مع ولوج الإنسان في
التنمية الصناعية تسابقت الدول العظمى والأمم المتقدمة إلى بلوغ نهاية السباق
بأسرع زمن ممكن، وتحقيق التفوق الصناعي والنمو الاقتصادي والاجتماعي للشعوب. ولكن
في الوقت نفسه كان الإنسان يجهل ويغفل عن افرازات هذه التنمية الصناعية الواسعة
النطاق في دول العالم على الأمن الصحي للإنسان ومكونات بيئته في البر، والبحر،
والجو، وفي أعالي السماء.
فقد نسي الإنسان أن هذه
العمليات الصناعية تنجم عنها آلاف الأطنان من الملوثات السامة والمسرطنة التي
تنبعث إلى الهواء الجوي، وغفل كلياً وأهمل ملايين الأطنان من المخلفات الصلبة وشبه
الصلبة التي تراكمت معظمها في مواقع المصانع في المناطق الصناعية وفي المدن، وزادت
كمياتها بشكلٍ كبير سنة بعد سنة حتى تحولت كالقنبلة الموقوتة التي قد تنفجر في أية
لحظة. كما لم يبال الإنسان بملايين الأمتار المكعبة من مخلفات المصانع ومياه
المجاري السائلة الخطرة التي كانت تصرف في المسطحات المائية دون أية معالجة للتخلص
من السموم الكيميائية والحيوية التي كانت تحملها في بطنها. وعلاوة على ذلك كله
فأنشطة الإنسان في الفضاء الفسيح فوق الأرض من السفن الفضائية، وآلاف الأقمار
الصناعية التي تحوم حول الأرض كلها ولدت الملايين من المخلفات الفضائية بمختلف
الأحجام والأوزان، وهذه المخلفات الآن قد تسقط وتنزل من السماء العليا فتهدد أمن
الإنسان وسلامته على سطح الأرض.
فنتيجة لهذا الإهمال،
وبسبب هذه الغفلة الشديدة نزلت على المجتمعات البشرية مظاهر بيئية على المستويين
الدولي والإقليمي، كالتغير المناخي، والمطر الأسود والحمضي، والإثراء الغذائي
وتحول المسطحات إلى اللون الأخضر والأحمر الفاقع، والضباب الضوئي الكيميائي،
وتدهور غاز الأوزون في طبقة الأوزون فوق سطح الأرض. فكل هذه المظاهر ولَّدتْ كوارث
صحية عميقة أثرت على المجتمع البشري برمته، ونجمت عنها أمراض مستعصية على العلاج،
وعلى رأسها السرطان، وأمراض القلب، والجهاز التنفسي.
واليوم يعيد التاريخ
نفسه، فها هو الإنسان يعيد الأخطاء نفسها، ويقع في الهفوات والزلات التي وقع فيها
قبل أكثر من قرن وحتى اليوم، وكأنه لم يتعلم من دروس الماضي، ولم يتعظ بالكوارث
التي نزلت عليه. فقد ولجت الدول المتقدمة والمتطورة ومعها بعض الدول النامية في
سباق جديدٍ طويل ومحتدم جداً، وذي تنافسية عالية، ويتمثل في صناعة تقنية جديدة
وحديثة وفي غاية التطور والتقدم، وهي صناعات التقنية الرقمية، وبالتحديد الذكاء
الاصطناعي. فالكثير من الدول دخلت السباق من أجل تحقيق الفوز، ونيل المرتبة
الأولى، ثم احتكار هذه التقنية من أجل تنميتها ورقيها، وتحقيق مكاسب مالية ضخمة.
فانشغال الإنسان كلياً
بتحقيق السبق النوعي في الذكاء الاصطناعي، وانصراف همه ووقته وجهده نحو هذا الهدف
الكبير، جعله كعادته يهمل ويتجاهل كل إفرازات هذه العملية الصناعية الحديثة، ويغفل
عن تداعياتها، وبالتحديد من الناحيتين المرتبطتين ببعض بعلاقة حميمية قوية، وهما
البيئة والصحة العامة.
فمن المعروف أن مراكز
البيانات والمعلومات التي تُوضع بها أجهزة الحاسب الآلي والأجهزة المتقدمة الأخرى
تحتاج لكل تعمل وتشتغل باستمرار وبكفاءة عالية إلى التكييف الدائم طوال اليوم وعلى
مدى السنة، فدرجة الحرارة في هذه المباني يجب ألا ترتفع عن 18 درجة مئوية، مما
يعني أن مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي تستهلك وتستنزف كميات عالية جداً من
الكهرباء والطاقة، فهي إذن شديدة الاستهلاك للطاقة والمياه في وقت واحد. وهذا
الاستهلاك المفرط للطاقة يعني الزيادة الكبيرة في حرق الوقود في محطات توليد
الكهرباء، مما ينجم عنه أحجام كبيرة من شتى أنواع الملوثات السامة والخطرة
والمسببة للسرطان وتدهور عقيم في جودة الهواء، والذي بدوره ينعكس على الأمن الصحي
للإنسان بشكلٍ مباشر، وبعد فترة قصيرة من الزمن، فيرهق ميزانية الدول بتكاليف
اقتصادية باهظة لعلاج مختلف أنواع الأمراض الحادة والمزمنة التي تسببها ملوثات
الهواء الجوي، وتؤدي إلى الموت المبكر للملايين من البشر حول العالم. ومن هذه
الأمراض المزمنة سرطان الرئة وأمراض الجهاز التنفسي الأخرى، وأمراض القلب، والسكري
من النوع الثاني، والبدانة، والخرف المبكر، وغيرها من الأمراض الكثيرة المرتبطة
بتلوث الهواء الجوي.
وقد تنبه الباحثون إلى
هذه المردودات البيئية والصحية لمراكز بيانات الذكاء الاصطناعي فقاموا بإجراء
دراسات كمية لتقييم حجم الضرر الناجم عن تشغيل هذه المراكز، وبالتحديد من ناحية
حجم ونوعية الملوثات التي تنبعث عنها، وعبء الأمراض الناجمة عنها، إضافة إلى
الكلفة الاقتصادية التي تتحملها الدول لمواجهة هذه الأسقام العقيمة. ومن هذه
الدراسات تلك التي قامت بها جامعة كاليفورنيا في مدينة "ريفر سايد"،
ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا "كالتيك"، ونُشرت في 8 يناير 2025 في مجلة "الأخلاق وعلم النفس"(Ethics and Psychology) تحت عنوان: " الرسوم غير المدفوعة: تحديد
التأثيرات الكمية للذكاء الاصطناعي على الصحة العام". فهذه الورقة العلمية الفريدة من نوعها تقدم منهجية علمية جديدة لتقييم حجم
ونوع الملوثات التي تنطلق خلال "دورة حياة بناء هذه التقنية"(Life Cycle Assessment)، وتقديم تأثيراته على الصحة
العامة، منذ الخطوة الأولى لهذه الصناعة وهي إنتاج شرائح الكمبيوتر إلى بناء
وتشغيل مراكز المعلومات. وقد توصلت الدراسة إلى عدة استنتاجات هامة، كما
يلي:
أولاً: قَدَّرت
الدراسة بأن مراكز البيانات في أمريكا شكلت في عام 2023 أقل من 4% فقط من اجمالي
استهلاك الولايات المتحدة الأمريكية للكهرباء، ونتيجة للازدياد الكبير والمتسارع
غير المسبوق في بناء مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي في معظم مدن أمريكا فإن حجم
الاستهلاك سيرتفع بدرجة كبيرة حتى يصل بحلول عام 2030 إلى 11.7% من اجمالي استهلاك
أمريكا للطاقة.
ثانياً: توصلت الدراسة
إلى أن شركة "جوجل" هي الأعلى من ناحية الكلفة الاقتصادية الناجمة عن
الأمراض من تلوث الهواء لتشغيل مراكز البيانات، وقُدرت بنحو 2.6 بليون دولار خلال
الخمس سنوات القادمة من 2019 إلى 2023، ثم في المرتبة الثانية
"مايكروسوفت" بكلفة 1.6 بليون دولار، وشركة "ميتا" 1.2 بليون
دولار، أي أن الكلفة الاجمالية على الاقتصاد الأمريكي من الذكاء الاصطناعي تساوي
5.4 بليون دولار منذ عام 2019 إلى 2023 وتنفق على علاج الأمراض والموت المبكر
الناجم عن تلوث الهواء من تشغيل مراكز البيانات. ونظراً للزيادة المطردة والواسعة
في استخدام الذكاء الاصطناعي فإن العبء الكلي على الصحة العامة تقدر بأكثر من 20
بليون دولار سنوياً بحلول عام 2030.
فهذا المثال الأخير
للعملية التنموية للإنسان، ممثلة في توسع استخدام الذكاء الاصطناعي، يؤكد بأن على
الإنسان إجراء دراسات معمقة ومستفيضة لجميع أعماله التنموية من ناحية تداعياتها
على البيئة والصحة العامة حتى تصبح هذا التنمية مستدامة ويطول عمرها، وينتفع منها
الجميع، البشر، والحياة الفطرية، ومكونات البيئة.