مازال العلماء ومنذ أكثر
من ثلاثين عاماً يبحثون في قضية التأثيرات الصحية للأجهزة اللاسلكية التي تعمل
بالأشعة الكهرومغناطيسية في مجال ترددات الراديو(radiofrequency) والميكروويف، وعلى رأس هذه
الأجهزة التي انتشرت في كل بلاد العالم بدون استثناء، ويستخدمها الصغير والكبير
على حدٍ سواء، ولا يستطيع أحداً أن يتخلى عنها اليوم، هو الهاتف النقال، أو الهاتف
الخلوي.
فهذا الهاتف أصبح الآن
جزءاً أساسياً من حياة كل إنسان، فلا يتحرك إلى أي مكان بدون هذا الجهاز، فهو معه
ويصاحبه أينما ذهب وفي أي وقت من اليوم والليلة، وهو الذي يستخدمه لقضاء كل أمور
وحاجات حياته اليومية، وينهي جميع معاملاته الحكومية وغير الحكومية في البلد الذي
يعيش فيه، وخارج نطاق بلاده.
ولذلك ومع هذا الاستخدام
اليومي غير المنقطع للهاتف لا بد من التعرف عن كثب على كل الأضرار التي يسببها هذا
الجهاز، سواء أكانت اقتصادية، أو اجتماعية، أو نفسية وعقلية، أو صحية جسدية، فيجب
معرفة جميع التأثيرات التي يتركها هذا الجهاز على الفرد من جميع المناحي.
ومنذ بزوغ فجر الهاتف
النقال في المجتمعات البشرية جمعاء وارتفاع أعداد المستخدمين له بأرقام مهولة
متزايدة كل يوم، والباحثون بمختلف تخصصاتهم يعكفون على إجراء دراسات تفصيلية
ومعمقة تشمل جميع الأبعاد والجوانب المتعلقة به، اقتصادياً، واجتماعياً، وبيئياً،
وصحياً. ولكن البعد الذي نال اهتمام ورعاية رجال العلم بشكل كبير وعلى نطاق واسع
ومنذ اليوم الأول من طرح الجهاز في الأسواق هو البعد الصحي العضوي الفسيولوجي
والنفسي والعقلي على الإنسان، وبخاصة إمكانية تعرض الإنسان لسرطان المخ من سوء
الاستعمال، والاستخدام المفرط وغير الرشيد لهذا الجهاز، والتعرض للأشعة
الكهرومغناطيسية في مجال الراديو كل دقيقة من كل يوم لسنوات طويلة من الزمن.
فالعلماء لم يصلوا إلى أي
اجماعٍ حول نوعية التأثيرات الصحية المتراكمة للتعرض للأشعة التي تصدر من الهاتف
أثناء استخدامه ليلاً ونهاراً، وبخاصة لم يحصلوا على الجواب الشافي والكافي
لاحتمال إصابة المستخدم للهاتف للسرطان عامة، وسرطان المخ بصفةٍ خاصة.
واليوم تَنشر منظمة الصحة
العالمية نتائج دراسة شاملة وطويلة الأمد حول ما إذا كان استخدام الهاتف النقال
يؤدي إلى الإصابة بالسرطان، أو بعبارة أخرى احتمال وجود علاقة بين التعرض لأشعة
الراديو الكهرومغناطيسية المنبعثة من الجهاز والإصابة بسرطان المخ، علماً بأن
الأجهزة اللاسلكية التي تستخدم موجات الراديو أو الموجات القريبة منها غير الهاتف
النقال كثيرة، منها أجهزة مراقبة الأطفال، والتلفزيون، والرادار، وشبكات الواي
فاي، وأجهزة الاستشعار عن بعد، وأجهزة تحديد المواقع.
