السبت، 25 أكتوبر 2025

تصفية قضية التغير المناخي

 

تاريخ ترمب مع قضية التغير المناخي وسخونة الأرض مظلم وأسود منذ الفترة الأولى من رئاسته. فهو في حالة حرب وعداء مزمن مع هذه القضية الدولية العامة والمشتركة التي تؤثر على جميع دول العالم بدون استثناء، الغنية منها والفقيرة، المتقدمة منها والمتأخرة، فالجميع يقف سواسية كأسنان المشط أمام تداعياتها التي لا تُبقي ولا تذر.

 

وبالرغم من ذلك فإن ترمب يقف ضدها كلياً، بل ويعرقل ويبعثر جهود دول العالم الساعية نحو مواجهتها، ومكافحتها تحت سقف تشريعي واحد هو المعاهدات والتفاهمات الدولية حول التغير المناخي، والتي بدأت أولاً بـ "الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة حول التغير المناخي". وهذه الاتفاقية الإطارية هي التي وضعت قاعدة التفاوض الدولية حول بنود معاهدة دولية مشتركة يلتزم بها الجميع.

 

فترمب عمل على عدة جبهات منذ توليه السلطة ودخوله البيت الأبيض في الفترة الأولى من حكمه، واليوم في الفترة الثانية إلى إضعاف وافشال هذه الجهود الدولية، وتصفية قضية التغير المناخي برمتها من خلال توجيه ضربات قاضية تُسقط هذه القضية كلياً من على جدول أعمال المجتمع الدولي واجتماعات الأمم المتحدة المناخية. ومن أجل ذلك يعمل ترمب جاهداً على تهميش هذه القضية على المستوى الأمريكي القومي، ويحاول اجتثاثها من هموم وشؤون المواطن الأمريكي، واحداث تغيير جذري بشكلٍ منهجي مدروس في الرأي العام الأمريكي حول واقعية هذه القضية الدولية التي تواجه كوكبنا عامة في كل شبرٍ منه، وإقناع الشعب الأمريكي بأن التغير المناخي ظاهرة طبيعية تحدث في كل دول العالم، ولا دور لبرامج الإنسان التنموية في وقوعها، إضافة إلى نشر المفهوم الخاطئ والمضلل بأن تداعيات التغير المناخي لا تضر بصحة الإنسان، ولا تمس حياته العامة بسوء.

 

فالجبهة الأولى كانت ثقافية وتوعوية من ناحية عدم الاعتراف بنزول واقعة التغير المناخي، والتشكيك في وجود أي دور للإنسان وأنشطته التنموية في نزول تداعيات التغير المناخي، وبخاصة ارتفاع حرارة الأرض وزيادة سخونتها والكوارث المناخية التي تنجم عنها. فبدأ أولاً بإدخال البعد الأجنبي في هذه الظاهرة، فقال عدة مرات واصفاً قضية التغير المناخي بأنها حيلة وخدعة صينية تهدف إلى وقف عجلة التنمية في الولايات المتحدة الأمريكية، وعرقلة العملية الإنتاجية في أمريكا. كما وصفها في مناسبات أخرى بأنها "أسطورية"، و"غير موجودة" و "خدعة غالية". وأخيراً قال وبكل وضوح مخالفاً الاجماع الدولي وأمام الملأ في اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 23 سبتمبر 2025 بأن: "هذا التغير المناخي هو أعظم عملية احتيال تم ارتكابها على الإطلاق في العالم، وفي رأيي كل التنبؤات التي قدَّمَتها الأمم المتحدة كانت خاطئة"، كما أضاف قائلاً: "إذا لم تَتَخَلصْ من هذه الخدعة، فإن بلدك سوف يفشل".

 

كما أن ترمب من ناحية تحويل الرأي العام الأمريكي وتصفية واستئصال القضية برمتها من المجتمع الأمريكي، كلَّف وزير الطاقة "كريس رايت"(Chris Wright) الذي كان يعمل في مجال النفط ويعادي التغير المناخي، بتعيين خبراء مرتزقة ينشرون تقريراً جديداً يقدم رؤيته وسياسته حول التغير المناخي، مخالفاً بذلك سياسة الحكومات الأمريكية السابقة، وأُطلق على هذا الفريق من الخبراء "مجموعة العمل المناخية". وقد جاء تقرير وزارة الطاقة المناخي في 23 يوليو 2025 في 140 صفحة تحت عنوان: "مراجعة نقدية لتأثيرات غازات الاحتباس الحراري على مناخ الولايات المتحدة". وهذا التقرير احتوى على أكثر من مائة بيان خاطئ ومضلل للرأي العام، وأحدث زلزالاً علمياً لدى علماء المناخ في أمريكا خاصة، ونشروا تقارير كثيرة رداً على هذا التقرير غير الدقيق والانتقائي وغير المستقل. وفي الوقت نفسه يعمل ترمب على تغييب وإلغاء المصطلحات الخاصة بالتغير المناخي في التقارير الرسمية الصادرة من الوزارات والوكالات الحكومية حتى ينساها الناس وتنتهي مع الزمن. فقد نشرت صحيفة "بوليتيكو" مقالاً في 28 سبتمبر 2025 تحت عنوان: "وزارة الطاقة تضيف "التغير المناخي"، وكلمة "الانبعاثات"، و"الأخضر" ضمن قائمة الكلمات الممنوع تداولها، وعلى المعنيين في الحكومة تجنب استخدامها.

 

ومن جانب آخر تعمد ترمب على تهميش علماء المناخ محلياً ودولياً، وتشويه سمعتهم، وخبرتهم، وعلمهم حتى يشكك الناس في مصداقيتهم ومصداقية الاستنتاجات التي توصلوا إليها حول التغير المناخي. وفي بعض التصريحات البذيئة والتي لا تليق برئيس دولة عظمى، سخر واستهزأ ترمب وأمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر 2025 بعلماء المناخ حول العالم، وقال أنهم "ناس أغبياء"، وأن النتائج التي تمخضت عن أبحاثهم حول التغير المناخي ليست لها علاقة بالواقع، وأنها غير صحيحة، ولا تستند إلى الأدلة العلمية الدامغة.

 

والجبهة الثانية لاجتثاث قضية التغير المناخي قومياً ودولياً كانت من الناحية التشريعية المتعلقة بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية الهادفة إلى المواجهة الدولية المشتركة لخفض انبعاث الملوثات المتهمة بوقوع التغير المناخي، وفي مقدمتهم غاز ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان. أما على المستوى الدولي فقد انسحب ترمب مرتين من تفاهمات باريس لعام 2015، فالمرة الأولى كانت خلال الفترة الأولى من حكمه، والثانية في يناير 2025 عند توليه السلطة للمرة الثانية، مما أدى إلى تأخر وبطء الجهود الدولية لخفض الانبعاث وإيقاف سخونة الأرض. فوجود الولايات المتحدة في مثل هذه المعاهدات الدولية مهم جداً لنجاح أي عمل دولي مشترك لحماية ارتفاع حرارة كوكبنا، فأمريكا تُعد تاريخياً الدولة الأولى المسؤولة عن وقوع التغير المناخي، ولذلك من الناحية الأخلاقية يجب أن تؤدي دورها في خفض انطلاق الملوثات المتهمة بسخونة الأرض.

 

وأما على المستوى القومي فقد ألغى ترمب أكثر من مائة قانون قومي أمريكي له علاقة بالزام المصانع ومحطات توليد الكهرباء وعمليات استخراج النفط والفحم والغاز الطبيعي في خفض انبعاثاتها من غازات الدفيئة والاحتباس الحراري. فهذه الشركات غير ملزمة في عهد ترمب باتخاذ أي إجراء لخفض انبعاثاتها. كذلك في هذا الإطار فإن ترمب يحارب استخدام مصادر الطاقة المتجددة البديلة والنظيفة مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وغيرهما، ويشجع في الوقت نفسه استخراج وحرق الوقود الأحفوري، وبخاصة الفحم في توليد الكهرباء لأمريكا. بل وإن ترمب أرسل مبعوثيه إلى أوروبا ودول كثيرة أخرى ليحثهم على استخدام الفحم والنفط، والتخلي عن مصادر الطاقة المتجددة غير الملوثة للهواء وغير المؤدية لوقوع ظاهرة التغير المناخي.

 

لذلك من الواضح من جميع الممارسات والقوانين والأوامر التنفيذية التي أقرها ترمب منذ دخوله البيت الأبيض لأول مرة أنها جميعها تصب في هدفٍ واحدٍ كبير، وهو تصفية قضية التغير المناخي على المستويين القومي الأمريكي والدولي.

 

فهل ستنجح دول العالم بزعامة الصين من قيادة دفة سفينة التغير المناخي دون ركوب أمريكا على متنها، ومنع تصفية هذه القضية الوجودية لنا ولكوكبنا؟ 

 

الأربعاء، 22 أكتوبر 2025

هل نجحتْ أمريكا في تجربة السماح للحشيش؟

 

هناك وهمٌ يشيعه وينشره البعض بأن الدول إذا منعت مُنتجاً محرماً كالخمر، وتدخين التبغ والحشيش، أو سلوكاً منحرفاً كالشواذ والانحراف الجنسي، فإن هذا الحظر يؤدي إلى خلق سوق سوداء داخل الدولة لتداول هذا المنتج، ونشوء تجارةْ بيع وشراء خارج أنظار ورعاية ونظام الدولة. كما يروجون أصحاب الضمائر الميتة بأن هذا المنع من الدولة يحفز الناس على حب الاستطلاع والخوض في تجربة ممارسة هذا السلوك غير السوي والشاذ. ولذلك يدَّعي أصحاب هذا الوهم الخبيث والمروجون له، ومن أجل تجنب السوق السوداء، بأن على الدول تحليل هذه المنتجات والمواد المحرمة والمحظورة، وإطلاق سراحها داخل البلاد.

 

وهذا بالفعل ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة للمخدرات، وبالتحديد الحشيش، أو الماريجونا أو ما يُطلق عليه بنبات القنب. فهناك عدة مبررات وأوهام قدَّمها شياطين الإنسان للسماح باستخدام الحشيش، منها أولاً القضاء على السوق السوداء وإخضاع تداول الحشيش تحت سلطة الولاية، وإنشاء سوق رسمية آمنة ومقننة ومنظمة، ثم ثانياً ومن الناحية الواقعية عدم قُدرة الولايات الأمريكية على التحكم والسيطرة على انتشار تعاطي الحشيش بسبب كثرة أعداد الأمريكيين المدمنين والمتاجرين الذين أُدخلوا السجون لبيع وتعاطي الحشيش حتى اكتظت وازدحمت بهم، وثالثاً تحقيق النمو والازدهار الاقتصادي للولايات من خلال فرض الضرائب والرسوم وخلق الكثير من الوظائف لحل أزمة البطالة.

 

فهذه المبررات والحُجج الواهية التي يُراد بها الباطل وتحقيق ثروة طائلة لبعض المنتفعين من الناس ومن تجار المخدرات والأخلاقيات المنحرفة، بدأت تغزو رويداً رويداً العقل الأمريكي، وبدأت تُقنع المشرع بأنه لا بأس من السماح لاستخدام الحشيش لأغراض شخصية وللترفيه والترويح عن النفس. وهذا السماح مرَّ بعدة مراحل، فكانت الخطوة الأولى بفك الحزام قليلاً عن الحشيش من ناحية العقوبات، حيث تجرأتْ أول ولاية أمريكية هي ولاية أوريجن في عام 1973 بعدم تجريم كل من يُمسَك وبحيازته كميات بسيطة من الحشيش لأغراضه الشخصية، فلا يدخل السجن، ولا يدفع أية غرامة مالية لحيازته لهذه الكمية الفردية للحشيش. ثم المرحلة الثانية كانت بالاستعمالات الطبية في عام 1996 في ولاية كاليفورنيا، وأخيراً فتح الباب على مصراعيه للسماح لحيازة الحشيش واستخدامه بصفة شخصية للترفيه عن النفس، حيث صوَّت سكان ولايتي كولورادوا وواشنطن في نوفمبر من عام 2012 للسماح للحشيش للاستخدام الشخصي. وأما المحصلة الإجمالية الحالية للقائمة السوداء التي دخلت في نفق استخدامات الحشيش المظلم فهي 33 ولاية للاستعمال الطبي، و 23 ولاية إضافة إلى العاصمة واشنطن ومقاطعة جوام للاستعمال الشخصي.

أما على المستوى الاتحادي فإن تحليل الحشيش يمشي الآن في المراحل نفسها التي مرَّ بها على مستوى الولايات. فمن المعلوم حالياً بأن الحشيش يقع على المستوى الاتحادي ضمن الجدول رقم (1) للمواد المحظورة والمقيد استخدامها والتي ليست لها فوائد طبية وعلاجية، مثل الهيروين والـ(LSD)، استناداً إلى قانون عام 1970 حول "المواد المقيد استخدامها" (Controlled Substances Act). ولكن الرئيس بايدن بدأ بالخطوة الأولى من التعامل مع الحشيش، حيث أصدر إعلاناً في السادس من أكتوبر 2022 تحت عنوان: "الإعلان عن العفو عن الجرائم البسيطة المتعلقة بحيازة الحشيش". وهذا الإعلان يتكون من نقطتين هامتين، الأولى هي العفو على المستوى الاتحادي عن المجرمين الذين أُدينوا بتهم حيازة المخدرات بكميات قليلة، كما دعا بايدن حكام الولايات إلى اتخاذ القرار نفسه للإفراج عن مسجوني حيازة الحشيش على مستوى كل ولاية، وأما النقطة الثانية فهي إعلانه بأنه سيتخذ الإجراءات اللازمة لإجراء مراجعة شاملة، وبالتحديد حول وضع الحشيش في الجدول الأول وتصنيفه ضمن المواد المحظورة والتي لا فائدة منها.

ومما شجع الرئيس بايدن على اتخاذ مثل هذه الإجراءات هو أولاً التشريع الذي أصدره مجلس النوب في الأول من أبريل 2022 بعدم تجريم حيازة الحشيش على المستوى الاتحادي، وثانياً الارتفاع المطرد مع الزمن في نسبة المواطنين الأمريكيين الذين يرغبون في السماح لاستخدام الحشيش. فاستطلاعات الرأي التي قامت بها عدة جهات مختصة مثل(Pew Research Center) و (Gallup poll) أفادت بأن 68% من الأمريكيين يريدون السماح لاستخدام الحشيش، مقارنة بنسبة 12% عام 1969، ونسبة 31% عام 2000، ثم 50% عام 2013. كما أفادت الإحصاءات بأن 16% من الشعب الأمريكي يدخن الحشيش ومعظمهم من الشباب من 18 إلى 34، مقارنة بنسبة 7% في عام 2013. كذلك أشارت الاستطلاعات في 30 أغسطس 2022 بأن 48% من الشعب أفادوا بأنهم جربوا تدخين الحشيش، في حين أن النسبة كانت لمن جرب تدخين الحشيش 4% فقط في 1969، ثم 24% في 1977، و 33 في 1985، وارتفعت إلى 40% في 2015. 

ولكن ما هو واقع الحال بالنسبة للسماح للحشيش الآن في أمريكا، هل هي تجربة ناجحة، أم فاشلة؟

 

للإجابة عن هذا السؤال أنقلُ لكم تصريح حاكمة ولاية نيويورك "كاثي هوكل"(Cathy Hochul)، كمثال واحد فقط، حيث قالت بعد تجربة مريرة خاضتها مع السماح للحشيش في الولاية منذ عام 2021، فوصفت التجربة بأنها "كارثة"، كما قالت بأننا نعجز كلياً في السيطرة على متاجر بيع الحشيش غير الرسمية وغير المرخص بها. فهناك 140 محلاً في الولاية لبيع الحشيش المرخص نظاماً، في حين أن هناك ما يتراوح بين 2000 إلى 8000 محل غير مرخص في مدينة نيويورك فقط. فقد تكونت أسواق سوداء مزدهرة ومنتشرة في جميع أنحاء الولاية، ومن المستحيل الآن السيطرة عليها، والتحكم في بيعها للحشيش على الأطفال وطلاب المدارس، وعلى أصحاب الجرائم المنظمة.

 

فهناك اليوم الكثير من الدراسات العلمية والتحقيقات الإعلامية التي تؤكد أن ما حدث في ولاية نيويورك يحدث أيضاً في الولايات الأخرى، وتشير جميعها إلى أن السماح للحشيش كان مكراً وحيلة شيطانية، وعبارة عن وهم وخدعة عظيمة وقع فيها الشعب الأمريكي برمته، ويعاني الآن من ويلاتها وتداعياتها العقيمة على الفرد، والأسرة، والمجتمع. فعلى سبيل المثال، نشرتْ مجلة "النيوزويك" في 12 مارس 2025 تحقيقاً تحت عنوان:" تجربة تحليل الماريجونا تتلاشى"، إضافة إلى المقالين في مجلة "نيو يوركر"(New Yorker)، الأول تحت عنوان:" المشكلة الحقيقية للحشيش المسموح به رسمياً"، والمنشور في 3 يوليو 2024، والثاني المنشور في 19 فبراير 2024 تحت عنوان: "الحشيش المسموح في نيويورك كان بمثابة انقلاب. ماذا حصل؟

 

وكل هذه التقارير حول كارثية السماح للحشيش لأغراض شخصية، تمخضتْ عنها عدة استنتاجات عامة، منها ما يلي:

أولاً: السماح للحشيش لم يمنع نشوء السوق السوداء في جميع الولايات، فقد نمت تجارة الحشيش السوداء في ظل وجود محلات بيع الحشيش الرسمية، مما كان له مردوداً عكسياً على نطاق واسع، وهذا يعني خطأ وفشل نظرية "اسمح للمنتج في الأسواق حتى لا تنشأ سوق سوداء".

ثانياً: حالات الاعتقال لجرائم مرتبطة بالحشيش زادت في بعض الولايات على عكس الادعاءات الجميلة التي كانت تقول بأن جرائم الحشيش والمخدرات ستنخفض أو ستتوقف عند السماح لها رسمياً. كذلك زادت الحوادث المرورية المميتة التي لها علاقة بتعاطي الحشيش.

ثالثاً: ارتفعت شكاوى الناس من تلوث الهواء في البيئات الداخلية والخارجية في المنازل والأحياء السكنية، ومحلات ومقاهي تدخين سجائر الحشيش، ومحطات القطارات والحافلات بسبب رائحة دخان الحشيش النفاثة والقوية، إضافة إلى تدهور جودة الهواء وصحة الناس من مدخنين وغيرهم من الذين يستنشقون الدخان، كما هو الحال بالنسبة لتدخين سجائر التبغ.

 

فاليوم تأكد للكثيرين في الولايات المتحدة أنهم استعجلوا كثيراً دون إجراء دراسات شاملة ومعمقة عن تداعيات السماح لبيع الحشيش، كما عرفوا الآن أن إيجابيات السماح لبيع الحشيش التي تم تسويقها للناس ما كانت إلا كسرابٍ بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. ولذلك فإجراءات تحليل الحشيش والسماح له لأغراض شخصية وترفيهية ستخضع الآن لمراجعة شاملة من جميع النواحي، متمنياً من جميع دول العالم الاتعاظ بتجربة أمريكا الفاشلة، والتعلم من دروسها وعبرها وهفواتها.

الاثنين، 6 أكتوبر 2025

اتعظوا من أخطاء الدول الصناعية

 

حوادث وكوارث بيئية صحية كثيرة متطابقة في نوعيتها وتأثيراتها وقعت في كبريات الدول المتقدمة الغربية والشرقية، وتؤكد هذه الحوادث بأن هذه الدول الصناعية المتطورة اتبعت منهجاً واحداً لا غير في النمو، وتبنت سياسة واحدة متشابهة في تنفيذ برامجها التنموية، وطبقت واستعانت بنمطٍ واحد للأنشطة التنموية في جميع القطاعات الاقتصادية وغير الاقتصادية، ولذلك حصدت جميع هذه الدول على نتيجة واحدة متطابقة، بالرغم من اختلافها وتباعدها الجغرافي، وهي تدمير شامل لكل مكونات البيئة، ووقوع كوارث صحية أودت بحياة الآلاف من الناس بين المرض العضال والموت البطيء.

 

وهذا النمط من النمو اعتمد على عدة فرضيات ومفاهيم خاطئة كانت تسود في كل دول العالم المتقدمة. الأول بأن البيئة ومكوناتها من مسطحات مائية من الأنهار والبحار والمحيطات، والهواء الجوي، عبارة عن أوساط بيئية واسعة وشاسعة في مساحاتها، وعظيمة في امتداداتها، بحيث أنها تستطيع أن تستوعب وتتكيف مع كل ما يُلقى في بطنها من ملوثات سامة وخطرة ومسرطنة، وأن هذه البيئات بفضل حجمها الهائل بقدرتها على تمييع وتخفيف هذه الملوثات مهما كانت أحجامها. ولذلك فتأثيراتها الضارة تنتهي مع الوقت وتزول، فيقل تركيزها، وتضمحل مردوداتها العقيمة على صحة البيئة. والثاني هو اعتبار استقلالية الأوساط البيئة وانفصال بعضها عن بعض، أي لا توجد أية روابط بين مكونات البيئة المختلفة، وأنه لا توجد علاقة وجودية ومصيرية بين كل مكون بيئي وآخر، فإذا اشتكى عضو من مكونات البيئة فإن سائر الأعضاء الأخرى لن تتداعى معها بالسهر والحمى، أي لا تتأثر بما يصيبها. والمفهوم الخاطئ الثالث هو أن مكونات البيئة غير متناهية مهما فعلنا بها، وأن الموارد والثروات البيئية لا تنضب ولا تنتهي ولا تضعف من الناحيتين النوعية والكمية. وأما المفهوم الرابع الذي كان يعتقده الإنسان هو أن سعادة الإنسان ورفاهيته، ورفع مستوى معيشته يتحقق فقط بالنمو السريع غير المنضبط وغير المقيد بأية عوامل أخرى، مثل العامل البيئي، فلا ضير من تلويث البيئة، ولا تداعيات ستصل إلى الإنسان ومجتمعه من سوء إدارة مكونات وعناصر البيئة. 

 

فهذا الفكر المعوق، وهذه الاعتقادات الضيقة وقصيرة الأمد التي مشت عليها الدول في الغرب والشرق، وسارت عليها لتنفيذ برامجها التنموية، ولَّدت عندهم مشكلات بيئية خطيرة متطابقة بسبب تطابق الأفكار والممارسات.

 

وسأُقدم مثالاً واحداً لتطابق الأفكار والأعمال وتطابق النتائج في الدول الصناعية المتقدمة، وهي اعتبار بيئة الأنهار، وهذه المسطحات المائية مواقع خصبة وصالحة للتخلص من ملوثات المصانع وغيرها. فالمثال الأول من قارة أمريكا الشمالية، وبالتحديد من مدينة شيكاغو في أمريكا، والثاني من قارة أوروبا ونهر السين في باريس، والثالث من اليابان من قارة آسيا وبالتحديد نهر جنتسو.

 

فمدينة شيكاجو العريقة في ولاية إيلينوي تتميز بهذا النهر الحضري الذي يبلغ طوله 251 كيلومتراً، أي النهر الذي يسير ويجري عبر قلب المدينة الحضرية، وفي مركزها الصناعي والتجاري الحيويين. ولكن بالرغم من وجود هذا النهر العظيم، وهذه الثروة المائية الهائلة، وهذا المورد الكبير، إلا أن الإنسان حُرِّم منذ قرابة مائة عام، أي منذ عام 1926 حتى 21 سبتمبر 2025، من التمتع بهذه الثروة الغنية، وتم حظر السباحة فيه كلياً، وانخفض بشكلٍ مشهود التنوع الحيوي في النهر من كافة أنواع الحياة الفطرية التي تعيش في الأنهار. فالإنسان منذ القرن الماضي اعتبر هذا النهر بيئة مائية خصبة يمكن التخلص من كافة مخلفاته السائلة، وشبه الصلبة، سواء أكانت مياه المجاري المعالجة وشبه المعالجة، أو المخلفات الصناعية السائلة، أو مسالخ مدينة شيكاجو، حيث اتبع الإنسان الطريقة الأسهل والأرخص، والأقل كلفة من الناحية المالية والتشغيلية على المدى القريب، فما كان منه إلا أن سمح لنفسه صرف جميع المخلفات من مصادرها المختلفة التي كانت موجودة على ضفاف النهر في بطن هذا المورد الثري والغني بالحياة. وبعد سنوات من رمي أحجامٍ كبيرة من المخلفات لم يعد النهر قادراً على تحمل المزيد، ولم يتمكن النهر من تخفيف تأثير هذه المخلفات على جسمه العليل، وبدنه الضعيف، فبدأت أعضائه تشتكي وتتألم من شدة الأضرار التي لحقت به، فتلوث ماء النهر إلى درجة لم يكن صالحاً للشرب والاستحمام وممارسة الرياضات المائية، كما أصابت الحياة الفطرية أعراض الحمى المزمنة والسخونة العالية، فبدأت الأسماك والأنواع الأخرى من الكائنات النهرية في الموت، والانخفاض الشديد في أعدادها. فهذا الحالة الكارثية التي وصلت إليها بيئة النهر على مدى عقود من الزمن، حرَّكت المنظمات والجمعيات المعنية بالبيئة إلى البدء سريعاً في إخراج النهر من حالة الإنعاش، والقيام بالإجراءات العلاجية اللازمة والضرورية لإخراج النهر من غرفة الطوارئ بشكلٍ عاجل. وقد نجح الإنسان في إجراء العملية العاجلة قبل الإعلان عن وفاة النهر، ولكن الكلفة كانت باهظة جداً من الناحية الاقتصادية، والبيئية، والصحية، والاجتماعية، والترفيهية، مما أكد للجميع أن الممارسات التي قام بها الإنسان قبل قرن وامتدت لسنوات طويلة كانت غير مستدامة.

 

وما وقع لنهر شيكاجو في أمريكا، تكرر نفسه مرة ثانية في أوروبا، وبالتحديد في نهر السين في القلب الحيوي النابض للعاصمة الفرنسية، باريس. فهذا النهر التاريخي والثقافي يبلغ طوله 777 كيلومتراً، ويعد من أهم معالم باريس خاصة، وفرنسا عامة، ولكن هذا النهر تعرض لتعديات الإنسان على حرماته والإضرار بكافة أعضاء جسمه، فنظراً لأنه يمشي في وسط المدينة وحوله محطات مياه المجاري والمصانع والمسالخ، فقد صُرفت في بطنه جميع أنواع المخلفات، حتى تشبعت به، فارتفع صوته من الألم والمعاناة الشديدة، فمنع الإنسان نفسه في عام 1923 السباحة في النهر، وتم الحظر على استهلاك الكائنات الفطرية الحية التي كانت تعيش في النهر. ولم يفتح النهر أبوابه للناس إلا في 5 يوليو 2024، أي بعد قرابة 100 عام من إغلاقه تزامناً مع بدء الألعاب الأولمبية الصيفية في باريس في يوليو 2024. 

 

ومن قارة أمريكا الشمالية وقارة أوروبا، ننتقل بكم إلى قارة آسيا في اليابان، حيث المشهد نفسه بكل تفاصيله يتكرر مرة ثالثة، فالأسباب لم تتغير، والنتائج والظواهر التي نتجت عنها متطابقة أيضاً. وهنا نقف أمام نهر جينزوا في مقاطعة توياما الذي تم العبث بصحته وأمنه من خلال صرف مياه المناجم الملوثة بالعناصر الثقيلة السامة في بدن هذه النهر الفطري الطبيعي وهذه الهبة الربانية، وعلى رأسها عنصر الكادميوم والرصاص وغيرهما. ومع استمرار صرف السموم، زاد تركيز الملوثات وتراكمت في مياه النهر التي كانت تستخدم لري أراضي الأرز، مما أصاب الشعب بمرضٍ عقيم زلزل الصحة العامة وأُطلق عليه "إتاي_إتاي"، أي "مؤلم_مؤلم". وبعدها تم إغلاق أبواب النهر للسباحة، وصيد الأسماك، ومنع استخدام مياه النهر للزراعة، ولم يسترجع النهر صحته وعافيته إلا بعد قرابة قرن من الزمن.

 

فهذه الأمثلة الثلاثة ما هي إلا غيض من فيض من أمثلة لا تعد ولا تحصى، ومن مظاهر بيئية، وكوارث صحية عقيمة نزلت على الدول الصناعية المتقدمة الكبرى بسبب ممارساتها غير المستدامة، وتصرفاتها غير المسؤولة والأحادية الجانب، مما يضطرنا إلى الوقوف أمامها للاتعاظ بها، والاستفادة من زلاتها، والاعتبار من هفواتها، وتجنب تكرار الممارسات التنموية الخاطئة التي وقعوا فيها، وإذا لم نفعل ذلك فالنتيجة معروفة ومحسومة، وهي دمار بيئي، وفساد صحي، وتنمية غير مستدامة.