أستغربُ من دولة تعتبر من أعظم دول العالم، وأكثرها تقدماً وتطوراً وأرقاها من جميع النواحي، ولكن في الوقت نفسه هذه الدولة بإمكاناتها المالية والعلمية والتقنية تعجز عن تغيير أنابيب الرصاص البالية والسامة التي أكل عليها الدهر وشرب منذ قرن واحد، والتي مازالت قابعة وموجودة تحت الأرض في بعض الولايات، مسببة بذلك أزمة صحية عامة للملايين من الشعب الأمريكي، ومهددة لصحة الأطفال بالتسمم والخطر والمرض بصفةٍ خاصة!
فقد أجمع علماء العالم منذ أكثر من سبعة عقود على أن عنصر الرصاص سام ويسبب مشكلات وأمراض صحية كثيرة تنزل على الجهاز العصبي وتؤثر عليه من الناحية الذهنية والعقلية والجسدية، وبخاصة عند الأطفال. كما أن الرصاص لا يتحلل وله القدرة على التراكم والتضخم في التركيز في أعضاء الجسم المختلفة، ويؤدي مع الوقت إلى أزمات صحية مستعصية على العلاج، ولذلك قامت الكثير من الدول على التخلص من الرصاص في الكثير من المنتجات الاستهلاكية. فعلى سبيل المثال تمت إزالة الرصاص من وقود السيارات، وبالتحديد الجازولين، كم تم التخلص من الرصاص في الدهان المستخدم في المنازل لصباغة الجدران، وفي الوقت نفسه سعت الدول إلى حظر استخدام أنابيب الرصاص التي تستعمل لنقل مياه الشرب إلى المنازل، وخاصة عندما اكتشف العلماء على أن الأنابيب تتآكل مع الوقت ويتسرب منها الرصاص فينتقل إلى مياه الشرب المستخدمة في المنازل والمدارس وغيرهما.
واستناداً إلى هذه الحقائق واجماع العلماء، وبعد سنوات عجاف من معاناة الشعب الأمريكي وتسمم دمه بالرصاص، ونزول عدة كوارث صحية كالتي وقعت في مدينة فلينت (Flint) بالقرب من ديترويت عاصمة صناعة السيارات بولاية ميشيجن، سنَّ الكونجرس الأمريكي في عام 1986 قانوناً تحت مسمى "قانون مياه الشرب الآمنة"، حيث مُنع وحظر استخدام أنابيب الرصاص لنقل وتوزيع مياه الشرب للناس، كما منع في الوقت نفسه استعمال الرصاص في عملية اللحام للأنابيب.
وبالرغم من هذا التشريع الاتحادي من الكونجرس، إلا أن التنفيذ مازال بطيئاً حتى بعد مرور أكثر من أربعين عاماً، فلم يحظ هذا التشريع بالأولوية، وكأنها قضية غير مستعجلة، وكأن صحة المواطن الأمريكي، وبخاصة الأطفال، فلذات أكبادهم وأساس التنمية في كل دول العالم غير مهمة وليست أولوية بالنسبة للحكومات الأمريكية المتعاقبة، من ديمقراطيين وجمهوريين، كما أنها لم تلق الاهتمام المطلوب من رجال السياسة والقانون في الكونجرس وفي الولايات المتضررة للإنفاق على مشاريع إزالة الأنابيب القديمة البالية والمستهلكة من باطن الأرض في الكثير من الولايات.
فهناك اليوم أكثر من 9 ملايين من أنابيب الرصاص السامة لنقل مياه الشرب إلى منازل الأمريكيين، وهذه الأنابيب إما أن تكون مصنوعة كلياً من الرصاص السام الذي لا يوجد حد آمن له في مياه الشرب، أي إنه يؤذي الإنسان ويضر بالأطفال بأي تركيز كان عليه، وإما أن يدخل الرصاص في تكوينها جزئياً من خلال عملية لحام الأنابيب مع بعض.
وقد لقت هذه القضية اهتماماً متأخراً جداً لا يغني ولا يسمن من جوع من الرئيس بايدن، فجاء هذا الاهتمام في الوقت الضائع من فترة رئاسته بعدما أعلن عدم ترشحه لفترة رئاسية ثانية، كما أن هذا الاهتمام لا يرقى إلى مستوى الحدث وليس له صفة الاستعجال، وهو تسمم الملايين من الشعب الأمريكي. فقد تحرك بايدن واستيقظ بعد نوم عميق لأربع سنوات، وبالتحديد في 8 أكتوبر 2024 وممثلاً في وكالة حماية البيئة لتُعلن عن إزالة أنابيب الرصاص خلال عشر سنوات كحد أعلى، أي بحلول عام 2034، وإلزام شركات مصادر وتوزيع المياه على استبدال الأنابيب. وهذه الفترة الزمنية تعد طويلة جداً للتعامل مع أزمة صحية واسعة النطاق وخانقة ويتعرض لها الملايين من الشعب الأمريكي، وبخاصة الأطفال الذين مازالت أعضاؤهم في طور النمو، فأي تعرض للملوثات والسموم يؤثر في الوقت نفسه وفي المستقبل على أعضاء الجسم وينعكس عليهم عقلياً ونفسياً، وخاصة أن تراكم عنصر الرصاص في الأطفال يؤدي إلى تغيير السلوكيات نحو الأسوأ، ويميل الطفل نحو ارتكاب أعمال العنف والشغب فتصبح تصرفاته أكثر عدوانية.