فالدراسة المنشورة في
الثاني من سبتمبر 2024، والتي استغرقت خمس سنوات منذ عام 2019، أكدت أولاً على أن
استخدام الهاتف النقال زاد كثيراً في كل بلاد العالم منذ التسعينيات من القرن
المنصرم، ولكن في الوقت نفسه هذه الزيادة المشهودة لم تؤد إلى زيادة مماثلة في
أعداد المصابين بسرطان المخ، فقد بقيت حالات الإصابة بسرطان المخ مستقرة وغير
مرتفعة بدرجة ملحوظة. أي أن هذه الدراسة الدولية الشاملة لم تجد أية علاقة بين
الاستخدام المفرط للهاتف لأكثر من 10 سنوات والإصابة بسرطان المخ، أو أنواع أخرى
من السرطان كسرطان العنق، والرأس، والدم، والغدة النخامية، والغدة اللعابية.
وعلاوة على هذا الاستنتاج، فقد خلصت الدراسة إلى عدم وجود علاقة بين سرطان الدم أو
المخ وتعرض الأطفال لموجات الراديو من أبراج الهواتف النقالة المنتشرة في كل
مكان.
فمن المفروض أن استنتاجات
اللجنة التي قامت بالدراسة تكون موثوقة وذات مصداقية عالية، فقد تشكلت اللجنة من
11 خبيراً دولياً يمثلون 10 دول، كما أن اللجنة قامت بحصر الدراسات المنشورة حول
هذه القضية في الفترة من 1994 إلى 2022 وعددها 5000 دراسة، حيث قامت بتقييمها
وتحليلها واستخلاص أهم الاستنتاجات منها.
وبالرغم من ذلك فهناك بعض
النقاط والشكوك التي تراودني ويجب أن أذكرها وأبينها للقارئ. أم النقطة الأولى،
فهناك عدم انسجام، أو توافق تام بين استنتاجات هذه الدراسة وتصنيف الوكالة الدولية
للطاقة الذرية، وهي ذراع منظمة الصحة الخاص بأبحاث السرطان. فقد قامت هذه الوكالة
المتخصصة بالسرطان في عام 2011 بتصنيف موجات الراديو بأنها من المحتمل أن تكون
مسرطنة للإنسان، أي أنها تقع في الفئة(بي 2) من قائمة المواد المسرطنة، مما يعني
عدم استبعاد الوكالة لاحتمالية الصلة بين موجات الراديو والإصابة بالسرطان.
وأما النقطة الثانية فإن
هذه الدراسة لم تجر أية تجارب مخبرية أو ميدانية أو وبائية حديثة تقدم نتائج جديدة
تضيف إلى نتائج الدراسات السابقة التي لا تعد ولا تحصى حول علاقة موجات الراديو
الكهرومغناطيسية والوقوع في شباك السرطان، وإنما قامت فقط بجمع الدراسات السابقة
المتعلقة بهذه القضية، ثم تحليلها وتقييمها واستخلاص النتائج منها، والوصول إلى
استنتاجات محددة مبنية عليها.
وأما النقطة الثالثة فإن
هذه الاستنتاجات ليست نهائية، فالعلماء حول العالم مازالوا مشغولين بإجراء دراسات
وبائية جديدة حول العلاقة بين الهواتف النقالة والجوانب الصحية، سواء أكانت مرض
السرطان أو أمراض أخرى، وفي الكثير من الحالات تأثير مثل هذه الأجهزة وموجات
الراديو التي تنبعث منها تراكمي وتأخذ سنوات طويلة جداً لكي تنكشف وتظهر على
الإنسان.
وأما النقطة الرابعة،
فبالرغم من هذه الاستنتاجات المطمئنة إلا أنني أُحذر من فرط الاستخدام وسوء
الاستعمال، ويجب كلما أمكن تجنب التعرض لهذه الأشعة بشكلٍ مباشر ولأوقات طويلة من
اليوم. ففي بعض الحالات هذه المؤثرات والملوثات الخارجية، سواء أكانت فيزيائية أو
كيميائية فإنها قد تعمل بشكل تعاوني مع بعض لتحدث تأثيراً تراكمياً سلبياً على صحة
الإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق