الأربعاء، 16 أبريل 2025

قرارات اجتماعات المناخ لا تساوي الحبر الذي كتبت به

 

مشهد عقيم وممل يتكرر كل عام منذ 29 عاماً في اجتماعات الدول الأطراف في الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، وهذا المشهد بالتحديد هو الجلسة الختامية للاجتماع وفي الوقت الإضافي من الدقائق الأخيرة قبل إغلاق باب الاجتماع ومغادرة آلاف الوفود من قرابة 190 دولة قاعة الاجتماع متجهين إلى دولهم.

 

فالاجتماع الذي عادة ما يستغرق 12 يوماً أو أسبوعين في بعض السنوات، تُتخذ فيه القرارات وبعجالة شديدة، وحفظاً لماء الوجه، وقبل أن يعلن عن فشل الاجتماع وسقوطه، ومن أجل انقاذ الاجتماع من الغرق نحو الأعماق، حيث تَقُوم الدول بالموافقة الطوعية وغير الملزمة لأي قرار توافقي معتدل، ووسطي، ومتوازن، ومائع، مهما كانت فاعليته وأهميته وإمكانية تنفيذه في الميدان، ثم يقوم رئيس المؤتمر باستخدام المطرقة الرئاسية للإعلان عن انتهاء الاجتماع، وإلقاء كلمة رنانة عن تحقيق نجاحٍ باهر، وإنجاز عظيم، وبعد هذه الخطبة يقف الجميع أمام منصة الرئاسة فرحين ويصفقون لأنفسهم تصفيقاً حاراً، ويهللون ويكبرون على هذا الإنجاز التاريخي غير المسبوق. 

 

وفي الحقيقة فإنني لستُ بغريب أو بعيد عن هذه الاجتماعات، فأنا أُتابع وأراقبُ سير هذه الاجتماعات وقراراتها وانجازاتها المزعومة ومدى تحقيقها لأهدافها منذ قرابة ثلاثة عقود. فقد كنتُ أتابع عن كثب من خلال مشاركاتي في الاجتماعات كرئيس لوفد مملكة البحرين لعدة سنوات، ثم عن بُعد من خلال الاطلاع على ما تمخض عنها من قرارات جماعية توافقية مشتركة، والتي تكون معظم محتواها عبارة عن "نسخ" و "لصق" لمحاضر الاجتماعات السابقة، أو إنها تكرار، وقرارات مخففة لأخرى تم اتخاذها في اجتماعات سابقة ولم تر النور.

 

فعلى سبيل المثال، في الاجتماع المناخي رقم (29) الذي عُقد في مدينة باكو في أذربيجان، كان البند الرئيس والأهم للتفاوض عليه من قبل الدول يتمحور كلياً حول الجانب المالي، وبخاصة الجانب المتعلق بتحديد المبلغ الذي على الدول الثرية والمتقدمة التعهد بدفعه للدول النامية الفقيرة التي تضررت كثيراً من تداعيات التغير المناخي، والتي تعاني منذ أكثر من قرنين بسبب انبعاث الملوثات المتهمة بوقوع التغير المناخي وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينتج من حرق الفحم، أو النفط، أو الغاز الطبيعي في المصانع، ومحطات توليد الكهرباء، ووسائل النقل. فالحجم الأعظم من هذه الانبعاثات التي تسببت في وقوع الكوارث المناخية صدرت ولأكثر من 200 عام منذ الثورة الصناعية الأولى من الدول الصناعية الغنية والمتقدمة التي كانت تسير بخطى واسعة وكبيرة وسريعة جداً في تنمية وتطوير ورقي بلادها، وتحسين الوضع المعيشي لشعوبها، بينما كانت الدول النامية غارقة في الجهل والفقر، وتعاني من التخلف بكل أنواعه. فهذه الدول تاريخياً تتحمل مسؤولية حدوث التغير المناخي، والتداعيات الكثيرة والمتنوعة التي نجمت عنها، كارتفاع حرارة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حموضة مياه المحيطات، وما نتج عن كل هذه التداعيات من كوارث مناخية، كالأعاصير، والفيضانات، والدمار الذي وقع على المرافق الساحلية، وبخاصة في الدول الفقيرة التي لا تمتلك الإمكانات المالية والتقنية للدفاع عن نفسها ومرافقها من هذه الكوارث.

 

وهذا يعني بأن الدول التي تسببت في الكوارث عليها دفع المبالغ المالية للدول التي تضررت وعانت منها. ولذلك فموضوع تعويض الدول الفقيرة مالياً مطروح منذ زمنٍ بعيد في مثل هذه الاجتماعات، وليس وليد هذا الاجتماع فحسب، وهو يعتبر من البنود المعلقة دائماً في جدول أعمال اجتماعات التغير المناخي. فمن الاجتماعات التي تطرقت إلى القضية المالية وتفاوضت عليها هي اجتماع رقم (15) في ديسمبر 2009 في كوبنهاجن في الدنمارك، حيث تعهدت الدول الغنية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، والاتحاد الأوروبي، واليابان وغيرها على دفع مبلغ مالي وقدره 100 مليار دولار سنوياً بحلول عام 2020، إضافة إلى انشاء صندوق المناخ الأخضر. ولكن هذا الالتزام كان في مجمله حبراً على ورق، فقرار دفع الدول الصناعية المتقدمة للمبلغ المالي "طوعي" في نهاية المطاف، وغير ملزم، ولا توجد أية قوة في الأرض لها النفوذ والصلاحيات لمحاسبة هذه الدول ذات الهيمنة والسيطرة المشهودة على كافة آلية قرارات المنظمات الدولية إذا لم تلتزم بالوعود التي قطعتها على نفسها أثناء الاجتماع. ولذلك فهذه المبالغ التي تمت الموافقة عليها في كوبنهاجن لم تصل كلها إلى مستحقيها من الدول الفقيرة والنامية لرفع قدرتها على مواجهة مردودات التغير المناخي، وإصلاح الفساد والضرر الناجم عن هذه التداعيات.

 

ولذلك كان لا بد من طرح القضية المالية مرة ثانية ومن جديد، والتأكيد على وضعها كنقطة أساسية في جدول أعمال اجتماعات المناخ، فكان اجتماع أذربيجان، علماً بأن هناك لجنة من الخبراء المستقلين الذين قاموا بإجراء دراسة شاملة على المبلغ المالي الذي تحتاج إليه الدول الفقيرة لمساعدتها في التصدي لتداعيات الكوارث المناخية واتخاذ الإجراءات اللازمة لخفض انبعاثاتها بوسائل وطرق متعددة، حيث توصلت اللجنة إلى مبلغ وقدره 1.3 تريليون دولار سنوياً بحلول عام 2035، فكان هذا المبلغ هو أساس مطالبات الدول النامية، والنقطة الأولى التي بدأت منها المفاوضات.

 

ولذلك ومن اجتماع أذربيجان المناخي بدأت المعركة المالية المحتدمة والتفاوض على مبلغ الدفع بين الدول الصناعية المتقدمة والغنية والدول الفقيرة والنامية. ومن هناك بدأ المزاد العلني في حجم المبلغ، حيث حدَّدت الدول الغنية في مطلع الاجتماع مبلغاً وقدره 200 مليار دولار سنوياً فقط، مما أدى إلى احتجاج الدول الفقيرة والساحلية خاصة الشديدة التضرر من الكوارث المناخية، فقامت الدول الداعمة بزيادة المبلغ إلى 250 مليار دولار كحد أقصى يمكن دفعه. وهذا المبلغ البسيط مقارنة بالمطلوب لدفع الخسائر والتعويضات أدى إلى انسحاب وفود أكثر من 80 دولة يمثلون "ائتلاف الدول الجزرية الصغيرة" (Alliance of Small Island States) والدول "الفقيرة الأقل نمواً" (Least Developed Countries)، حيث خرجوا من الجلسة احتجاجاً وممارسة للضغط على الدول الغنية. ففي الدقائق الأخيرة من عمر الاجتماع، رفعت الدول المتقدمة المبلغ وزادت إلى 300 مليار دولار سنوياً كعرض أخير لا تفاوض عليه، وبهذا المبلغ انتهت المزايدة المالية وأُغلق الاجتماع.

 

ولكن هذا المبلغ مجرد "رقم" يُقدم لإسكات وإقناع الدول الفقيرة والضعيفة التي تحتاج إلى أي مبلغ مالي من ناحية، ومن أجل منع فشل الاجتماع الدولي، فيخرج بعد قرابة أسبوعين من المفاوضات العبثية خاوي اليدين دون أي قرار يتباهى فيه أمام الشعوب المغلوبة على أمرها وأمام وسائل الإعلام.

 

وفي تقديري فإن هناك عراقيل كثيرة تقف حجر عثرة أمام تنفيذ هذا القرار، منها أن هذا القرار غير الملزم قانونياً لم يُجب على عدة أسئلة كالدول المعنية بالدفع ومساهمة كل دولة، إضافة إلى أن هذا المبلغ هل سيكون بصفة المنحة أو الدين، مما يزيد من الطين بلة للدول الفقيرة، كذلك آلية وبنود الدفع. ومن العوائق أيضاً أن حكومات الدول الغربية تتغير عبر الانتخابات، فقد يُنتخب أشخاص لا يؤمنون بأولوية التغير المناخي وتداعيته الكارثية، ولا يعتقدون بأهمية مساعدة الدول النامية، كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية. كذلك مساهمة الدول تعتمد على الوضع الاقتصادي لتلك الدولة، ففي حالة تدهور الاقتصاد لن يكون هناك أي التزام بالدعم المالي والمساعدة.

 

ولذلك فإن القرار الرئيس المفيد للدول الفقيرة الذي اتخذ في اجتماع المناخ سيكون في مهب الريح، وعُرضة للسقوط والفشل اعتماداً على متغيرات السياسة والاقتصاد، وآخرها انسحاب ترمب من تفاهمات باريس للمرة الثانية ووقف الدعم المالي كلياً لصندوق المناخ.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق