السبت، 25 أكتوبر 2025

تصفية قضية التغير المناخي

 

تاريخ ترمب مع قضية التغير المناخي وسخونة الأرض مظلم وأسود منذ الفترة الأولى من رئاسته. فهو في حالة حرب وعداء مزمن مع هذه القضية الدولية العامة والمشتركة التي تؤثر على جميع دول العالم بدون استثناء، الغنية منها والفقيرة، المتقدمة منها والمتأخرة، فالجميع يقف سواسية كأسنان المشط أمام تداعياتها التي لا تُبقي ولا تذر.

 

وبالرغم من ذلك فإن ترمب يقف ضدها كلياً، بل ويعرقل ويبعثر جهود دول العالم الساعية نحو مواجهتها، ومكافحتها تحت سقف تشريعي واحد هو المعاهدات والتفاهمات الدولية حول التغير المناخي، والتي بدأت أولاً بـ "الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة حول التغير المناخي". وهذه الاتفاقية الإطارية هي التي وضعت قاعدة التفاوض الدولية حول بنود معاهدة دولية مشتركة يلتزم بها الجميع.

 

فترمب عمل على عدة جبهات منذ توليه السلطة ودخوله البيت الأبيض في الفترة الأولى من حكمه، واليوم في الفترة الثانية إلى إضعاف وافشال هذه الجهود الدولية، وتصفية قضية التغير المناخي برمتها من خلال توجيه ضربات قاضية تُسقط هذه القضية كلياً من على جدول أعمال المجتمع الدولي واجتماعات الأمم المتحدة المناخية. ومن أجل ذلك يعمل ترمب جاهداً على تهميش هذه القضية على المستوى الأمريكي القومي، ويحاول اجتثاثها من هموم وشؤون المواطن الأمريكي، واحداث تغيير جذري بشكلٍ منهجي مدروس في الرأي العام الأمريكي حول واقعية هذه القضية الدولية التي تواجه كوكبنا عامة في كل شبرٍ منه، وإقناع الشعب الأمريكي بأن التغير المناخي ظاهرة طبيعية تحدث في كل دول العالم، ولا دور لبرامج الإنسان التنموية في وقوعها، إضافة إلى نشر المفهوم الخاطئ والمضلل بأن تداعيات التغير المناخي لا تضر بصحة الإنسان، ولا تمس حياته العامة بسوء.

 

فالجبهة الأولى كانت ثقافية وتوعوية من ناحية عدم الاعتراف بنزول واقعة التغير المناخي، والتشكيك في وجود أي دور للإنسان وأنشطته التنموية في نزول تداعيات التغير المناخي، وبخاصة ارتفاع حرارة الأرض وزيادة سخونتها والكوارث المناخية التي تنجم عنها. فبدأ أولاً بإدخال البعد الأجنبي في هذه الظاهرة، فقال عدة مرات واصفاً قضية التغير المناخي بأنها حيلة وخدعة صينية تهدف إلى وقف عجلة التنمية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعرقلة العملية الإنتاجية في أمريكا. كما وصفها في مناسبات أخرى بأنها "أسطورية"، و"غير موجودة" و "خدعة غالية". وأخيراً قال وبكل وضوح مخالفاً الاجماع الدولي وأمام الملأ في اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 23 سبتمبر 2025 بأن: "هذا التغير المناخي هو أعظم عملية احتيال تم ارتكابها على الإطلاق في العالم، وفي رأيي كل التنبؤات التي قدَّمَتها الأمم المتحدة كانت خاطئة"، كما أضاف قائلاً: "إذا لم تَتَخَلصْ من هذه الخدعة، فإن بلدك سوف يفشل".

 

كما أن ترمب من ناحية تحويل الرأي العام الأمريكي وتصفية واستئصال القضية برمتها من المجتمع الأمريكي، كلَّف وزير الطاقة "كريس رايت"(Chris Wright) الذي كان يعمل في مجال النفط ويعادي التغير المناخي، بتعيين خبراء مرتزقة ينشرون تقريراً جديداً يقدم رؤيته وسياسته حول التغير المناخي، مخالفاً بذلك سياسة الحكومات الأمريكية السابقة، وأُطلق على هذا الفريق من الخبراء "مجموعة العمل المناخية". وقد جاء تقرير وزارة الطاقة المناخي في 23 يوليو 2025 في 140 صفحة تحت عنوان: "مراجعة نقدية لتأثيرات غازات الاحتباس الحراري على مناخ الولايات المتحدة". وهذا التقرير احتوى على أكثر من مائة بيان خاطئ ومضلل للرأي العام، وأحدث زلزالاً علمياً لدى علماء المناخ في أمريكا خاصة، ونشروا تقارير كثيرة رداً على هذا التقرير غير الدقيق والانتقائي وغير المستقل. وفي الوقت نفسه يعمل ترمب على تغييب وإلغاء المصطلحات الخاصة بالتغير المناخي في التقارير الرسمية الصادرة من الوزارات والوكالات الحكومية حتى ينساها الناس وتنتهي مع الزمن. فقد نشرت صحيفة "بوليتيكو" مقالاً في 28 سبتمبر 2025 تحت عنوان: "وزارة الطاقة تضيف "التغير المناخي"، وكلمة "الانبعاثات"، و"الأخضر" ضمن قائمة الكلمات الممنوع تداولها، وعلى المعنيين في الحكومة تجنب استخدامها.

 

ومن جانب آخر تعمد ترمب على تهميش علماء المناخ محلياً ودولياً، وتشويه سمعتهم، وخبرتهم، وعلمهم حتى يشكك الناس في مصداقيتهم ومصداقية الاستنتاجات التي توصلوا إليها حول التغير المناخي. وفي بعض التصريحات البذيئة والتي لا تليق برئيس دولة عظمى، سخر واستهزأ ترمب وأمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر 2025 بعلماء المناخ حول العالم، وقال أنهم "ناس أغبياء"، وأن النتائج التي تمخضت عن أبحاثهم حول التغير المناخي ليست لها علاقة بالواقع، وأنها غير صحيحة، ولا تستند إلى الأدلة العلمية الدامغة.

 

والجبهة الثانية لاجتثاث قضية التغير المناخي قومياً ودولياً كانت من الناحية التشريعية المتعلقة بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية الهادفة إلى المواجهة الدولية المشتركة لخفض انبعاث الملوثات المتهمة بوقوع التغير المناخي، وفي مقدمتهم غاز ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان. أما على المستوى الدولي فقد انسحب ترمب مرتين من تفاهمات باريس لعام 2015، فالمرة الأولى كانت خلال الفترة الأولى من حكمه، والثانية في يناير 2025 عند توليه السلطة للمرة الثانية، مما أدى إلى تأخر وبطء الجهود الدولية لخفض الانبعاث وإيقاف سخونة الأرض. فوجود الولايات المتحدة في مثل هذه المعاهدات الدولية مهم جداً لنجاح أي عمل دولي مشترك لحماية ارتفاع حرارة كوكبنا، فأمريكا تُعد تاريخياً الدولة الأولى المسؤولة عن وقوع التغير المناخي، ولذلك من الناحية الأخلاقية يجب أن تؤدي دورها في خفض انطلاق الملوثات المتهمة بسخونة الأرض.

 

وأما على المستوى القومي فقد ألغى ترمب أكثر من مائة قانون قومي أمريكي له علاقة بالزام المصانع ومحطات توليد الكهرباء وعمليات استخراج النفط والفحم والغاز الطبيعي في خفض انبعاثاتها من غازات الدفيئة والاحتباس الحراري. فهذه الشركات غير ملزمة في عهد ترمب باتخاذ أي إجراء لخفض انبعاثاتها. كذلك في هذا الإطار فإن ترمب يحارب استخدام مصادر الطاقة المتجددة البديلة والنظيفة مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وغيرهما، ويشجع في الوقت نفسه استخراج وحرق الوقود الأحفوري، وبخاصة الفحم في توليد الكهرباء لأمريكا. بل وإن ترمب أرسل مبعوثيه إلى أوروبا ودول كثيرة أخرى ليحثهم على استخدام الفحم والنفط، والتخلي عن مصادر الطاقة المتجددة غير الملوثة للهواء وغير المؤدية لوقوع ظاهرة التغير المناخي.

 

لذلك من الواضح من جميع الممارسات والقوانين والأوامر التنفيذية التي أقرها ترمب منذ دخوله البيت الأبيض لأول مرة أنها جميعها تصب في هدفٍ واحدٍ كبير، وهو تصفية قضية التغير المناخي على المستويين القومي الأمريكي والدولي.

 

فهل ستنجح دول العالم بزعامة الصين من قيادة دفة سفينة التغير المناخي دون ركوب أمريكا على متنها، ومنع تصفية هذه القضية الوجودية لنا ولكوكبنا؟ 

 

الأربعاء، 22 أكتوبر 2025

هل نجحتْ أمريكا في تجربة السماح للحشيش؟

 

هناك وهمٌ يشيعه وينشره البعض بأن الدول إذا منعت مُنتجاً محرماً كالخمر، وتدخين التبغ والحشيش، أو سلوكاً منحرفاً كالشواذ والانحراف الجنسي، فإن هذا الحظر يؤدي إلى خلق سوق سوداء داخل الدولة لتداول هذا المنتج، ونشوء تجارةْ بيع وشراء خارج أنظار ورعاية ونظام الدولة. كما يروجون أصحاب الضمائر الميتة بأن هذا المنع من الدولة يحفز الناس على حب الاستطلاع والخوض في تجربة ممارسة هذا السلوك غير السوي والشاذ. ولذلك يدَّعي أصحاب هذا الوهم الخبيث والمروجون له، ومن أجل تجنب السوق السوداء، بأن على الدول تحليل هذه المنتجات والمواد المحرمة والمحظورة، وإطلاق سراحها داخل البلاد.

 

وهذا بالفعل ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة للمخدرات، وبالتحديد الحشيش، أو الماريجونا أو ما يُطلق عليه بنبات القنب. فهناك عدة مبررات وأوهام قدَّمها شياطين الإنسان للسماح باستخدام الحشيش، منها أولاً القضاء على السوق السوداء وإخضاع تداول الحشيش تحت سلطة الولاية، وإنشاء سوق رسمية آمنة ومقننة ومنظمة، ثم ثانياً ومن الناحية الواقعية عدم قُدرة الولايات الأمريكية على التحكم والسيطرة على انتشار تعاطي الحشيش بسبب كثرة أعداد الأمريكيين المدمنين والمتاجرين الذين أُدخلوا السجون لبيع وتعاطي الحشيش حتى اكتظت وازدحمت بهم، وثالثاً تحقيق النمو والازدهار الاقتصادي للولايات من خلال فرض الضرائب والرسوم وخلق الكثير من الوظائف لحل أزمة البطالة.

 

فهذه المبررات والحُجج الواهية التي يُراد بها الباطل وتحقيق ثروة طائلة لبعض المنتفعين من الناس ومن تجار المخدرات والأخلاقيات المنحرفة، بدأت تغزو رويداً رويداً العقل الأمريكي، وبدأت تُقنع المشرع بأنه لا بأس من السماح لاستخدام الحشيش لأغراض شخصية وللترفيه والترويح عن النفس. وهذا السماح مرَّ بعدة مراحل، فكانت الخطوة الأولى بفك الحزام قليلاً عن الحشيش من ناحية العقوبات، حيث تجرأتْ أول ولاية أمريكية هي ولاية أوريجن في عام 1973 بعدم تجريم كل من يُمسَك وبحيازته كميات بسيطة من الحشيش لأغراضه الشخصية، فلا يدخل السجن، ولا يدفع أية غرامة مالية لحيازته لهذه الكمية الفردية للحشيش. ثم المرحلة الثانية كانت بالاستعمالات الطبية في عام 1996 في ولاية كاليفورنيا، وأخيراً فتح الباب على مصراعيه للسماح لحيازة الحشيش واستخدامه بصفة شخصية للترفيه عن النفس، حيث صوَّت سكان ولايتي كولورادوا وواشنطن في نوفمبر من عام 2012 للسماح للحشيش للاستخدام الشخصي. وأما المحصلة الإجمالية الحالية للقائمة السوداء التي دخلت في نفق استخدامات الحشيش المظلم فهي 33 ولاية للاستعمال الطبي، و 23 ولاية إضافة إلى العاصمة واشنطن ومقاطعة جوام للاستعمال الشخصي.

أما على المستوى الاتحادي فإن تحليل الحشيش يمشي الآن في المراحل نفسها التي مرَّ بها على مستوى الولايات. فمن المعلوم حالياً بأن الحشيش يقع على المستوى الاتحادي ضمن الجدول رقم (1) للمواد المحظورة والمقيد استخدامها والتي ليست لها فوائد طبية وعلاجية، مثل الهيروين والـ(LSD)، استناداً إلى قانون عام 1970 حول "المواد المقيد استخدامها" (Controlled Substances Act). ولكن الرئيس بايدن بدأ بالخطوة الأولى من التعامل مع الحشيش، حيث أصدر إعلاناً في السادس من أكتوبر 2022 تحت عنوان: "الإعلان عن العفو عن الجرائم البسيطة المتعلقة بحيازة الحشيش". وهذا الإعلان يتكون من نقطتين هامتين، الأولى هي العفو على المستوى الاتحادي عن المجرمين الذين أُدينوا بتهم حيازة المخدرات بكميات قليلة، كما دعا بايدن حكام الولايات إلى اتخاذ القرار نفسه للإفراج عن مسجوني حيازة الحشيش على مستوى كل ولاية، وأما النقطة الثانية فهي إعلانه بأنه سيتخذ الإجراءات اللازمة لإجراء مراجعة شاملة، وبالتحديد حول وضع الحشيش في الجدول الأول وتصنيفه ضمن المواد المحظورة والتي لا فائدة منها.

ومما شجع الرئيس بايدن على اتخاذ مثل هذه الإجراءات هو أولاً التشريع الذي أصدره مجلس النوب في الأول من أبريل 2022 بعدم تجريم حيازة الحشيش على المستوى الاتحادي، وثانياً الارتفاع المطرد مع الزمن في نسبة المواطنين الأمريكيين الذين يرغبون في السماح لاستخدام الحشيش. فاستطلاعات الرأي التي قامت بها عدة جهات مختصة مثل(Pew Research Center) و (Gallup poll) أفادت بأن 68% من الأمريكيين يريدون السماح لاستخدام الحشيش، مقارنة بنسبة 12% عام 1969، ونسبة 31% عام 2000، ثم 50% عام 2013. كما أفادت الإحصاءات بأن 16% من الشعب الأمريكي يدخن الحشيش ومعظمهم من الشباب من 18 إلى 34، مقارنة بنسبة 7% في عام 2013. كذلك أشارت الاستطلاعات في 30 أغسطس 2022 بأن 48% من الشعب أفادوا بأنهم جربوا تدخين الحشيش، في حين أن النسبة كانت لمن جرب تدخين الحشيش 4% فقط في 1969، ثم 24% في 1977، و 33 في 1985، وارتفعت إلى 40% في 2015. 

ولكن ما هو واقع الحال بالنسبة للسماح للحشيش الآن في أمريكا، هل هي تجربة ناجحة، أم فاشلة؟

 

للإجابة عن هذا السؤال أنقلُ لكم تصريح حاكمة ولاية نيويورك "كاثي هوكل"(Cathy Hochul)، كمثال واحد فقط، حيث قالت بعد تجربة مريرة خاضتها مع السماح للحشيش في الولاية منذ عام 2021، فوصفت التجربة بأنها "كارثة"، كما قالت بأننا نعجز كلياً في السيطرة على متاجر بيع الحشيش غير الرسمية وغير المرخص بها. فهناك 140 محلاً في الولاية لبيع الحشيش المرخص نظاماً، في حين أن هناك ما يتراوح بين 2000 إلى 8000 محل غير مرخص في مدينة نيويورك فقط. فقد تكونت أسواق سوداء مزدهرة ومنتشرة في جميع أنحاء الولاية، ومن المستحيل الآن السيطرة عليها، والتحكم في بيعها للحشيش على الأطفال وطلاب المدارس، وعلى أصحاب الجرائم المنظمة.

 

فهناك اليوم الكثير من الدراسات العلمية والتحقيقات الإعلامية التي تؤكد أن ما حدث في ولاية نيويورك يحدث أيضاً في الولايات الأخرى، وتشير جميعها إلى أن السماح للحشيش كان مكراً وحيلة شيطانية، وعبارة عن وهم وخدعة عظيمة وقع فيها الشعب الأمريكي برمته، ويعاني الآن من ويلاتها وتداعياتها العقيمة على الفرد، والأسرة، والمجتمع. فعلى سبيل المثال، نشرتْ مجلة "النيوزويك" في 12 مارس 2025 تحقيقاً تحت عنوان:" تجربة تحليل الماريجونا تتلاشى"، إضافة إلى المقالين في مجلة "نيو يوركر"(New Yorker)، الأول تحت عنوان:" المشكلة الحقيقية للحشيش المسموح به رسمياً"، والمنشور في 3 يوليو 2024، والثاني المنشور في 19 فبراير 2024 تحت عنوان: "الحشيش المسموح في نيويورك كان بمثابة انقلاب. ماذا حصل؟

 

وكل هذه التقارير حول كارثية السماح للحشيش لأغراض شخصية، تمخضتْ عنها عدة استنتاجات عامة، منها ما يلي:

أولاً: السماح للحشيش لم يمنع نشوء السوق السوداء في جميع الولايات، فقد نمت تجارة الحشيش السوداء في ظل وجود محلات بيع الحشيش الرسمية، مما كان له مردوداً عكسياً على نطاق واسع، وهذا يعني خطأ وفشل نظرية "اسمح للمنتج في الأسواق حتى لا تنشأ سوق سوداء".

ثانياً: حالات الاعتقال لجرائم مرتبطة بالحشيش زادت في بعض الولايات على عكس الادعاءات الجميلة التي كانت تقول بأن جرائم الحشيش والمخدرات ستنخفض أو ستتوقف عند السماح لها رسمياً. كذلك زادت الحوادث المرورية المميتة التي لها علاقة بتعاطي الحشيش.

ثالثاً: ارتفعت شكاوى الناس من تلوث الهواء في البيئات الداخلية والخارجية في المنازل والأحياء السكنية، ومحلات ومقاهي تدخين سجائر الحشيش، ومحطات القطارات والحافلات بسبب رائحة دخان الحشيش النفاثة والقوية، إضافة إلى تدهور جودة الهواء وصحة الناس من مدخنين وغيرهم من الذين يستنشقون الدخان، كما هو الحال بالنسبة لتدخين سجائر التبغ.

 

فاليوم تأكد للكثيرين في الولايات المتحدة أنهم استعجلوا كثيراً دون إجراء دراسات شاملة ومعمقة عن تداعيات السماح لبيع الحشيش، كما عرفوا الآن أن إيجابيات السماح لبيع الحشيش التي تم تسويقها للناس ما كانت إلا كسرابٍ بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. ولذلك فإجراءات تحليل الحشيش والسماح له لأغراض شخصية وترفيهية ستخضع الآن لمراجعة شاملة من جميع النواحي، متمنياً من جميع دول العالم الاتعاظ بتجربة أمريكا الفاشلة، والتعلم من دروسها وعبرها وهفواتها.

الاثنين، 6 أكتوبر 2025

اتعظوا من أخطاء الدول الصناعية

 

حوادث وكوارث بيئية صحية كثيرة متطابقة في نوعيتها وتأثيراتها وقعت في كبريات الدول المتقدمة الغربية والشرقية، وتؤكد هذه الحوادث بأن هذه الدول الصناعية المتطورة اتبعت منهجاً واحداً لا غير في النمو، وتبنت سياسة واحدة متشابهة في تنفيذ برامجها التنموية، وطبقت واستعانت بنمطٍ واحد للأنشطة التنموية في جميع القطاعات الاقتصادية وغير الاقتصادية، ولذلك حصدت جميع هذه الدول على نتيجة واحدة متطابقة، بالرغم من اختلافها وتباعدها الجغرافي، وهي تدمير شامل لكل مكونات البيئة، ووقوع كوارث صحية أودت بحياة الآلاف من الناس بين المرض العضال والموت البطيء.

 

وهذا النمط من النمو اعتمد على عدة فرضيات ومفاهيم خاطئة كانت تسود في كل دول العالم المتقدمة. الأول بأن البيئة ومكوناتها من مسطحات مائية من الأنهار والبحار والمحيطات، والهواء الجوي، عبارة عن أوساط بيئية واسعة وشاسعة في مساحاتها، وعظيمة في امتداداتها، بحيث أنها تستطيع أن تستوعب وتتكيف مع كل ما يُلقى في بطنها من ملوثات سامة وخطرة ومسرطنة، وأن هذه البيئات بفضل حجمها الهائل بقدرتها على تمييع وتخفيف هذه الملوثات مهما كانت أحجامها. ولذلك فتأثيراتها الضارة تنتهي مع الوقت وتزول، فيقل تركيزها، وتضمحل مردوداتها العقيمة على صحة البيئة. والثاني هو اعتبار استقلالية الأوساط البيئة وانفصال بعضها عن بعض، أي لا توجد أية روابط بين مكونات البيئة المختلفة، وأنه لا توجد علاقة وجودية ومصيرية بين كل مكون بيئي وآخر، فإذا اشتكى عضو من مكونات البيئة فإن سائر الأعضاء الأخرى لن تتداعى معها بالسهر والحمى، أي لا تتأثر بما يصيبها. والمفهوم الخاطئ الثالث هو أن مكونات البيئة غير متناهية مهما فعلنا بها، وأن الموارد والثروات البيئية لا تنضب ولا تنتهي ولا تضعف من الناحيتين النوعية والكمية. وأما المفهوم الرابع الذي كان يعتقده الإنسان هو أن سعادة الإنسان ورفاهيته، ورفع مستوى معيشته يتحقق فقط بالنمو السريع غير المنضبط وغير المقيد بأية عوامل أخرى، مثل العامل البيئي، فلا ضير من تلويث البيئة، ولا تداعيات ستصل إلى الإنسان ومجتمعه من سوء إدارة مكونات وعناصر البيئة. 

 

فهذا الفكر المعوق، وهذه الاعتقادات الضيقة وقصيرة الأمد التي مشت عليها الدول في الغرب والشرق، وسارت عليها لتنفيذ برامجها التنموية، ولَّدت عندهم مشكلات بيئية خطيرة متطابقة بسبب تطابق الأفكار والممارسات.

 

وسأُقدم مثالاً واحداً لتطابق الأفكار والأعمال وتطابق النتائج في الدول الصناعية المتقدمة، وهي اعتبار بيئة الأنهار، وهذه المسطحات المائية مواقع خصبة وصالحة للتخلص من ملوثات المصانع وغيرها. فالمثال الأول من قارة أمريكا الشمالية، وبالتحديد من مدينة شيكاغو في أمريكا، والثاني من قارة أوروبا ونهر السين في باريس، والثالث من اليابان من قارة آسيا وبالتحديد نهر جنتسو.

 

فمدينة شيكاجو العريقة في ولاية إيلينوي تتميز بهذا النهر الحضري الذي يبلغ طوله 251 كيلومتراً، أي النهر الذي يسير ويجري عبر قلب المدينة الحضرية، وفي مركزها الصناعي والتجاري الحيويين. ولكن بالرغم من وجود هذا النهر العظيم، وهذه الثروة المائية الهائلة، وهذا المورد الكبير، إلا أن الإنسان حُرِّم منذ قرابة مائة عام، أي منذ عام 1926 حتى 21 سبتمبر 2025، من التمتع بهذه الثروة الغنية، وتم حظر السباحة فيه كلياً، وانخفض بشكلٍ مشهود التنوع الحيوي في النهر من كافة أنواع الحياة الفطرية التي تعيش في الأنهار. فالإنسان منذ القرن الماضي اعتبر هذا النهر بيئة مائية خصبة يمكن التخلص من كافة مخلفاته السائلة، وشبه الصلبة، سواء أكانت مياه المجاري المعالجة وشبه المعالجة، أو المخلفات الصناعية السائلة، أو مسالخ مدينة شيكاجو، حيث اتبع الإنسان الطريقة الأسهل والأرخص، والأقل كلفة من الناحية المالية والتشغيلية على المدى القريب، فما كان منه إلا أن سمح لنفسه صرف جميع المخلفات من مصادرها المختلفة التي كانت موجودة على ضفاف النهر في بطن هذا المورد الثري والغني بالحياة. وبعد سنوات من رمي أحجامٍ كبيرة من المخلفات لم يعد النهر قادراً على تحمل المزيد، ولم يتمكن النهر من تخفيف تأثير هذه المخلفات على جسمه العليل، وبدنه الضعيف، فبدأت أعضائه تشتكي وتتألم من شدة الأضرار التي لحقت به، فتلوث ماء النهر إلى درجة لم يكن صالحاً للشرب والاستحمام وممارسة الرياضات المائية، كما أصابت الحياة الفطرية أعراض الحمى المزمنة والسخونة العالية، فبدأت الأسماك والأنواع الأخرى من الكائنات النهرية في الموت، والانخفاض الشديد في أعدادها. فهذا الحالة الكارثية التي وصلت إليها بيئة النهر على مدى عقود من الزمن، حرَّكت المنظمات والجمعيات المعنية بالبيئة إلى البدء سريعاً في إخراج النهر من حالة الإنعاش، والقيام بالإجراءات العلاجية اللازمة والضرورية لإخراج النهر من غرفة الطوارئ بشكلٍ عاجل. وقد نجح الإنسان في إجراء العملية العاجلة قبل الإعلان عن وفاة النهر، ولكن الكلفة كانت باهظة جداً من الناحية الاقتصادية، والبيئية، والصحية، والاجتماعية، والترفيهية، مما أكد للجميع أن الممارسات التي قام بها الإنسان قبل قرن وامتدت لسنوات طويلة كانت غير مستدامة.

 

وما وقع لنهر شيكاجو في أمريكا، تكرر نفسه مرة ثانية في أوروبا، وبالتحديد في نهر السين في القلب الحيوي النابض للعاصمة الفرنسية، باريس. فهذا النهر التاريخي والثقافي يبلغ طوله 777 كيلومتراً، ويعد من أهم معالم باريس خاصة، وفرنسا عامة، ولكن هذا النهر تعرض لتعديات الإنسان على حرماته والإضرار بكافة أعضاء جسمه، فنظراً لأنه يمشي في وسط المدينة وحوله محطات مياه المجاري والمصانع والمسالخ، فقد صُرفت في بطنه جميع أنواع المخلفات، حتى تشبعت به، فارتفع صوته من الألم والمعاناة الشديدة، فمنع الإنسان نفسه في عام 1923 السباحة في النهر، وتم الحظر على استهلاك الكائنات الفطرية الحية التي كانت تعيش في النهر. ولم يفتح النهر أبوابه للناس إلا في 5 يوليو 2024، أي بعد قرابة 100 عام من إغلاقه تزامناً مع بدء الألعاب الأولمبية الصيفية في باريس في يوليو 2024. 

 

ومن قارة أمريكا الشمالية وقارة أوروبا، ننتقل بكم إلى قارة آسيا في اليابان، حيث المشهد نفسه بكل تفاصيله يتكرر مرة ثالثة، فالأسباب لم تتغير، والنتائج والظواهر التي نتجت عنها متطابقة أيضاً. وهنا نقف أمام نهر جينزوا في مقاطعة توياما الذي تم العبث بصحته وأمنه من خلال صرف مياه المناجم الملوثة بالعناصر الثقيلة السامة في بدن هذه النهر الفطري الطبيعي وهذه الهبة الربانية، وعلى رأسها عنصر الكادميوم والرصاص وغيرهما. ومع استمرار صرف السموم، زاد تركيز الملوثات وتراكمت في مياه النهر التي كانت تستخدم لري أراضي الأرز، مما أصاب الشعب بمرضٍ عقيم زلزل الصحة العامة وأُطلق عليه "إتاي_إتاي"، أي "مؤلم_مؤلم". وبعدها تم إغلاق أبواب النهر للسباحة، وصيد الأسماك، ومنع استخدام مياه النهر للزراعة، ولم يسترجع النهر صحته وعافيته إلا بعد قرابة قرن من الزمن.

 

فهذه الأمثلة الثلاثة ما هي إلا غيض من فيض من أمثلة لا تعد ولا تحصى، ومن مظاهر بيئية، وكوارث صحية عقيمة نزلت على الدول الصناعية المتقدمة الكبرى بسبب ممارساتها غير المستدامة، وتصرفاتها غير المسؤولة والأحادية الجانب، مما يضطرنا إلى الوقوف أمامها للاتعاظ بها، والاستفادة من زلاتها، والاعتبار من هفواتها، وتجنب تكرار الممارسات التنموية الخاطئة التي وقعوا فيها، وإذا لم نفعل ذلك فالنتيجة معروفة ومحسومة، وهي دمار بيئي، وفساد صحي، وتنمية غير مستدامة.

 

الجمعة، 26 سبتمبر 2025

الاعتدال البيئي


بعض الجماعات والمنظمات البيئية الدولية مثل منظمة السلام الأخضر تتبنى أهدافاً بيئية نبيلة، وغاياتها سليمة وبناءه تتمثل في حماية البيئة وثرواتها الفطرية الحية وغير الحية، والكشف عن التهديدات التي تلحق بالبيئة والأضرار تنزل عليها من ممارسات الشركات والحكومات، كما تسعى في الوقت نفسه إلى رفع وتعميق الوعي البيئي العام لدى الشعوب بالقضايا البيئية المحلية، والإقليمية، والدولية، مثل قضايا التغير المناخي، والصيد السمكي الجائر وصيد الحيتان، والقضايا النووية، وهندسة الجينات، وغيرها من القضايا الحيوية الهامة.

 

ولكن في بعض الحالات نجد أن هذه المنظمة تنحرف فتُخطئ في الوسيلة المستخدمة لتحقيق هذه الأهداف، وتنجرف عن سياساتها السلمية في تحقيق مآربها البيئية، فتلجأ إلى العنف والقيام بأعمال استفزازية تُشكل نوعاً من زعزعة الأمن والاستقرار، أو تقوم بممارسات تخريبية للمرافق العامة والخاصة. وكأنهم في مثل هذه الحالات يطبقون المقولة بأن "الغاية تبرر الوسيلة"، أي أن الغاية والهدف النهائي أصبح عندهم يبرر استخدام أية وسيلة، وأية أداة لتحقيقه، حتى ولو كانت عنيفة، وغير ملائمة، وتتنافى مع الأخلاق والآداب العامة، ومبادئ وسياسات الدولة.

 

وهذا أُطلق عليه بسياسة التطرف البيئي، أو استراتيجية التشدد والتنطع في الأعمال والممارسات وتحقيق الأهداف والغايات البيئية. ومثل هذه السياسة المتطرفة والمتشددة تتنافى مع سياسة الإسلام، وتختلف مع المبادئ والقيم الإسلامية، ومنهجية ديننا الرباني الذي يقوم على سياسة الاعتدال والوسطية في كل شؤون المسلم، سواء أكانت شؤون الدين كالشعائر التعبدية والمعتقدات، أو شؤون الدنيا كالمعاملات والسلوكيات بجميع أنواعها. فالشعار الذي يرفعه المسلم في كل شؤون وأمور حياته هو الاعتدال والوسطية، والوسطية البيئية والاعتدال هو أحد أنواع هذه السياسية التي يتخلق بها المسلم. 

 

وهذه السياسة البيئية المعتدلة هي التي توصل إليها الإنسان بعد تجارب وخبرات شاقة ومضنية وطويلة مع البيئة ومواردها الحية وغير الحية، ذهب ضحيتها الإنسان أولاً ثم الحياة الفطرية النباتية والحيوانية ثانياً، وأخيراً الموارد البيئية غير الحية كالماء والهواء والتربة، وأَطلقَ عليها الآن "التنمية المستدامة"، وهي في الحقيقة منهجية الإسلام في التعامل مع أمور الدنيا وشؤونها.

 

ففي السنوات الأولى من الثورة الصناعية الأولى ثم الثانية تبنى الإنسان قاعدة "الغاية تبرر الوسيلة"، فكان هدفه الرئيس هو النمو والإنتاج الكبير والسريع مهما كانت الوسيلة المستخدمة، ومهما كانت النتيجة وما يتمخض عنها من مفاسد عامة على الإنسان، وأضرار عقيمة على مكونات البيئة، وكانت الغاية الكبرى والعظمى للمجتمعات البشرية هي الازدهار والنمو الاقتصادي، وجني المال السريع ولو كان على حساب سلامة البيئة وأمنها وصحة الإنسان. ولذلك تطرف وغالى في ممارساته وأنشطته التنموية، وأَطْلقَ بدون ضوابط أو قيود جميع أنواع الملوثات إلى الهواء الجوي بأحجامٍ مهولة لم يسبق لها مثيلاً في التاريخ، وصرف خليطاً من كافة أنواع السموم إلى المسطحات المائية السطحية والجوفية، وأنتج مخلفات صلبة وغير صلبة خطرة ومشعة بكميات غطت مساحات شاسعة من الأرض وداخل بطن الأرض. وهذا السلوك البيئي المتشدد والمتطرف كان له رد فعل مضاد وقوي، ومردودات شديدة أوقعت كوارث وضحايا بشرية، وأنزلت على كوكبنا ظواهر بيئية خطيرة شملت كل شبر من كوكبنا مثل المطر الحمضي والأسود، والتغير المناخي، وتدهور غاز الأوزون في طبقة الأوزون، والإثراء الغذائي، وظاهرة البحيرات الحمراء، وظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي، والتدهور الشديد وعلى نطاق واسع للتنوع الإحيائي وانقراض الأحياء النباتية والحيوانية، إضافة على ظاهرة التلوث في أعالي السماء وفي الفضاء على ارتفاع آلاف الكيلومترات فوق سطح الأرض.

 

فمثل هذه الممارسات المتطرفة من الإنسان والتي أُطلقُ عليها الإرهاب البشري الشامل لكوكبنا كَونَّتْ ردة فعل طبيعية قوية، وممارسات أخرى متطرفة ومضادة أيضاً من بعض الأفراد والمنظمات البيئية المتشددة في أسلوب منعها لهذا الإرهاب والأدوات المستخدمة في ايقافها. ولذلك اضطر الإنسان عامة إلى مراجعة ممارساته وسلوكه وبرامجه التنموية المتطرفة والمعوقة، وتغيير منهجيته وسياساته، وتصحيح المسار المنحرف الذي مشى عليه عقوداً طويلة من الزمن ليسلك طريقاً معتدلاً ووسطياً، فلا إفراط ولا تفريط، ولا تشدد ولا تنطع ولا غلو، وإنما أخذ جميع احتياجات الإنسان والمجتمع في الاعتبار، وليس فقط الجانب التنموي والاقتصادي وتحقيق الثروة المالية الطائلة.    

 

ولذلك تم طرح المنهج الوسطي، وتبني السياسة المعتدلة التي تأخذ في الاعتبار وتهتم بجميع أبعاد وجوانب التنمية، بحيث لا يؤثر أحدهما على الآخر، ولا يفسد أحدهما صحة الآخر، ولا يتعدى أحدهما على حدود الآخر، ولا يضر أحدهما بالآخر، فيعيش الجميع في أمن وأمان وسلامة واستقرار، فتستديم العملية التنموية على المستوى القومي وعلى المستوى الدولي.

 

فكل عمل تنموي يقوم به الإنسان يجب أن يتصف بالاعتدال، أي يهدف إلى التنمية الاقتصادية دون أن يضحي بالجانب الاجتماعي والبيئي، فتكون تنمية اقتصادية، واجتماعية، وبيئية في وقت واحد، مما يعني أن لا تطغى أهداف أحدهما على أهداف التنمية الاجتماعية والبيئية، فيكون هناك توافق وتكامل بين جميع هذه الأهداف. فأية عملية تنموية تُحقق الازدهار الاقتصادي دون تحقيق الازدهار الاجتماعي والبيئي فهي عملية متطرفة وغير مستدامة، وأية عملية تحقق التنمية البيئية دون تحقيق التنمية الاقتصادية فهي أيضاً متشددة وغير مستدامة. فالمعادلة التي يجب على الإنسان تحقيقها من الناحية العملية والواقعية صعبة جداً، ودقيقة للغاية، وتحتاج إلى فهمٍ عميق، ودراسات مستفيضة ومعمقة لجميع مكونات البيئة الحية وغير الحية، وإلى توازن رشيد بين جميع المتطلبات للتنمية المستدامة، كما تحتاج إلى بذل جهود كبيرة للتوفيق بين كل الجوانب وتخفيف أي ضرر قد ينجم عن البرنامج التنموي على أيٍ من أركان التنمية المستدامة.

 

وسأضرب لكم مثالاً في كيفية التوفيق والتوازن بين كل أركان التنمية المستدامة بحيث يخرج الجميع فائزاً من هذه العملية والمشروع التنموي بأقل قدرٍ ممكن من الخسائر والأضرار. فإذا أردنا إنشاء جسر بحري فهناك عدة تصاميم لإنشاء هذا الجسر، وأرخص هذه التصاميم من ناحية الكلفة المالية هو دفن المناطق البحرية، ولكن عملية الدفن فيها خسائر بيئية كبيرة من ناحية تدمير البيئات البحرية، وقتل كل الكائنات التي تعيش عليها. ولذلك من أجل تقليل الخسائر البيئية وتحقيق التنمية البيئية المستدامة، لا بد من اختيار التصاميم الأكثر كلفة من الناحية الاقتصادية على المدى القريب، ولكن الأقل ضرراً على المدى البعيد على البيئة من ناحية تجنب دفن البحر بقدر الإمكان. وهكذا يتم التوفيق والتوازن بين جميع متطلبات التنمية المستدامة، فكل ركن من التنمية المستدامة يجب أن يضحي قليلاً ويتنازل من أجل الركن الآخر، ويتصف بالمرونة، حتى يكون المشروع قد حقق الاعتدال والوسطية ودخل في باب التنمية المستدامة. 

 

ومن أجل تقنين هذه العملية، صمم الإنسان عدة أدوات بيئية علمية وممنهجة لتحقيق الاعتدال والوسطية لكل مشروع تنموي، ويُطلق عليها "أدوات الإدارة البيئية"، منها أداة تقييم الأثر البيئي للمشاريع، والأدوات الاقتصادية البيئية، وأداة تقييم دورة الحياة. 

 

الجمعة، 12 سبتمبر 2025

تطبيق مبادئ الاقتصاد البيئي على مشاريعنا


أكبر معضلة يوجهها علماء البيئة، وأكثرها تعقيداً وصعوبة هي كيفية اقناع المسؤول الحكومي وصاحب القرار على أن تدهور مكونات البيئة الحية وغير الحية له تأثيرات عقيمة على حياة الإنسان والحياة الفطرية بشقيها النباتي والحيواني، وعلى استدامة جودة الحياة الكريمة والصحية التي يعيش فيها الإنسان.

 

فصاحب القرار لا يأخذ في الاعتبار عند اتخاذ أي قرار لاعتماد البدء في المشروع التنموي إلا الجانب الاقتصادي الإيجابي البحت، من حيث الأرباح التي يجنيها مباشرة وبعد فترة قصيرة من الزمن لهذا المشروع، وبما يُطلق عليه بالجدوى الاقتصادية للمشروع، أي الفوائد الاقتصادية الفورية من القيام به.

 

فالمشكلة إذن تكمن في كيفية اقناع متخذ القرار بأن تدهور وفساد البيئة له تداعيات اقتصادية أيضاً، ولكنها انعكاسات سلبية وليست ايجابية، أي أنها تعتبر كُلفة إضافية للمشروع يجب اتخاذها في الاعتبار، فتُعد خسائر اقتصادية تنجم عن القيام بالمشروع ويجب تضمينها وإدخالها في الحسابات المالية، حيث إنها قد تفوق وتتعدى الأرباح المتوقعة.

 

فما هي الأدوات والوسائل التي يمكن تبنيها واستخدامها لتغيير توجهات ومرئيات وسياسة المسؤول والحكومات، واقناعه بأن الخسائر الاقتصادية المالية المباشرة وغير المباشرة التي تنتج عن تلوث الهواء، والماء، والتربة، أو تدمير بيئة بحرية متنوعة ومنتجة بسبب إنشاء المشروع أكبر وأعلى من الفوائد والأرباح المالية التي سيحصل عليها عند القيام به.

 

وبعبارة أخرى كيف يمكن تحويل، على سبيل المثال، القضاء على الشعاب المرجانية بسبب الحفر والدفان إلى مبلغٍ مالي نقدي ومحسوس؟ وكيف يمكن تحويل تلوث ماء البحر بالأتربة التي تنتج من عمليات الحفر والدفان إلى قيمة سوقية، وكلفة مالية يمكن حسابها وتقديمها كخسائر اقتصادية نقدية للمشروع يُقدرها متخذ القرار ويأخذها في الحسبان؟

 

ومن أجل الإجابة عن كل هذه الأسئلة، قام الباحثون بتصميم واعتماد علم متخصص جداً يجيب عن هذه الأسئلة، وهو "الاقتصاد البيئي". وهذا العلم الحديث نسبياً يُعتبر فرعاً متخصصاً من علم قديم وأوسع وهو علم "الاقتصاد"، ويحاول إيجاد العلاقة بين الاقتصاد والبيئة، وربطهما مع بعض بقيمة مالية نقدية، وإجراء تحليل وتقييم للمؤثرات الخارجية السلبية والضارة لأي مشروع تنموي، وكلفتها على هذا المشروع، مثل تلوث الهواء الجوي ومردوداته السلبية على صحة العمال والصحة العامة، أو تلوث المسطحات المائية، أو تدمير البيئات البحرية وتأثيره على الثروة الفطرية البحرية من أسماك وغيرها، أو انتاج المخلفات الصلبة والسائلة والكلفة المالية الناجمة عن معالجتها والتخلص الآمن منها.

 

فهذا العلم الفرعي المتخصص يَنْبي على فلسفة أن البيئة برمتها، والموارد والثروات البيئية ليست سلعاً مجانية لا قيمة لها مالياً، فيتعامل الإنسان معها وكأنها غير موجودة، ولا فائدة منها للإنسان والنظام البيئي العام، فيُسمح له بتدميرها واستنزافها من الناحيتين النوعية والكمية. فهي إذن حسب علم الاقتصاد البيئي سلع اقتصادية كغيرها من السلع التي يتداولها الإنسان في الأسواق، ويتعامل معها بشكلٍ يومي، فتُباع وتشتري بمبلغ نقدي محدد ومعروف. فإذا تدهورت جودة الهواء بدخول الملوثات إليها نتيجة لإقامة أي مشروع تنموي صناعي أو غير ذلك، فهذا يعني خسائر ناجمة عن المشروع، وكلفة إضافية للمشروع، وتُقدر هذه التكاليف والخسائر بمبالغ مالية محددة حسب نوع وكمية الملوثات التي ولجت في جسمها. كذلك إذا أدخلنا ملوثات كيميائية، أو حيوية كالبكتيريا والفطريات والفيروسات، أو فيزيائية كالضوضاء والأصوات المرتفعة، أو الأضواء العالية الساطعة في المسطحات المائية، أو المياه الجوفية نتيجة للقيام بمشروع تنموي، فإننا بذلك قد سقطنا في خسائر اقتصادية تقدر بمبلغ مالي معين. وهذا ينطبق على تدمير الموائل والبيئات البحرية، من شعاب مرجانية، وفشوت، وحشائش بحرية، وبيئات المد والجزر وغيرها من المواقع البحرية المنتجة. فكل بيئة صغيرة أو كبيرة عبارة عن سلعة اقتصادية تتغير قيمتها المالية حسب أهمية، وتنوع، وثراء هذه البيئة، ونوعية الأحياء التي تعيش فيها، ولذلك فتدميرها نوعياً أو كمياً يعني خسائر اقتصادية نقدية مباشرة.  

 

فالاقتصاد البيئي باختصار يهتم بالقضايا البيئية والمظاهر البيئية التي تنجم عنها كالمطر الحمضي، والمد الأحمر، والتغير المناخي وسخونة الأرض، ويصب اهتمامه على ثلاثة مواضيع رئيسة. الأول هو تحديد الآثار الاقتصادية السلبية، والكلفة المالية المترتبة على التدهور البيئي من الناحيتين الكمية والنوعية، وثانياً معرفة وتحديد أسباب ومصادر التدهور البيئي كماً ونوعاً. وأما الموضوع الثالث الذي يلج فيه علم الاقتصاد البيئي فهو استخدام أدوات الإدارة البيئية، وبالتحديد الأدوات الاقتصادية التي من شأنها منع، أو خفض وقوع الفساد البيئي للمشروع التنموي، مثل أداة الملوث يدفع، أي أن الذي يلوث مكونات البيئة، سواء من الأفراد أو الشركات الخاصة والعامة فعليها تحمل كلفة التدهور الذي نزل على هذه المكونات والحياة الفطرية التي تضررت منها. كذلك من الأدوات الاقتصادية هي فرض الضرائب البيئية على الجهة المسببة لفساد عناصر البيئة الحية وغير الحية، إضافة إلى أداة الدعم والإعفاءات الضريبية لكل من يحمي البيئة ويحافظ على مواردها وثرواتها ويمنع تدهورها كمياً ونوعياً.

 

وعلاوة على ما سبق من أهمية بالغة لإدخال هذا العلم الحديث في شؤوننا اليومية المتعلقة بالمشاريع والسياسات العامة، فإنه يعتبر أداة فاعلة وقوية تصب في تحقيق سياسة أكثر شمولية وافقت وأجمعت عليها دول العالم في قمة الأرض في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية عام 1992، وهي تحقيق التنمية المستدامة في كافة القطاعات ومجالات الحياة.

 

فهذا العلم الحديث يدعم بشكلٍ مباشر تحقيق التنمية المستدامة على مستوى المجتمعات والدول، وعلى مستوى كوكبنا برمته، وبالتحديد يعمل على مواجهة تحديات تحقيق 17 هدفاً عالمياً مشتركاً تم اعتمادها عام 2015 كجزء لا يتجزأ من جدول الأعمال العالمي لعام 2030.

 

ومن أجل مواكبة التطورات الدولية في مجال الإدارة البيئية المستدامة، ومن أجل أن تكون البحرين رائدة في السير جنباً إلى جنب مع قطار التنمية الدولي وجهود حماية البيئة، فلا بد من تبني الأدوات الدولية التي تحقق هذا الهدف، ومن أهمها الاقتصاد البيئي الذي يُدخل ويضم العوامل البيئية الخارجية كتلوث الهواء وتدمير البيئات البرية والبحرية كسلع ذات قيمة مالية سوقية، فتكون كجزء رئيس في حسابات الجدوى الاقتصادية لأي مشروع تقوم به مملكة البحرين.

 

الثلاثاء، 26 أغسطس 2025

تطويع تعريف معاداة السامية للتغطية على الإبادة الجماعية

 

اليوم اعترف العدو قبل الصديق بأن الطامة الكبرى التي نراها في غزة يومياً، ومنذ أكثر من 23 شهراً، هي إبادة جماعية للبشر، وإبادة شاملة لكل مكونات البيئة الحية وغير الحية، وإبادة للتراث التاريخي الثقافي الدولي من كنائس أثرية ومساجد تاريخية.

فالمنظمات الأممية، مثل منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش أكدت على واقعية هذه الإبادة، كما أن منظمات حقوقية إنسانية في الكيان الصهيوني نفسه أدلت بشهادتها ولأول مرة في يوليو 2025 على أنها إبادة جماعية، كذلك صرح الكثير من علماء ومثقفي التاريخ اليهودي ورجال السياسة والحكم عن هذه الحقيقة الكارثية ومحرقة شعب غزة، مثل "عومير بارتوف" في يوليو 2025، والسياسي "يائير غولان"، ورئيس الوزراء الصهيوني السابق "أيهود أولمرت" في 29 مايو 2025. وعلاوة على ذلك، فقد دعا رئيس "الكنيست" السابق "أبراهام بورغ" في 10 أغسطس 2025 يهود العالم إلى رفع شكوى عند محكمة العدل الدولية بسبب جرائم ضد الإنسانية تقوم بها إسرائيل.

ولكن في الوقت نفسه هناك من المجرمين الصهاينة من اليهود وغير اليهود الذين يحاولون بشتى الطرق والوسائل التغطية الشرعية القانونية على هذه الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، فيحاولون الادعاء والتضليل بأن ما يحدث في غزة من عمليات عسكرية هي بسبب أن المقاومة الفلسطينية معادية للسامية، وأنها تريد القضاء على اليهود والدولة اليهودية، ولذلك ما يقوم به الكيان الصهيوني يدخل ضمن باب الدفاع عن النفس وحماية اليهود وأمن الكيان الصهيوني. ولذلك يسعون جادين وبكل الأساليب الشيطانية الماكرة على تحصين الجرائم الصهيونية، وتوفير المناعة لها، ومنعها من المحاسبة والعقاب عن طريق صياغة تعاريف جديدة لمعاداة السامية، أو تطويع التعريفات القديمة لكي تتوافق مع طرحهم الخبيث، وتتماشى مع ادعاءاتهم الضالة بأن ما يحدث في غزة ليست إبادة جماعية، وليست تطهيراً عرقياً وتصفية كاملة للشعب الفلسطيني، وبالتالي إضفاء روح الشرعية القانونية الدولية على الكارثة البشرية والبيئية والإسكانية التي يرتكبونها في غزة، إضافة إلى تحصين وتأمين الكيان الصهيوني من المحاسبة والعقاب على كافة المستويات الدولية.

وهناك في الواقع ثلاثة تعاريف لمعاداة السامية، فالأول أُعلن في 26 مايو 2016 ومن لجنة دولية متخصصة تأسست عام 1998 وأُطلق عليها "التحالف الدولي لإحياء ذكرى محرقة اليهود"(International Holocaust Remembrance Alliance)، وجاء فيه بأن "اللاسامية" أو معاداة السامية هي: "عبارة عن تصور معين لليهود قد يُعَبر عن كراهية تجاه اليهود. فتُوجه التعبيرات البلاغية والجسدية لمعاداة السامية نحو اليهود وغير اليهود وممتلكاتهم، ونحو مؤسسات المجتمع اليهودي والمرافق الدينية".

وأما التعريف الثاني لمعاداة السامية فقد صدر في القدس في 26 مارس 2021 من مجموعة من العلماء اليهود تحت مسمى: "إعلان القدس حول معاداة السامية"(Jerusalem Declaration on Antisemitism). وهذا الإعلان يُعرِّف معاداة السامية بأنها: "التمييز، أو التحيز، أو العداء، أو العنف ضد اليهود كيهود". وهذا الإعلان يحتوي على 15 بنداً استرشادياً حول تفاصيل تعريف معاداة السامية، ويُقدم توجهاً بديلاً نوعاً ما وجديداً، وهو بذلك يُعد أكثر عدلاً وتوازناً من التعريف الأول، حيث يهدف إلى التوازن والتوفيق بين محاربة معاداة السامية من جهة، وحماية حرية التعبير وحماية الحوارات الدائرة المفتوحة حول مستقبل إسرائيل وفلسطين من جهة أخرى.

وأخيراً جاء التعريف الثالث المتضمن في "وثيقة نكسيس"(Nexus Document)، والمُقدم من فريق عمل من كلية بارنارد(Barnard College) وجامعة جنوب كاليفورنيا(Nexus Task Force). وهذا التعريف يفيد بأن معاداة السامية تحتوي على: "المعتقدات والمشاعر السلبية تجاه اليهود، والسلوك العدائي الموجه ضد اليهود (لأنهم يهود)، والظروف التي تميز ضد اليهود، وتعيق بشكلٍ كبير قدرتهم على المشاركة على قدم المساواة في الحياة السياسية، أو الدينية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية". كذلك تتضمن الوثيقة بياناً بأن:" حتى الانتقادات المثيرة للجدل، أو الحادة، أو القاسية لإسرائيل بسبب سياساتها وأفعالها، بما في ذلك تلك التي أدت إلى إنشاء إسرائيل، ليست في حد ذاتها غير شرعية، أو معادية للسامية".

وأما التعريف الأكثر شيوعاً واستخداماً هو التعريف الأول الذي تبنته الكثير من الدول والمنظمات والجامعات، فهناك حتى اليوم 46 دولة حول العالم تستخدم هذا التعريف، إضافة إلى 38 ولاية أمريكية، و45 مدينة، و 50 حكومة محلية في الولايات الأمريكية. أما على المستوى الاتحادي الأمريكي، فقد ذكر ترمب هذا التعريف في الفترة الأولى من حكمه في الأمر التنفيذي حول مكافحة معاداة السامية في 11 ديسمبر 2019، حيث جاء في الفقرة الأولى تحت عنوان: السياسة. "إدارتي ملتزمة بمكافحة نمو حوادث معاداة السامية في الولايات المتحدة وحول العالم". وعلاوة على ذلك، فقد صادق الكونجرس الأمريكي ممثلاً في مجلس النواب في 6 ديسمبر 2023 على قرار ينص بأن "معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية".

وهناك نقطتان مهمتان يجب التنبه إليهما حول هذا التعريف. أولاً فإن هذا التعريف انحرف عن مساره الأصلي، وخالف الأهداف التي وُضعت من أجلها في عام 2016، حيث جاء في مقدمة التعريف بأنه يهدف إلى: "تقوية تعاون الحكومات للعمل نحو عالم بدون إبادة جماعية". أي أن روح التعريف يهدف إلى العمل الدولي الجماعي المشترك لمنع أية "محارق وإبادة جماعية" أخرى قد تُرتكب في حق أي شعب، أو عرق، أو جنس في أي مكان في العالم. ولكن الصهاينة من اليهود وغير اليهود غيروا هذا الهدف من التعريف لأنه لا يحقق مراميهم الخبيثة التوسعية والعنصرية، فعملوا عكس تيار التعريف كلياً، بل وقاموا بالقانون بتجريم كل من يبدي رأياً مخالفاً، أو ينتقد، أو من يقف أمام استمرار الإبادة الجماعية التي يرتكبونها اليوم في غزة من خلال تطويع كلمات هذا التعريف لتخدم أهدافهم الاستعمارية الدنيئة، والقضاء على الشعب الفلسطيني كلياً، وتصفيته وإبادته تماماً حتى لا يكون هناك فلسطيني يطالب بأرض أو وطن.

فكل من ينتقد ممارسات الكيان الصهيوني ممثلة في الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني فهو معادٍ للسامية، حتى ولو كان يهودياً مثل عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الديمقراطي "بارني ساندرز". وكل من ينتقد ممارسات الكيان الصهيوني في ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية فهو يكره اليهود ويعادي السامية، حتى ولو كان مسيحياً متشدداً يدافع عن الكيان الصهيوني مثل النائبة الجمهورية في الكونجرس الأمريكي "مارجوري تايلور جرين". وكل من تعاطف مع الشعب الفلسطيني في غزة فهم أيضاً معادون للسامية، حتى ولو كانوا أنفسهم من الذين نجوا من "محرقة اليهود" في ألمانيا! وعلاوة على ذلك كله، فكل دولة غربية حليفة وصديقة للصهاينة إذا أبدت نيتها للموافقة على دولة فلسطينية فهي تقف في صف حماس، وتدعم وتكافئ الإرهاب، وتعادي السامية. كما أن كل منظمة دولية، كمحكمة العدل الدولية، ومحكمة الجنايات الدولية توافق على إبداء الرأي والمشورة في ما يحصل في غزة فهي تُتهم مباشرة بأنها تقف مع حماس والإرهاب وتعادي السامية. ومن المضحك والجدير ذكره أن الصهيوني ترمب نفسه أُتهم بأنه معادٍ للسامية بسبب استخدامه في خطابه في 4 يوليو 2025 لمصطلح يُشكل حساسية بالنسبة لليهود!  

وأما النقطة الثانية والمهمة جداً فإن هذا التعريف عندما وُضع في عام 2016 كان "غير ملزم قانوناً"، ولكن ما حدث بعد اعتماد التعريف بسنوات، أن الصهاينة بذلوا مجهوداً غير طبيعي، وجندوا كل الطاقات والأدوات لتحويله إلى قانون ملزم لمنظمات الأمم المتحدة وسائر دول العالم بالرغم من معارضة بعض مؤلفي التعريف، ثم تحويل القانون إلى سلاح مرعب لإرهاب كل من يجرؤ على انتقاد ممارسات الصهاينة. ومن الدول التي لها السبق والريادة بشكلٍ فاعل ومؤثر في تحويل التعريف إلى تشريع وسلاح مخيف، وسياسة عامة للدولة هي الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة في عهد ترمب في الفترة الأولى، وحالياً في الفترة الثانية. ففي الفترة الأولى أصدر أمراً تنفيذياً يتبنى فيه التعريف، واليوم يستخدم نفوذه وقوته الرئاسية ليفرض رؤيته وسياسته الموالية للصهيونية في الولايات الأمريكية أولاً، ثم سائر دول العالم ثانياً. فهو يعمل على استئصال القضية الفلسطينية من جذورها في الجامعات بشكل رئيس، حيث ربط سياسة الجامعة في قمع الأنشطة المؤيدة لفلسطين والمعادية للسامية، كما يدَّعي، بالمساعدات والمنح المالية الاتحادية التي تحصل عليها. فبدأ أولاً بفخر جامعات أمريكا في مايو 2025، وأكثرها عراقة وتقدماً فجعلها ترضخ لمطالبه، وآخرها كانت جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس في 7 أغسطس 2025، حيث جمد 584 مليون من الدعم المالي. فقام بابتزاز هذه الجامعات مالياً وقضائياً وقانونياً لإلزامها على إعطاء صفة شرعية خاصة لليهود والصهاينة في الجامعات، وتكميم الأفواه والمُعارضَة، وقمع ومحاكمة وطرد كل من يبدي أي رأي دفاعاً عن القضية الفلسطينية.

وأما على المستوى الدولي فقد حارب ترمب باسم القانون الأمريكي وتحت ذريعة معاداة السامية كل المنظمات الأممية التي لها علاقة بفضح جرائم الكيان الصهيوني، منها انسحابه لأول مرة من مجلس حقوق الإنسان في 20 يونيو 2018، والانسحاب مرة ثانية في 4 فبراير 2025 ووقْف مشاركة أمريكا في المجلس الحقوقي الأممي، إضافة إلى ممارسة ترمب سياسة التنمر سراً وعلناً والضغط الشديد على الحكومات والمنظمات للانضمام إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، ووقف جميع الإجراءات القانونية ضد الحكومة الصهيونية عامة، وضد نتنياهو بصفة خاصة. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، هدَّد المستشار القانوني لوزارة خارجية ترمب في 8 يوليو 2025 "ريد ريبينشتين"(Reed Rubinstein) جميع دول العالم في اجتماع رسمي لمحكمة الجنايات الدولية قائلاً: "نحن نتوقع أن تتوقف جميع الإجراءات ضد الولايات المتحدة وحليفتنا إسرائيل وكل التحقيقات ومذكرات الاعتقال".

فكل هذه الحصانة القانونية والدبلوماسية التي يحمي بها الغرب عامة، وأمريكا خاصة هذا الكيان الصهيوني بحجة معاداة السامية، هي التي أطلقت سراح الصهاينة لارتكاب الإبادة الجماعية الشاملة دون تردد أو خوف من أحد، وجعلتها تفلت من أي حساب، أو مسائلة، أو عقاب.