الخميس، 7 فبراير 2013

لماذا هذا الاهتمام الدولي بالزئبق؟


ما هو الشيء الفريد والخاص بالزئبق لكي تترك دول العالم همومها وشؤونها اليومية ومشكلاتها الاقتصادية الخانقة فتجتمع مراتٍ كثيرة في دولٍ مختلفة من أجل الوصول إلى إجماعٍ دولي حول التحكم في هذا العنصر وتشديد الرقابة على مصادره؟

فقد خَتَمَتْ 140 دولة في 19 يناير اجتماعها الأخير في جنيف بعد أربع سنوات من المفاوضات الماراثونية الشاقة والمرهقة، وانتهت من كتابة الفصل الأخير لهذا الكتاب الطويل، حيث توصلت الآن إلى اتفاقية تاريخية تعتبر هي أول اتفاقية دولية ملزمة للأمم المتحدة تهدف إلى تحقيق الإدارة المستدامة للزئبق، وإلى أن تقوم كل دولة بخفض انبعاثاتها إلى الأوساط البيئية المختلفة، كما اتفقت الدول المُجتمعة على مراسم التوقيع على الاتفاقية في مدينة ميناماتا المشهورة في مقاطعة(Kumamoto Prefecture) في اليابان في أكتوبر من العام الجاري.

فلماذا إذن هذه الرعاية غير العادية من المجتمع الدولي برمته لهذا العنصر؟

إنَّ لهذا العنصر تاريخياً مظلماً ومخيفاً هَدَّدَ لعقودٍ طويلة من الزمن، ومازال، الصحة العامة للإنسان ولبيئته، فقد سقط بسبب الزئبق عشرات الآلاف من الضحايا البشرية بين صرعى لقوا حتفهم وقضوا نحبهم ووارى جثمانهم الثرى، وبين مرضى يصارعون الموت في كل ثانية، ويعانون من سكراته الشديدة، ويقاسون من أنواعٍ غريبة من التشوهات الخَلقية والعقلية التي لم يشهدها الإنسان من قبل.

فقد كتب هذا العنصر تاريخه بدماء الناس الذين تعرضوا له، وسطر كلماته من دموع وآهات وصرخات المرضى الذين تسممت دماؤهم وأعضاؤهم به، حيث انكشف الفصل الأول من كتاب تاريخ الزئبق في مطلع الثلاثينات من القرن المنصرم في مدينة ميناماتا الواقعة على خليج ميناماتا في اليابان، عندما سمحت شركة (Chisso) لصناعة البلاستيك والمواد الكيميائية الأخرى بصرف المخلفات السائلة الصناعية التي تحتوي على عنصر الزئبق بالدخول في مياه خليج ميناماتا، وبهذه الممارسة الخاطئة وقعت واحدة من أكبر الكوارث البيئية والصحية التي سببتها أيدي الإنسان.

فبعد أن دخل الزئبق في مياه البحر، ترسب مع الوقت وبسرية تامة وخفاء إلى التربة القاعية، وهناك حولت البكتيريا الزئبق من الحالة العنصرية إلى الحالة العضوية، وهو مركب ميثيل الزئبق الذي يُعد أشد فتكاً وخطورة بالإنسان، ومنها تحرك هذا السم القاتل إلى النباتات العالقة في الماء، ثم الحيوانات والأسماك، وأخيراً، وبعد سنوات طوال استكمل دورته، فرجع إلى الإنسان نفسه عندما تناول الأسماك الملوثة بالزئبق، فأصابه بأعراضٍ مرضية مميتة، تمثلت في تلفٍ مزمن في الخلايا العصبية، والإصابة بالشلل، وفقدان الذاكرة، والأدهى من هذا والأمَّر، والأشد خطورة على المجتمع برمته هو انتقال هذا الملوث من الأمهات إلى الأطفال عبر الأجيال المتلاحقة، ولذلك وبعد مرور أكثر من سبعين عاماً على هذه الكارثة المروعة مازالت هناك حالات تُكتشف حتى يومنا هذا مُصابة بهذا المرض.

ونتيجةً لهول وَقْعِ هذه الكارثة على المجتمع الياباني خاصة، والمجتمع الدولي عامة، فقد اعتذر رئيس وزراء اليابان أكثر من مرة للشعب الياباني، وأبدى أسفه الشديد واعتذاره لعدم قدرة الحكومة اليابانية على السيطرة على هذا الوباء القاتل.  

فلا غرابة إذن أن يثب المجتمع الدولي، فيقف وقفة رجلٍ واحد لمواجهة هذا المارد القاتل الذي تغلغل في كافة عناصر بيئتنا من ماءٍ وهاءٍ وتربة، وضرب أطنابه قوية في أعضاء أجسامنا فتراكم فيها، فكان لا بد بعد كل هذا وبعد أن كَشَفَتْ الكوارث البيئية والبشرية تاريخه الأسود الطويل من وضع القيود الملزمة دولياً على كافة تحركاته، ومراقبة جميع مصادره ومنتجاته، والعمل بجهدٍ جماعي مشترك من إلقاء القبض عليه أينما وجد.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق