتماعات التغير المناخي خاصة، ولذلك انسحب في الأول من يونيو 2017 بعد توليه مقاليد الحكم من تفاهمات باريس التي وقع عليها الرئيس الأسبق باراك أوباما.

 

ولذلك فالاجتماع رقم(29) في أذربيجان سيكون أيضاً صدمة قوية أخرى للدول الفقيرة والنامية، فمن أهم بنود الاجتماع هو الجانب المالي وصندوق التغير المناخي، والذي من المفروض أن يمتلئ منذ عقود ومازال فارغاً بمبلغ وقدره قرابة 2.4 تريليون دولار سنوياً بحلول عام 2035 لدعم ومساعدة الدول الفقيرة والمتضررة من تداعيات وكوارث التغير المناخي. وطبعاً هذا المبلغ لن تتبرع به الدول الصناعية الكبرى، وفي مقدمتها المسؤول الأول تاريخياً عن وقوع التغير المناخي وهو الولايات المتحدة الأمريكية التي على رأسها الآن دونالد ترمب، مما يعني فشل آخر لمثل هذه الاجتماعات التي عبَّرت عنها الدول بأنها عبثية ومضيعة للوقت والجهد والمال. 

الخميس، 7 نوفمبر 2024

البدانة تجر وراءها أمراضاً أخرى كثيرة


وباءٌ جديد بدأ يزحف إلى أعماق المجتمعات البشرية في كل دول العالم، وأخذ رويداً رويداً يتغلغل ويتجذر في أوساط البشر، فتحول اليوم إلى مرضٍ معترف به دولياً وبحاجة إلى رعاية وعناية سريعة للتخفيف من حدة تأثيره على الأفراد والمجتمعات، ومنعه من الانتشار في دائرة أوسع مما هو عليه الآن.

فهذا الوباء كان من علامات ومؤشرات حياة الرفاهية والترف في الغرب، وكان يدل على ولوج المجتمعات الغربية خاصة في سلوكيات خاطئة، والقيام بممارسات غير مستدامة صحية، كتناول الوجبات السريعة والمأكولات المشبعة بالدهون، والمشروبات المحلاة طبيعياً وصناعياً، وشرب الخمر والتدخين، إضافة إلى الجلوس ساعات طويلة دون حركة أمام شاشات التلفاز والهواتف الذكية وألعاب الفيديو.

ولكن عدوى هذه الحياة الغربية والثقافة الاستهلاكية المفرطة في مثل هذه العادات والممارسات اليومية ونمط الحياة غير المستدام انتقلت عدواها إلى جميع دول العالم بدون استثناء، ولذلك ظهر فيهم أيضاً هذا الوباء الجديد حتى عمَّ الكرة الأرضية برمتها.

هذا الوباء هو الوزن الزائد، والسمنة أو البدانة التي أصبحت الآن المؤشر على تبني واتباع الثقافة الغربية الاستهلاكية غير المستدامة، كما أنها تؤكد على خطورة تقليد الغرب في مثل هذه العادات السيئة والسلوكيات غير الصحية. فتفشي هذا الوباء بين البشر في كل دول العالم تؤكده التقارير والإحصاءات الدولية المنشورة، ومنها التقرير الصادر عن "المرصد العالمي للسمنة"(Global Obesity Observatory) التابع للمؤسسة الدولية للبدانة(World Obesity Foundation).

فقد أفاد المرصد العالمي للسمنة في تقريره لعام 2023 بأن نسبة السمنة عالية في معظم دول العالم، فمن أعلى النسب بين دول العالم هي الولايات المتحدة التي وصلت نسبة البدانة بين أفراد الشعب إلى 41.64%، في حين أن قطر جاءت في المرتبة رقم (11) بنسبة 40.79، والكويت في المرتبة (15) بنسبة 38.8، والمملكة العربية السعودية في المرتبة رقم (17) على المستوى الدولي بنسبة 38.13، والأردن بلغت النسبة 34.2، كما جاءت مملكة البحرين في المرتبة رقم (32) بنسبة 32.91، وأخيراً سلطنة عمان بنسبة 26.79% في المرتبة رقم (56).

 

وفي تقديري فإن خطورة هذا الوباء تأتي أولاً في الزيادة المطردة مع الزمن في عدد المصابين به في معظم دول العالم، وثانياً في أن هذا المرض يجر وراءه عللاً وأسقاماً أخرى كثيرة، وتصاحبه عدة أمراض مزمنة أخرى مستعصية، وقد تؤدي إلى مضاعفات تنجم عنها وفاة المريض، أي أن هذا المرض يهدد باقي أعضاء الجسم ويعرضها لمخاطر السقوط في أمراض جديدة.

 

أما المرض الأول الذي قد يأتي نتيجة للبدانة والوزن المفرط فهو عدة أنواع من السرطان. وهناك الكثير من الأبحاث الوبائية التي أشارت إلى وجود علاقة بين البدانة والتعرض لبعض أنواع السرطان، حيث أفادت بأن الإنسان البدين أكثر عرضة من غيره لمخاطر الوقوع في شباك السرطان. ومن هذه الدراسات، تلك المنشورة في مجلة (Nature Genetics ) في 28 أكتوبر 2024 تحت عنوان: " الاختيار المعتمد على السمنة للطفرات المحركة في السرطان". فهذه الدراسة قامت ببحث العلاقة بين البدانة والنمط الوراثي للورم، حيث ارتبطت السمنة بطفرات محددة في سرطان الرئة الغدي وسرطان بطانة الرحم، أي أن السمنة هي المحرك لعدم التجانس المسبب للمرض في بعض أنواع السرطان.  

 

والمرض الثاني فهو بعض أمراض القلب، ومنها فشل القلب(Heart Failure)، فقد نُشر بحث في 9 أكتوبر 2024 في المجلة الدولية للبدانة(International Journal of Obesity) تحت عنوان: "العلاقة بين السمنة وخطر الإصابة بمرض فشل القلب وضعف البطين الأيسر بين كبار السن"، وهذه الدراسة تشير إلى وجود العلاقة بين البدانة ومخاطر فشل القلب.

 

والمرض الثالث فهو من أمراض الجهاز التنفسي، وبالتحديد مرض كورونا، حيث نُشرت دراسة في 31 أكتوبر 2024 في المجلة الدولية للبدانة(International Journal of Obesity)  تحت عنوان: "العلاقة بين زيادة الوزن والسمنة وعدوى مرض كورنا"، وهذه الدراسة أشارت إلى أن البدانة تؤثر وتضعف جهاز المناعة عند الإنسان، مما يرفع من احتمال الإصابة بالعدوى من الجراثيم، وبالتحديد فيروس كورونا.

وأما المرض الرابع فهناك إجماع عند الأطباء عليه، وهو علاقة السمنة بمرض السكري من النوع الثاني، حيث أفادت الدراسات إلى أن 4 من كل 5 مرضى مصابين بمرض السكري يعانون من زيادة الوزن والبدانة، كما أن العلماء يؤكدون بأن السمنة هي العامل الرئيس للإصابة بمرض السكري. ومن أجل التركيز على هذا الجانب، وتعميق التوعية الشعبية بهذا البعد من مرض البدانة، سيعقد في البحرين مؤتمر تحت عنوان "السكري والسمنة" في الفترة من 20 إلى 21 نوفمبر 2024.

وأما المرض الخامس فمتعلق بالجانب النفسي للإنسان، حسب الدراسة المنشورة في 18 أكتوبر 2024 في مجلة تقارير علمية (Scientific Reports) تحت عنوان: "مخاطر الاكتئاب والقلق والرغبة في الانتحار عند المرضى البدناء". وفي هذه الدراسة أفاد الباحثون على وجود علاقة بين البدانة والوقوع في أمراض نفسية، كالاكتئاب، والقلق، والميل نحو الانتحار.

وبالرغم من أن البدانة تُعد مرضاً مستقلاً في حد ذاته، إلا أنه لا يوجد إجماع في المجتمع الطبي على أسباب وعلاج المرض. أما بالنسبة للأسباب فهناك عدة عوامل تؤدي إلى الوقوع في وباء البدانة والوزن المفرط، منها الجينات الوراثية عند الفرد وقابليته لزيادة الوزن، ونوعية الميكروبات الموجودة في المعدة، ومنها العادات الغذائية السيئة من الافراط في تناول المواد الغذائية الدهنية والمشروبات الغازية المحلاة والسكريات بشكلٍ عام وشرب الخمر والتدخين، إضافة إلى عدم ممارسة الرياضة. وهذه العوامل تمت دراستها في البحث المنشور في 29 أكتوبر 2024 في المجلة الدولية للبدانة(International Journal of Obesity)  تحت عنوان: "السمنة لدى الأطفال: عوامل الخطر السلوكية والبيئية المرتبطة بمؤشر كتلة الجسم للأطفال بين 2 و 9 سنوات"، حيث سبرت الدراسة غور العلاقة بين زيادة الوزن والعوامل المتعلقة بالسلوك والبيئة، مثل أنماط الغذاء وممارسة الرياضة، وغيرهما. كما قامت دراسة أخرى بالتركيز على دور الرياضة في خفض الوزن، ونُشرت في 10 سبتمبر 2024 في مجلة (Nature Metabolism) تحت عنوان: "الرياضة على المدى الطويل لها آثار إيجابية على الأنسجة الدهنية في حالات زيادة الوزن أو السمنة".

 

وأما بالنسبة للعلاج فمنها تغيير أنماط حياة الإنسان من ناحية نوعية وكمية الغذاء وممارسة الأنشطة الرياضة، ومنها التدخل الجراحي، ومنها أخيراً الأدوية، مثل عقار "أوزمبيك"(Ozempic) المستخدم لمكافحة مرض السكري والبدانة في وقتٍ واحد.

 

ولذلك علينا في منع هذا المرض، وأمراض كثيرة أخرى، وتجنب الوقوع فيها أن نهتم كثيراً بالجانب الذي تحت أيدينا وتحت تصرفنا، وبإمكاننا القيام به بشكلٍ يومي، وبالتحديد اتباع نمط الحياة الصحي والمستدام، والتحول من سلوكيات ضارة إلى سلوكيات صحية، وتغيير الممارسات والعادات اليومية نحو الأفضل من الناحية الصحية. Top of Form