وكل هذا التأخير في استبدال الأنابيب التالفة والبالية هو عدم رغبة الحكومات الأمريكية للإنفاق على هذا المشروع الصحي الملح، وعدم إعطاء أولوية لصحة غالبية الشعب الأمريكي. وفي تقديري فإن السبب في عدم الاهتمام هو أن معظم أنابيب الرصاص التي مازالت جاثمة في عمق تربة الأرض موجودة في المناطق السكنية الصناعية القديمة التي يسكنها الفقراء من الشعب الأمريكي من ذوي الدخل المحدود، ومن طبقة العمال البسيطين غير المتعلمين والذين ليس لهم من يدافع عن حقوقهم المدنية، وليس لهم المال لاستشارة رجال القانون للتعجيل في التخلص من هذه الأنابيب السامة.
وفي المقابل فإن أموال الشعب الأمريكي تُنفق على ما ليس له علاقة مباشرة بالشعب الأمريكي منذ أكثر من 76 عاماً وهو الكيان الصهيوني بصفة خاصة، وبمبالغ كبيرة وبدون حسيب أو رقيب في هذه المرحلة الوجودية التي يعاني منها الكيان والولايات المتحدة الأمريكية والكثير من الدول الغربية. وقد أكد على هذه الحقيقة التقرير المنشور في 7 أكتوبر 2024 من "معهد واتسن للشؤون الدولية والعامة" التابع لجامعة "براون" تحت عنوان: "إنفاق الولايات المتحدة على العمليات العسكرية لإسرائيل وتلك المتعلقة بعمليات أمريكا في المنطقة، 7 أكتوبر 2023 إلى 30 سبتمبر 2024". فقد أشار التقرير إلى حقيقتين رئيستين، الأولى أن الكيان الصهيوني ينال النصيب الأكبر وحصة الأسد من المساعدات الأمريكية منذ عام 1948، حيث يُقدر المبلغ الإجمالي بأكثر من 251.2 بليون دولار. وأما الحقيقة الثانية فهي أن هذه المساعدات ضربت رقماً قياسياً جديداً، حيث إن الكيان الصهيوني حصل على مبلغ ما لا يقل عن 22.76 بليون دولار منذ 7 أكتوبر 2024، علماً بأن هذا المبلغ في ارتفاع كل يوم.
فمثل هذا الدعم المطلق واللامحدود والمستمر للكيان الصهيوني لينعم من خيرات وثروات أمريكا على حساب الشعب الأمريكي المهضوم والساذج، يبين أولوية الحكومات الأمريكية واهتمامات الكونجرس الأمريكي في رصد الميزانيات وتقديم المساعدات.
ومما سبق أستطيع أن أصل إلى الاستنتاجات التالية: أولاً: أولوية الحكومات الأمريكية المتعاقبة والكونجرس الأمريكي ليست رفاهية عامة الشعب وتحسين مستواه المعيشي وتحقيق سعادته، وإنما الأولوية هي الجانبين الأمني السياسي والاقتصادي، ولذلك تنفق الأموال الباهظة على تحقيق هذين الجانبين، ولو استدعى ذلك خوض حروب بعيدة كلياً عن حدود أمريكا الجغرافية، وإنفاق المليارات من الدولارات على هذه الحروب، والأمثلة كثيرة مثل فيتنام، وأفغانستان، والعراق. ثانياً: فإذا كان الشعب الأمريكي ليس له أولوية عند الحكومات الأمريكية، فماذا نتوقع أن يكون تعاملها مع الشعوب الأخرى؟ وهل يمكن أن نثق بأمريكا لتحقيق أمننا القومي ومصالحنا الأخرى اعتماداً عليها؟
ثالثاً وأخيراً فإن الكيان الصهيوني له الأولوية عند الحكومات الأمريكية في تحقيق أمنه واستقراره واستمرارية وجوده كورم خبيث يُراد له أن ينتشر في كافة الجسد العربي فيلقيه صريعاً ميتاً، فالإحصاءات تؤكد بأن أمريكا أنفقت على هذا الكيان حتى اليوم أكثر من 252 بليون دولار، ولكن لا تريد أن تنفق أقل من 40 بليون دولار كلفة التخلص من الأنابيب البالية وحماية الأمن الصحي للشعب الأمريكي الذي يعاني منذ أكثر من 60 عاماً من هذه الأزمة الصحية المتغلغلة في أعماق الشعب الأمريكي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق