لفت انتباهي كثيراً الخبر المنشور في صحيفة صينية تصدر في هونج كونج(South China Morning Post) في 25 أكتوبر تحت عنوان: "الأقمار الصناعية للصين في خطر بسبب المخلفات الفضائية الناجمة عن انفجار إنْتِلْسَات"، فهذا الخبر يخص كل دول العالم بدون استثناء، وينعكس مباشرة على حياة كل إنسان يعيش على هذا الكوكب.
ويتلخص هذا الخبر في أن الأقمار الصناعية الصينية التي تستخدم لأغراض عسكرية أو مدنية لمعرفة الأرصاد الجوية، أو الاتصالات، أو غيرهما التي تدور حول الأرض في "المدار الجغرافي الثابت" (geostationary orbit)، وهو مدار دائري يقع على ارتفاع 35785 كيلومتراً فوق خط استواء الأرض، قد تتعرض للدمار نتيجة لتحطم وتفكك القمر الصناعي الأمريكي للاتصالات (Intelsat 33e) فوق المحيط الهندي، كما أن هذا الانفجار للقمر الصناعي الأمريكي قد يهدد الآلاف من الأقمار الصناعية الموجودة في أعالي الفضاء. فهذا القمر الصناعي الذي يزن 6600 كيلوجرام ويستخدم في مجال الاتصالات عبر القارة الأوروبية وأفريقيا وآسيا قد تفجر وتحطم في 19 أكتوبر 2024 على ارتفاع قرابة 36 ألف كيلومتر فوق سطح الأرض، وبعيدة نسبياً عن المدار الأرضي المنخفض، حيث معظم الأقمار الصناعية، وتحول إلى أجزاءٍ متناثرة بلغ عددها أكثر من 80 قطعة بأحجام مختلفة، علماً بأن سبب الانفجار غير معروف، فقد يكون اصطدام القمر الصناعي بملايين المخلفات الفضائية التي تحوم حول الأرض بسرعة فائقة، أو أنه تدمر بسبب انفجار وعطل داخلي.
فهذه الكارثة الفضائية التي حدثت اليوم ليست هي الأولى من نوعها، فهي تحيي عند العلماء وتُذكرهم بقضية التهديدات التي قد تسببها المخلفات الفضائية الموجودة في المدارات حول الأرض لهذه المكتسبات الإنسانية الفضائية التي استغرق إنجازها عقوداً طويلة من الزمن. كما إنها تؤكد جهل الإنسان وعدم إدارته السليمة والمستدامة للجوانب السلبية الناجمة عن أنشطته وبرامجه التنموية. فهو الآن في الفضاء الشاسع الواسع على ارتفاعات شاهقة فوق سطح الأرض يكرر الأخطاء التي قام بها منذ قرن ومازالت مستمرة بالنسبة لبيئات فوق الأرض من المحيطات والغلاف الجوي فوقنا مباشرة. فاعتبر الإنسان أن هذه البيئات واسعة، وشاسعة، ويمكن العبث بها كيفما يشاء دون رقيب أو حساب أو مردودات سلبية تنجم عنها، كما أن الإنسان اعتبر هذه البيئات بحجمها الذي لا يكاد أن ينتهي بإمكانها تحمل كل المخلفات الصلبة، والسائلة، والغازية التي يلقيها في بطنها وجسدها دون الإضرار بها على المدى القريب والبعيد.
وهذه النظرة القاصرة والضيقة هي التي تسببت في وقوع قضايا خطيرة منها تراكم المخلفات الصلبة في المحيطات وفي أعضاء أجسام الحياة الفطرية التي تعيش فيها، ومنها تدهور غاز الأوزون في طبقة الأوزون فوق سطح الأرض، ومنها التغير المناخي وسخونة الأرض. والآن نحن أمام قضية أخرى خطيرة جداً لا يعرف أحد مردوداتها على البشرية جمعاء، ولا يستطيع أحد التكهن بعواقبها الوخيمة على التنمية البشرية، ولكن هذه المرة ليست على سطح الأرض، أو في الغلاف الجوي، وإنما في آلاف الكيلومترات فوق سطح الأرض، في هذا الفضاء العظيم اللامتناهي.
فمنذ عام 1957 عندما أَطلقَ الإنسان القمر الصناعي الأول "سبوت نيك"(Sputnik)، أخذت عملية إطلاق السفن الفضائية، والأقمار الصناعية الصغيرة والكبيرة الحجم في ازدياد مطرد لم يسبق له مثيلاً في تاريخ البشرية. ففي عام 2022 كان هناك 6000 قمر صناعي يدور حول الأرض، مقارنة بزهاء 1400 قمر صناعي في عام 2015، ولكن تشير التقديرات على أنه بحلول عام 2030 ستكون هناك طفرة شديدة، حيث يقفز عدد الأقمار الصناعية إلى عدد مهول وهو قرابة 60 ألف قمر صناعي يحوم حول الأرض في الشارع الأرضي المداري المنخفض، حسب تقرير مكتب المحاسبة(Accountability Office) التابع للحكومة الأمريكية في 29 سبتمبر 2022 حول تقييم التأثيرات البيئية الناجمة عن الأقمار الصناعية.
فهذه الأعداد الكبيرة المتزايدة كل سنة تشكل ازدحاماً وكثافة مرورية لم يتصورها الإنسان من قبل في الفضاء حول مدارات الأرض، ولم تخطر على بال أحد، ولم يفكر فيها أي بشر، فتصبح كالاكتظاظ المروري غير المسبوق على سطح الأرض، وستقع حتماً الحوادث المرورية التي نشهدها في شوارع كل مدن العالم. ولذلك فاليوم إذا نظرت إلى السماء العليا، قد ترى أجساماً منيرة، أو قطاراً مضيئاً من الأجسام يسير في الفضاء، وكأن كل واحد منها يسبق الآخر ويريد اللحاق به. وقد تحسب للوهلة الأولى بأن هذه الأجسام، والنقاط المنيرة هي نجوم، أو أقمار طبيعية خلقها الله سبحانه وتعالى، ولكنها في الحقيقة هي الأقمار الصناعية التي وضعها البشر في المدارات الأرضية في الفضاء، وفي بعض الحالات قد تكون هي المخلفات الفضائية الناجمة عن الأقمار الصناعية التي لا تعمل وانتهت صلاحيتها، أو الناجمة عن الاصطدامات لهذه الأقمار في الفضاء العليا.
وخلال السنوات القليلة الماضية تمكن العلماء حتى اليوم من حصر وتوثيق أهم التهديدات التي تسببها هذه الأعداد المهولة من الأقمار الصناعية التي تحول حول الأرض، وبخاصة في "المدار الأرضي المنخفض"(Low Earth Orbit) على ارتفاع يتراوح بين 160 إلى 200 كيلومتر فوق سطح الأرض، كما يلي:
أولاً: ضاق "المدار الأرضي المنخفض" بهذه الأقمار الصناعية التي تُطلق كل يوم من جميع دول العالم، مما زاد من مخاطر وقوع الاصطدامات بين هذه الأقمار الصناعية.
ثانياً: تشير التقديرات المختلفة من وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"، ومن "وكالة الفضاء الأوروبية"، ومن غيرهما من المنظمات الأممية وغير الأممية عن وجود كميات لا حصر لها من المخلفات الفضائية الناجمة عن هجر الأقمار الصناعية التي لا تعمل، وتلك الناجمة عن اصطدام هذه الأجسام في المدارات حول الأرض. فهذه الوكالات تفيد حسب آخر إحصاءاتها بأن عدد المخلفات التي حجمها أكبر من 10 سنتيمترات تزيد عن نحو 40 ألف قطعة، وهناك في الوقت نفسه قرابة مليون قطعة يتراوح حجمها بين 1 سنتيمتر إلى 10. فمع وجود هذه المخلفات التي تسبح في مدارات الأرض بسرعة عالية جداً جنباً إلى جنب، يزيد من احتمال وقوع حوادث الاصطدامات المرورية، ثم هذه الاصطدامات تولد أجساماً كثيرة أخرى، حسب نظرية وظاهرة كيسلر (Kessler Effect) التي طرحت عام 1978، ونُشرت في مجلة (Geophysical Research) في 1 يونيو 1978 تحت عنوان: "تكرار الاصطدامات للأقمار الصناعية: تولد حزاماً من المخلفات".
ثالثاً: هذه المخلفات بأحجامها وأنواعها المختلفة قد تخرج عن مسارها فتدخل الغلاف الجوي الأرضي وتحترق وتتحول إلى قطعٍ صغيرة قد تنزل على رؤوس الناس فتمطر عليهم مخلفات من الفضاء، كما حدث في ولاية فلوريدا الأمريكية(لمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى مقالي المنشور في أخبار الخليج في 29 مايو 2024 تحت عنوان: "مخلفات الفضاء تسقط على رؤوسنا"). وعلاوة على ذلك فإن احتراق الأجسام الصناعية في الغلاف الجوي يسبب تلوثاً لبيئة الغلاف الجوي، وبالتحديد طبقة الأوزون، حيث أكدت الأبحاث بأن هذه الأجسام مصنوعة من الألمنيوم وعندما يحترق يولد جسيمات دقيقة من أكسيد الألمنيوم الذي يؤثر على غاز الأوزون في طبقة الأوزون، أي أنها تهدد طبقة الأوزون التي تحمي الإنسان من أضرار الأشعة فوق البنفسجة، حسب الدراسة المنشورة في مجلة (Geophysical Research Letters) في 4 مايو 2024 تحت عنوان: "استنفاد الأوزون من حرق الأقمار الصناعية أثناء دخولها مرة ثانية في الغلاف الجوي".
رابعاً: وجود هذه الأقمار الصناعية بأعدادٍ كثيفة ومتزايدة تسبب مشكلات لغزو الفضاء الخارجي الواسع، كما أنها تسبب معوقات فنية لعلماء الفلك لاكتشاف ما وراء هذا الفضاء المشهود.
ولذلك نجد بأن أيدي الإنسان المفسدة في الأرض والمستبيحة لحرماتها امتدت الآن كثيراً وتوسعت تأثيراتها لتنتقل من سطح الكرة الأرضية براً، وبحراً، وهواءً إلى أعالي الفضاء الواسع الفسيح، ولا أدري إلى أين تمتد وتصل بعد سنوات قادمة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق