الثلاثاء، 29 أبريل 2025

هل تحولت أمريكا إلى دولة من دول العالم الثالث؟

 

الثامن من أبريل 2025 كان يوماً مشؤماً حزيناً على كوكبنا، وكان يوماً كارثياً على الكرة الأرضية برمتها وعلى شعوب العالم أجمع. فقد وقَّع الملك ترمب، ملك الولايات المتحدة الأمريكية على أربعة أوامر تنفيذية مظلمة أرجع فيها وقود الفحم المعروف بشدة تلويثه للهواء الجوي، والمتهم الرئيس في وقوع قضية العصر، التغير المناخي، وتداعياتها المهلكة للأرض ومن عليها، إلى سابق عهده الغابر العقيم الذي أكل عليه الدهر وشرب وتجاوزه الزمن، فمكنَّه مرة ثانية ليكون المصدر الرئيس للوقود الأحفوري لتوليد الكهرباء في كل أنحاء الولايات المتحدة، إضافة إلى تشغيل المصانع بجميع أنواعها.

 

فقد هدفت هذه الأوامر التنفيذية الشاذة، والخارجة عن الاجماع الدولي إلى تعميق وتعزيز وتسريع استخراج، وإنتاج، واستخدام الفحم كعنصر أساس في حماية الأمن القومي الأمريكي، وازدهار الاقتصاد الوطني، وتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء من الشعب الأمريكي عامة، ومن مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي خاصة. وهذه الأوامر المخالفة لقرارات الأمم المتحدة ستُطلق كلياً سراح الفحم، وتفتح أمامه الباب على مصراعيه، فلا قيود، ولا رقابة، ولا أنظمة بيئية، ولا تشريعات تعيق وتعرقل استخراجه واستخدامه. كما تضمنت الأوامر إهداء محطات توليد الكهرباء رخصة مجانية رسمية تتمثل في الإعفاء لمدة سنتين من تلويث البيئة، وعدم الممانعة قانونياً من إفساد صحة الهواء الجوي، وبالتحديد بالنسبة للزئبق المعروف بسميته القاتلة، والزرنيخ والبنزين وملوثات أخرى تسبب السرطان للإنسان. فلا مانع في عهد ترمب من تلويث وتدمير البيئة، وتعريض حياة الشعوب للأمراض المزمنة المستعصية، ولا ضير عند ترمب من قتل الناس قتلاً بطيئاً، وكأننا مازلنا في عصر التأخر والرجعية البيئية، في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، عندما كانت المصانع تُفسد البيئة بانبعاثاتها الغازية ومخلفاتها السائلة والصلبة، وكانت الحكومات في الوقت نفسه تغض الطرف عنها وتتجاهل ممارسات المصانع الرجعية. فأمريكا بمثل هذه الممارسات القديمة تقع ضمن الدول النامية المتأخرة بيئياً، والتي تنقصها التشريعات والأنظمة البيئية المقيدة لتلوث البيئة، فيمكن تصنيفها كدولة من دول العالم الثالث التي مازالت تحبو في سن وتنفيذ التشريعات والأنظمة البيئية التي تحمي صحة الإنسان وسلامة مكونات البيئة.

 

وعلاوة على ذلك، فالولايات المتحدة المتقدمة والمتطورة والمتحضرة في جميع المجالات والقطاعات التنموية والتي من المفروض أن تقود العالم في تشريعاتها وممارساتها، أصبحت اليوم في مؤخرة الركب مثل دول العالم الثالث المتأخرة، وفي آخر الصف بالنسبة للهموم البيئية وموقعها ضمن أولويات الحكومة. فمنذ اليوم الأول من دخول ترمب إلى البيت الأبيض، أعلن عن انسحابه من الإجماع الدولي في قضية التغير المناخي، وبالتحديد من تفاهمات باريس لعام 2014، مما يعني أنه ضرب عرض الحائط جهود دول العالم الماراثونية والمضنية التي استمرت أكثر من 33 عاماً بهدف التخلص تدريجياً من جميع مسببات ومصادر وقوع ظاهر التغير المناخي التي رفعت حرارة وسخونة كوكبنا، وفي مقدمة هذه الأسباب حرق كافة أنواع الوقود الأحفوري، وبخاصة الفحم الأشد وطأة والأكثر تنكيلاً بالهواء الجوي ونزول التغير المناخي على الأرض. فترمب اليوم أعاد الفحم إلى الحياة مرة ثانية، ونفخ فيه الروح بعد أن كاد يأفل نجمه ويلقى مصيره في الثرى، كما ألغى جميع المنح التي كانت تعطي لأبحاث التغير المناخي، إضافة إلى إلغاء الإدارات والبرامج التي تهدف إلى مواجهة تداعيات التغير المناخي. فعلى سبيل المثال، ألغى ترمب التعاقد مع "برنامج الولايات المتحدة حول أبحاث التغيرات الدولية"، والذي كان يقدم تقارير دورية للكونجرس عن التغير المناخي. وكل هذا يؤكد بأن ترمب رجع إلى الوراء عقوداً طويلة من الزمن، فتحولت أمريكا إلى دولة متأخرة ورجعية من الناحية البيئية.  

 

وعلاوة على التأخر البيئي، فقد أكدت أمريكا تأخرها أيضاً كغيرها من الدول النامية في جانب الحقوق المدنية والحريات العامة حيث فرضت إجراءات تؤدي إلى تسييس حرية الرأي والتعبير، وأكدت عدوانيتها الشرسة لكل فكر، أو رأي، أو موقف مخالف لسياسة الملك ترمب. وقد أظهرت تأخرها في التسامح مع الآراء الأخرى، وعدم تعايشها وتحملها للأفكار المختلفة من عدة طرق. الأول الضغط العلني الشديد على الجامعات الأمريكية المرموقة لكبح جماح كل متظاهر، أو محتج على الإبادة الجماعية الشاملة للشعب الفلسطيني بحجة معاداة السامية والصهيونية. فعلى سبيل المثال، قررت قاضية أمريكية في 12 أبريل إمكانية طرد الناشط الأمريكي محمود خليل لآرائه المختلفة حول القضية الفلسطينية، واتهم ترمب هذا الشاب البسيط أنه يشكل تهديداً للأمن القومي لأعظم وأقوى دولة على وجه الأرض وللسياسة الخارجية الأمريكية! وفي حالة رفض الجامعة في تغيير سياساتها فستتوقف عنها جميع المنح والمساعدات المالية الاتحادية التي يقدمها البيت الأبيض. كما ألزمت الجامعات إلى تغيير سياساتها وقوانينها لتتوافق مع رؤى وسياسات ترمب. والثاني فهو أسلوب القمع المتبع في بعض دول العالم الثالث المتأخرة بالنسبة لكل من يحتج ويبدي رأياً وموقفاً مخالفاً للحكومة الأمريكية، حتى ولو كان أمريكياً مقيماً، من خلال الاعتقال والمحاكمة والطرد من الولايات المتحدة. كذلك فإن ديمقراطية الولايات المتحدة في خطر، كبعض الدول النامية الدكتاتورية التي يحكمها إلى الأبد مستبد ظالم، حيث إن الملك ترمب صرح في عدة مناسبات أنه يعتزم تغيير الدستور الأمريكي، كما فعلت بعض الدول النامية، ليفسح لنفسه المجال، ويفتح أمامه الباب لولاية ثالثة. وفي الوقت نفسه فإنه يمهد ويدرب أحد أبناءه ليكون وريثاً له في حكم الولايات المتحدة.

 

كذلك من الجانب المالي فهي تعتبر من أكثر دول العالم التي تعاني من ثقل الديون والعبء المالي الذي تحملها على ظهرها سنة بعد سنة، فهي في هذا المجال تُعد من دول العالم الثالث، حتى أن ديونها في عام 2024 قُدرت بنحو 36.2 تريليون دولار. ولكن أمريكا بقوتها العسكرية العظيمة التي تطال أية دولة مهما كانت بعيدة عنها، وبامتلاكها للآلاف من أسلحة الدمار الشامل، فهي تهدد كل دول العالم بالدمار الشامل إذا لم تسمع لها وترضخ صاغرة ذليلة لشروطها ومواقفها السياسية والمالية. فهي بصفة خاصة تبتز دول العالم الضعيفة عسكرياً والفقيرة من ناحية النفوذ الدولي، فتنهب ثرواتها وخيراتها علانية وبدون أي خجل، أو تردد، أو دبلوماسية متحضرة. فتسرق موارد الدول الاقتصادية تحت مسميات متعددة، وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة. إما عن طريق القوة الناعمة من خلال الفرض على الدول الغنية بالاستثمار في أمريكا بمبالغ تصل إلى تريليونات الدولارات، أو عن طريق نهب الثروات بشكل مباشر، كما يحصل الآن في أوكرانيا، أو بالقوة والاحتلال العسكري والضغط الاقتصادي، كما هي النية اليوم بالنسبة لجزيرة جرينلاند التي تنعم بموقع استراتيجي وتزدهر بخيرات الأرض كالنفط، والمعادن النادرة والثمينة، إضافة إلى كندا، وبناما، وغزة.

 

فسلوك الولايات المتحدة الأمريكية وتصرفاتها الشاذة والمستبدة، وممارساتها غير الدبلوماسية وغير المتحضرة والخالية من الأعراف الدولية في الكثير من القضايا الدولية المشتركة من الناحية البيئية، والحقوق المدنية، والمالية، والسياسية، كلها تشير إلى أنها قد نزلت إلى الحضيض وإلى مستوى بعض دول العالم الثالث المتأخرة والرجعية.

 

 

الخميس، 24 أبريل 2025

ثورة الاستدامة، أم الثورات


هوية الثورة التي أنا بصدد الحديث عنها أنها جامعة وشاملة، تغطي جميع القطاعات التنموية، وتشمل كافة المجالات والتخصصات، فهي ليست ضيقة الأهداف، كما هو الحال بالنسبة للثورات السابقة، وليست محددة في قطاع صغير في المجتمع، ولذلك أُطلق عليها بثورة الاستدامة، أي الثورة التي تضمن استدامة جميع الثورات السابقة، وتعمل على استمرارية عطائها وانتاجها لهذا الجيل والأجيال اللاحقة من بعدنا، فهي بذلك تستحق وبكل جدارة لقب "أم الثورات".

 

فالثورة الصناعية الأولى التي بدأت عام 1760 في بريطانيا العظمى كانت متخصصة في تصميم وتطوير المحرك البخاري، وصناعة الآليات والمعدات التي تعمل بالبخار. وهذه الصناعة أحدثت عدة تحولات في المجتمع، فتم استخدام الطاقة الميكانيكية وطاقة الوقود الأحفوري بدلاً من طاقة الحيوانات والطاقة البشرية والأيدي العاملة للإنسان، فحلَّت الآليات مكان الإنسان. وفي الوقت نفسه أحدثت هزة عميقة في نوعية الأعمال والمهن التي كان يمارسها الإنسان، من المهن الزراعية والحرفية البسيطة على نطاق ضيق في الأرياف وضواحي المدن إلى التصنيع والعمليات الصناعية المختلفة في داخل المدن، أو خطوط التجميع الصناعي، مما أدى إلى توسع المدن وامتدادها، وزيادة مساحتها. ومع الوقت ارتفعت وتيرة وسرعة النمو الصناعي من الناحيتين الكمية العددية، ومن الناحية النوعية وزيادة أعداد المواد المنتجة والمصنعة.

 

ثم جاءت الثورة الصناعية الثانية في عام 1900 حيث تخصصت في اختراع محرك الاحتراق الداخلي، كما هو موجود الآن في معظم السيارات التي تعمل بأحد مشتقات النفط، ونجم عن هذه الاختراع العظيم طفرة كبيرة وعلى نطاق واسع في إنتاج وصناعة أعدادٍ كبيرة من المنتجات المختلفة التي يحتاج إليها الإنسان في حياته اليومية وأصبح الآن لا يستغني عنها، فتحول المجتمع برمته إلى عصر الاستهلاك الشديد، والاستنزاف العقيم للموارد والثروات الطبيعية وتدهورها نوعاً وكماً، وعصر إنتاج المخلفات الصلبة بجميع أنواعها وأحجامها.

 

أما الثورة الصناعية الثالثة فقد فُتحت أبوابها في عام 1960، وهي متخصصة في الإلكترونيات ومجال الرقميات، وتكنلوجيا المعلومات، والإنترنت، ولذلك أُطلق عليها بالثورة الرقمية. وهذه الثورة تركزت بشكل كبير في قطاع الاتصالات والتواصل الاجتماعي بجميع أنواعه وأشكاله.  

 

وأما الثورة الرابعة التي بدأت قرابة عام 2016 ومازالت مستمرة حتى الآن، فهي ولوج برامج الذكاء الاصطناعي بعمق وعلى نطاق واسع جداً، إضافة إلى تكنلوجيا النانو في جميع مجالات الحياة، مما أدى إلى رفع الكفاءة والسرعة والدقة في الإنجاز والعطاء.

 

فثورة الاستدامة كانت ضرورية وحتمية لضمان استدامة الثورات السابقة التي قام بها الإنسان نفسه، فالواقع البيئي المُر، والكرب العظيم الذي تمخض ونجم عن هذه الثورات من تدميرٍ نوعي وكمي عقيمين لكافة المكونات البيئية، واستنزافٍ وتدهور شامل لمواردها وثرواتها الفطرية الطبيعية وانعكاس ذلك كله على الأمن الصحي للإنسان، وبخاصة في الثورتين الأولى والثانية، ألزم الإنسان واضطره إلى التفكير بجدية وعمق في القيام بثورة جديدة أخرى تضمن استمرارية هذه الإنجازات العظيمة التي حققها الإنسان على مدى قرون طويلة وشاقة، وتؤكد وجود هذه المكاسب البشرية غير المسبوقة في التاريخ لأجيال قادمة مستقبلية.

 

فكان لا بد إذن من مَسِيْرة تصحيحية واضحة المعالم، ولا بد من تقييم وتقويم التجارب والخبرات البشرية السابقة المتراكمة عبر القرون، ولا بد من الاستفادة من أخطاء وزلات الماضي وسلبيات التنمية، ولا بد أيضاً من وضع منهج مستدام ومستقيم جماعي ومشترك على المستوى الدولي، بحيث يسير عليه قطار التنمية البشرية عبر جميع دول العالم وفي جميع القطاعات والمجالات دون أن ينحرف عن الطريق المستقيم، ودون أن يتوقف مع الزمن. فهذه الثورات المتخصصة السابقة والحالية يجب ألا تكون على حساب قضايا حياتية أخرى يحتاج إليها البشر في هذا الجيل والأجيال المتلاحقة القادمة، فلا تبني هذه الثورات في مكان وتهدم في مكان آخر، ولا تُعمر في قطاع وتفسد قطاعاً آخر، ولا تُحسِّن جانباً من معيشة وحياة الإنسان وتضر بجوانب أخرى كثيرة، كالصحة العامة وصحة وسلامة عناصر البيئة.

 

 فهذه الثورة الجامعة والشاملة استندت على مبدأ "الاستدامة" في جميع المجالات الحياتية مهما كان نوع هذه التنمية، ومهما كان حجمها، وفي أي قطاع كانت، فأي عمل يقوم به الإنسان، وأي اختراع يقدمه للبشرية، وأي منتج يسوقه للناس، يجب أن يتوافق مع هذا المبدأ، فيحقق استدامة هذا الإنجاز والعمل، وبالتالي يصب في تحقيق الهدف الأسمى وهو "التنمية المستدامة".

 

ولذلك تم تحديد ثلاثة أركان لتحقيق هذه الاستدامة الشاملة، وهي الاستدامة من الناحية البيئية، ثم من الناحية الاقتصادية، وأخيراً من الناحية الاجتماعية. وهذا يعني بأن أي مشروع يحقق النمو الاقتصادي فقط، وذي جدوى مالية عالية ويحقق مكاسب اقتصادية كبيرة، ولكن في الوقت نفسه يلوث الماء، أو الهواء، أو التربة، أو يضر بصحة وسلامة الإنسان والحياة الفطرية، فإن هذا المشروع يكون مرفوضاً على كافة المستويات القومية، والإقليمية، والدولية، ويصنَّف بأنه مشروع "غير مستدام"، ويجب إيقافه كلياً، أو إعادة تقييمه وتصحيحه لتخفيف وخفض الضرر على البيئة والإنسان.

 

فالثورات الصناعية السابقة، وبخاصة الثورة الصناعية الأولى والثانية لم تَعْلم بما يتمخض عنها من سلبيات تهدد صحة الإنسان من جهة، وسلامة الموارد البيئية الفطرية الحية وغير الحية، ثم بعد وقوع الكوارث البيئية التي سقطت فيها ضحايا بشرية، عرف الإنسان بأن لثورته الصناعية تداعيات يجب مواجهتها وعدم تجاهلها وغض الطرف عنها. فالوقود المستخدم في المحركات البخارية ثم محركات الاحتراق الداخلي وتوليد الكهرباء كان من أقذر أنواع الوقود الأحفوري، وأشده وطأة وتنكيلاً بصحة الإنسان وبيئته، فكون مشكلات ومظاهر تخطت الحدود الجغرافية للدول وأثرت على صحة الإنسان، مثل المطر الحمضي، والضباب الأسود والضباب الضوئي الكيميائي، وتدهور غاز الأوزون في طبقة الأوزون، والتغير المناخي، والمد الأحمر والأخضر في المسطحات المائية، ومشكلة العناصر الثقيلة المسرطنة كالزئبق، والرصاص، والكروميوم. ثم الثورة الصناعية الثالثة والرابعة تمخضت عنها أيضاً أزمات بيئية وصحية خطيرة كالمخلفات الإلكترونية الخطرة والسامة، إضافة على المخلفات الفضائية الناجمة عن الأقمار الصناعية التي انتهت مدتها والملايين من الجسيمات الفضائية التي نجمت عن الحوادث المرورية في شوارع الفضاء، والتي يُطلق عليها المدارات الأرضية المنخفضة، كما أن مثل هذه البرامج والاستكشافات الفضائية أدت إلى تلوث الهواء في البيئات الفضائية العليا. 

 

فكان لا بد إذن من إحداث ثورة بديلة عامة وجامعة تواجه كل هذه التحديات القديمة والمستجدة والمستقبلية، وتحقق استدامة جميع الأنشطة البشرية في جميع القطاعات وفي جميع الدول، فكانت أم الثورات، ثورة الاستدامة، بيئياً، واجتماعياً، واقتصادياً.

 

 

الجمعة، 18 أبريل 2025

الإبادة البيئية الشاملة في غزة وأوكرانيا


الحروب كلها شر، وكلها دمار، وكلها إفساد للحرث والنسل، والشجر والحجر، فهي لا تُبقي ولا تذر، وتقضي على الأخضر واليابس، ولا يجني أحد منها إلا الخسائر والضحايا والكوارث المادية، والمعنوية، والنفسية.

 

ولكن في كل الحالات يتم التركيز على الضحايا البشرية وإبادة الإنسان الجماعية، والاهتمام بمعاناة هؤلاء الناس الذين قُتلوا أو جرحوا، والآلام التي يقاسون منها هم وأسرهم ووقعوا فيها جراء الخوض في الحروب، سواء أكانت جسدية عضوية، أو نفسية عقلية.

 

أما الضحايا الصامتة الأخرى التي تسقط بسبب الحروب، والتي ليس بقُدرتها التكلم والتعبير عن نفسها ورفع صوتها، وتقديم الشكوى لما أصابها من ضررٍ جسيم وعميق، فقد يتم عادة نسيانها وغض الطرف عنها، ولا تُحسب الخسائر التي نجمت عنها وتعرضت لها. وفي مقدمة هذه الضحايا الصامتة هي البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية، من حياة فطرية نباتية وحيوانية، ومن عناصر البيئة الأخرى كالهواء، والمسطحات المائية، والتربة السطحية. ففي حالات كثيرة تقع إبادة جماعية شاملة، وجرائم منهجية متعمدة للبيئة برمتها، بكل مكوناتها، وبكل أنظمتها البيئية، بحيث يتم تدميرها كلياً، فتكون بعدها غير صالحة للحياة البشرية، وغير قادرة على الإنتاج والعطاء للناس مرة ثانية. فهذا يؤكد بأن الإبادة الجماعية المباشرة للبيئة هي في حد ذاتها إبادة جماعية غير مباشرة للبشر، فبدون سلامة البيئة وأمنها لا تستديم حياة الإنسان. وهذه الإبادة الشاملة المنهجية المتعمدة لعناصر البيئة ومواردها وثرواتها الفطرية الحية وغير الحية يُطلق عليها مصطلح تعريف(Ecocide) عند منظمات الأمم المتحدة.

 

ومن الحروب التي نراها اليوم أمامنا وعانت منها البيئية الكرب العقيم وعلى نطاقٍ واسع هي حرب غزة، وأوكرانيا، والسودان. ولكن معظم المعلومات الموثقة، والتقارير الميدانية تكون أولاً حول أوكرانيا حيث وُفرة المعلومات لسهولة الوصول إلى مواقع الأحداث والمعارك، إضافة إلى تركيز وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الغربية عليها والاهتمام بها بصورة أكبر وأعمق، ثم في المرتبة الثانية تأتي غزة، حيث معظم المشاهد تكون منقولة وعلى الهواء مباشرة، ولكن لا يمكن زيارتها ميدانياً من الناحية الأمنية لإجراء تقييم نوعي وكيفي لحجم الضرر والخسائر، ونوعية البيئات والحياة الفطرية التي تدمرت كلياً أو جزئياً، وأعداد الكائنات الفطرية النباتية والحيوانية التي تم القضاء عليها. وأخيراً فهناك شح كبير في البيانات الموثقة حول التغييرات التي نزلت على البيئة والحياة الفطرية في السودان.

 

أما بالنسبة للحرب الروسية الأوكرانية فقد عانت البيئة الأوكرانية الفطرية الطبيعية معاناة شديدة، إضافة إلى أنواع كثيرة من الحياة الفطرية النباتية، وهذه الأضرار المادية لحقت بشكلٍ مباشر موارد البيئة والأنظمة البيئية البرية، والبحرية على حدٍ سواء. فهناك دراسة ميدانية أُجريت على التغيرات الكيميائية، والفيزيائية، والحيوية التي طرأت على تربة أوكرانيا بسبب الحرب، والمنشورة في مايو 2023 من "مركز المبادرات البيئية في ألمانيا"(Ecoaction) تحت عنوان: "تأثير الحرب الروسية على التربة الأوكرانية". كذلك التحقيق الميداني الذي قام به فريق من صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية لأكثر من أربعة أشهر، ونُشر في 2 أبريل 2025 تحت عنوان: "بيئة أوكرانيا المدمرة"، حيث قام فريق العمل بزيارات ميدانية للمواقع التي حدثت فيها المعارك الحربية ، كما أُجريت مقابلات شخصية لخبراء وعلماء البيئة المحليين.

 

ومن أهم الجرائم البيئية التي ارتكبت أثناء الحرب هي تفجير سد "كاكوفكا"(Kakhovka) في 6 يونيو 2023، مما أدى إلى وقوع فيضانات في مواقع كثيرة وواسعة، وغمر الملايين من الأمتار المكعبة من مياه السد لكافة الأنظمة البيئية التي كانت في طريقها، كما قضت على المحاصيل الزراعية، وبعض الغابات، ولوثت التربة الزراعية والفطرية وغيرت من خواصها الكيميائية والفيزيائية. كذلك هدمت هذه المياه الجارفة جميع المصانع التي كانت تقف أمامها، ومنها مصانع تكرير النفط ومصانع كيميائية، مما أدى على تلويث مساحات واسعة من تربة أوكرانيا بالملوثات الزيتية، والعناصر الثقيلة السامة، إضافة إلى تلويث الأنهار والبحار بهذه السموم المسرطنة الخطرة. والعناصر الثقيلة التي لوثت مساحات شاسعة من التربة والمياه السطحية، مثل الرصاص، والكادميوم، والكروميوم تبقى لعقود طويلة من الزمن وتتراكم في هذه العناصر البيئية لأنها عناصر مستقرة، لا تتحلل، ولا تتغير، وتمتلك القدرة على التضخم والتركيز في جميع عناصر البيئية، ثم الانتقال مع الزمن إلى جسم الإنسان.

 

ومن ناحية أخرى فإن مستوى تلوث الهواء ارتفع بشكل عام في أوكرانيا، وبخاصة من غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يسبب التغير المناخي وسخونة الأرض، إضافة على الملوثات الأخرى التي تفسد جودة الهواء وتضر مباشرة بصحة الإنسان. وهناك عدة مصادر لتلوث الهواء منها الانبعاثات من حركة الدبابات، والطائرات، وحرق الغابات، حسب التقرير المنشور من "الهيئة شبه الحكومية حول التغير المناخي" في 24 فبراير 2025 تحت عنوان: "ثلاث سنوات من الحرب في أوكرانيا: التدمير البيئي لا يعرف الحدود بسبب ارتفاع نسبة انبعاث الملوثات".

 

أما بالنسبة لغزة فقد أَجمعت منظمات الأمم المتحدة المعنية بالبيئة، وحقوق الإنسان، والسكن العمراني، إضافة إلى محكمة الجنايات الدولية، ومحكمة العدل الدولية، بأن ما حدث في غزة يعتبر أفضل مثال يمكن تقديمه للإبادة الجماعية للبشر وجرائم الحرب ضد الإنسانية، إضافة إلى الإبادة الجماعية للشجر والحجر والبيئة الطبيعية الفطرية برمتها.

 

أما بالنسبة لمكونات البيئة من هواء، وماء، وتربة فلم يبق شبر منها إلا وقد أصابه الضرر العقيم، ولحق به الأذى الشديد المستدام. فهناك أولاً مخلفات الحرب الخطرة والقابلة للانفجار من الذخائر، والصواريخ، والقنابل، والألغام التي موجودة الآن في غزة، وستبقى جزءاً من بيئة غزة لعقود طويلة قامة، وستسبب أزمات أمنية مستمرة لسكان غزة جميعهم. وثانياً هناك المخلفات الصلبة غير الخطرة الناجمة عن تفجير وهدم المباني التي تقدر بملايين الأطنان، وبعضها يحتوي على مادة الأسبستوس المسببة لمرض الأسبستوسيس السرطاني. وثالثاً المخلفات الصلبة، المعروفة بالقمامة، والتي لا يمكن في مثل هذه الظروف القاسية أن تُدار بأسلوب بيئي وصحي سليمين، فهي تتراكم وتتجمع فتلوث التربة السطحية وتلوث مياه البحر لسوء إدارتها والتخلص منها، كما أن الرشيح الناجم من تحلل الجزء العضوي من هذه المخلفات تتسرب إلى المياه الجوفية وتدهور نوعيتها وسلامتها، وتسبب للسكان مشكلات وأزمات صحية خطيرة. وعلاوة على المخلفات الصلبة، فهناك مخلفات المجاري السائلة التي لا توجد محطات لمعالجتها بسبب تفجيرها وتدميرها كلياً، ولذلك فإن هذه المياه الآسنة المحملة بكافة أنواع الجراثيم والميكروبات المرضية يتعرض لها الناس بشكلٍ مباشر، ويصابون بأمراض حادة معدية تنتشر بين الناس كانتشار النار في الهشيم.

 

ورابعاً هناك الكثير من المصادر التي تسببت في تدهور صحة الهواء الجوي وسلامة الإنسان من التفجيرات المستمرة كل يوم، وحركة الطائرات، وتنقل الدبابات والجرافات والآليات الثقيلة الأخرى التي تلوث الهواء من جهة، ومن جهة أخرى تدمر التربة، وتفككها وتفتتها وتجعلها غير صالحة للزراعة مستقبلاً، فتؤثر على الأمن الغذائي للناس، كما تقضي كلياً على النباتات الفطرية الأصيلة والنادرة التي تنمو في بعض مناطق غزة، إضافة إلى الحياة الحيوانية البرية. وقد نشرت صحيفة "الواشنطن بوست" الأمريكية تحقيقاً في 4 مايو 2024 تحت عنوان: "الهجمات الإسرائيلية دمرت قدرة غزة على زراعة غذائها"، حيث أكدت فيه أن الجرافات كانت بشكلٍ ممنهج ومتعمد تقتحم مزارع المحاصيل الزراعية فتدمر الغطاء النباتي كلياً كجزء من حرب المجاعة والجوع لسكان غزة على المدى القصير والطويل.

 

وبالرغم من تعرض غزة الأبية والصامدة لجميع أنواع الإبادة الجماعية الشاملة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، وبالرغم من اعتراف جميع المنظمات الأممية بهذه الإبادة الفاشية، إلا أن المجتمع الدولي عجز كلياً عن نصرة هذا الشعب الضعيف المظلوم، ومحاسبة الكيان الصهيوني على جرائمه التي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولم تخطر على قلب بشر. 

 

الأربعاء، 16 أبريل 2025

قرارات اجتماعات المناخ لا تساوي الحبر الذي كتبت به

 

مشهد عقيم وممل يتكرر كل عام منذ 29 عاماً في اجتماعات الدول الأطراف في الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، وهذا المشهد بالتحديد هو الجلسة الختامية للاجتماع وفي الوقت الإضافي من الدقائق الأخيرة قبل إغلاق باب الاجتماع ومغادرة آلاف الوفود من قرابة 190 دولة قاعة الاجتماع متجهين إلى دولهم.

 

فالاجتماع الذي عادة ما يستغرق 12 يوماً أو أسبوعين في بعض السنوات، تُتخذ فيه القرارات وبعجالة شديدة، وحفظاً لماء الوجه، وقبل أن يعلن عن فشل الاجتماع وسقوطه، ومن أجل انقاذ الاجتماع من الغرق نحو الأعماق، حيث تَقُوم الدول بالموافقة الطوعية وغير الملزمة لأي قرار توافقي معتدل، ووسطي، ومتوازن، ومائع، مهما كانت فاعليته وأهميته وإمكانية تنفيذه في الميدان، ثم يقوم رئيس المؤتمر باستخدام المطرقة الرئاسية للإعلان عن انتهاء الاجتماع، وإلقاء كلمة رنانة عن تحقيق نجاحٍ باهر، وإنجاز عظيم، وبعد هذه الخطبة يقف الجميع أمام منصة الرئاسة فرحين ويصفقون لأنفسهم تصفيقاً حاراً، ويهللون ويكبرون على هذا الإنجاز التاريخي غير المسبوق. 

 

وفي الحقيقة فإنني لستُ بغريب أو بعيد عن هذه الاجتماعات، فأنا أُتابع وأراقبُ سير هذه الاجتماعات وقراراتها وانجازاتها المزعومة ومدى تحقيقها لأهدافها منذ قرابة ثلاثة عقود. فقد كنتُ أتابع عن كثب من خلال مشاركاتي في الاجتماعات كرئيس لوفد مملكة البحرين لعدة سنوات، ثم عن بُعد من خلال الاطلاع على ما تمخض عنها من قرارات جماعية توافقية مشتركة، والتي تكون معظم محتواها عبارة عن "نسخ" و "لصق" لمحاضر الاجتماعات السابقة، أو إنها تكرار، وقرارات مخففة لأخرى تم اتخاذها في اجتماعات سابقة ولم تر النور.

 

فعلى سبيل المثال، في الاجتماع المناخي رقم (29) الذي عُقد في مدينة باكو في أذربيجان، كان البند الرئيس والأهم للتفاوض عليه من قبل الدول يتمحور كلياً حول الجانب المالي، وبخاصة الجانب المتعلق بتحديد المبلغ الذي على الدول الثرية والمتقدمة التعهد بدفعه للدول النامية الفقيرة التي تضررت كثيراً من تداعيات التغير المناخي، والتي تعاني منذ أكثر من قرنين بسبب انبعاث الملوثات المتهمة بوقوع التغير المناخي وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينتج من حرق الفحم، أو النفط، أو الغاز الطبيعي في المصانع، ومحطات توليد الكهرباء، ووسائل النقل. فالحجم الأعظم من هذه الانبعاثات التي تسببت في وقوع الكوارث المناخية صدرت ولأكثر من 200 عام منذ الثورة الصناعية الأولى من الدول الصناعية الغنية والمتقدمة التي كانت تسير بخطى واسعة وكبيرة وسريعة جداً في تنمية وتطوير ورقي بلادها، وتحسين الوضع المعيشي لشعوبها، بينما كانت الدول النامية غارقة في الجهل والفقر، وتعاني من التخلف بكل أنواعه. فهذه الدول تاريخياً تتحمل مسؤولية حدوث التغير المناخي، والتداعيات الكثيرة والمتنوعة التي نجمت عنها، كارتفاع حرارة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حموضة مياه المحيطات، وما نتج عن كل هذه التداعيات من كوارث مناخية، كالأعاصير، والفيضانات، والدمار الذي وقع على المرافق الساحلية، وبخاصة في الدول الفقيرة التي لا تمتلك الإمكانات المالية والتقنية للدفاع عن نفسها ومرافقها من هذه الكوارث.

 

وهذا يعني بأن الدول التي تسببت في الكوارث عليها دفع المبالغ المالية للدول التي تضررت وعانت منها. ولذلك فموضوع تعويض الدول الفقيرة مالياً مطروح منذ زمنٍ بعيد في مثل هذه الاجتماعات، وليس وليد هذا الاجتماع فحسب، وهو يعتبر من البنود المعلقة دائماً في جدول أعمال اجتماعات التغير المناخي. فمن الاجتماعات التي تطرقت إلى القضية المالية وتفاوضت عليها هي اجتماع رقم (15) في ديسمبر 2009 في كوبنهاجن في الدنمارك، حيث تعهدت الدول الغنية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، والاتحاد الأوروبي، واليابان وغيرها على دفع مبلغ مالي وقدره 100 مليار دولار سنوياً بحلول عام 2020، إضافة إلى انشاء صندوق المناخ الأخضر. ولكن هذا الالتزام كان في مجمله حبراً على ورق، فقرار دفع الدول الصناعية المتقدمة للمبلغ المالي "طوعي" في نهاية المطاف، وغير ملزم، ولا توجد أية قوة في الأرض لها النفوذ والصلاحيات لمحاسبة هذه الدول ذات الهيمنة والسيطرة المشهودة على كافة آلية قرارات المنظمات الدولية إذا لم تلتزم بالوعود التي قطعتها على نفسها أثناء الاجتماع. ولذلك فهذه المبالغ التي تمت الموافقة عليها في كوبنهاجن لم تصل كلها إلى مستحقيها من الدول الفقيرة والنامية لرفع قدرتها على مواجهة مردودات التغير المناخي، وإصلاح الفساد والضرر الناجم عن هذه التداعيات.

 

ولذلك كان لا بد من طرح القضية المالية مرة ثانية ومن جديد، والتأكيد على وضعها كنقطة أساسية في جدول أعمال اجتماعات المناخ، فكان اجتماع أذربيجان، علماً بأن هناك لجنة من الخبراء المستقلين الذين قاموا بإجراء دراسة شاملة على المبلغ المالي الذي تحتاج إليه الدول الفقيرة لمساعدتها في التصدي لتداعيات الكوارث المناخية واتخاذ الإجراءات اللازمة لخفض انبعاثاتها بوسائل وطرق متعددة، حيث توصلت اللجنة إلى مبلغ وقدره 1.3 تريليون دولار سنوياً بحلول عام 2035، فكان هذا المبلغ هو أساس مطالبات الدول النامية، والنقطة الأولى التي بدأت منها المفاوضات.

 

ولذلك ومن اجتماع أذربيجان المناخي بدأت المعركة المالية المحتدمة والتفاوض على مبلغ الدفع بين الدول الصناعية المتقدمة والغنية والدول الفقيرة والنامية. ومن هناك بدأ المزاد العلني في حجم المبلغ، حيث حدَّدت الدول الغنية في مطلع الاجتماع مبلغاً وقدره 200 مليار دولار سنوياً فقط، مما أدى إلى احتجاج الدول الفقيرة والساحلية خاصة الشديدة التضرر من الكوارث المناخية، فقامت الدول الداعمة بزيادة المبلغ إلى 250 مليار دولار كحد أقصى يمكن دفعه. وهذا المبلغ البسيط مقارنة بالمطلوب لدفع الخسائر والتعويضات أدى إلى انسحاب وفود أكثر من 80 دولة يمثلون "ائتلاف الدول الجزرية الصغيرة" (Alliance of Small Island States) والدول "الفقيرة الأقل نمواً" (Least Developed Countries)، حيث خرجوا من الجلسة احتجاجاً وممارسة للضغط على الدول الغنية. ففي الدقائق الأخيرة من عمر الاجتماع، رفعت الدول المتقدمة المبلغ وزادت إلى 300 مليار دولار سنوياً كعرض أخير لا تفاوض عليه، وبهذا المبلغ انتهت المزايدة المالية وأُغلق الاجتماع.

 

ولكن هذا المبلغ مجرد "رقم" يُقدم لإسكات وإقناع الدول الفقيرة والضعيفة التي تحتاج إلى أي مبلغ مالي من ناحية، ومن أجل منع فشل الاجتماع الدولي، فيخرج بعد قرابة أسبوعين من المفاوضات العبثية خاوي اليدين دون أي قرار يتباهى فيه أمام الشعوب المغلوبة على أمرها وأمام وسائل الإعلام.

 

وفي تقديري فإن هناك عراقيل كثيرة تقف حجر عثرة أمام تنفيذ هذا القرار، منها أن هذا القرار غير الملزم قانونياً لم يُجب على عدة أسئلة كالدول المعنية بالدفع ومساهمة كل دولة، إضافة إلى أن هذا المبلغ هل سيكون بصفة المنحة أو الدين، مما يزيد من الطين بلة للدول الفقيرة، كذلك آلية وبنود الدفع. ومن العوائق أيضاً أن حكومات الدول الغربية تتغير عبر الانتخابات، فقد يُنتخب أشخاص لا يؤمنون بأولوية التغير المناخي وتداعيته الكارثية، ولا يعتقدون بأهمية مساعدة الدول النامية، كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية. كذلك مساهمة الدول تعتمد على الوضع الاقتصادي لتلك الدولة، ففي حالة تدهور الاقتصاد لن يكون هناك أي التزام بالدعم المالي والمساعدة.

 

ولذلك فإن القرار الرئيس المفيد للدول الفقيرة الذي اتخذ في اجتماع المناخ سيكون في مهب الريح، وعُرضة للسقوط والفشل اعتماداً على متغيرات السياسة والاقتصاد، وآخرها انسحاب ترمب من تفاهمات باريس للمرة الثانية ووقف الدعم المالي كلياً لصندوق المناخ.