الأربعاء، 26 فبراير 2025

لا تثقوا بالمواصفات الغربية

 

المواصفات التي تضعها الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ليست خالصة لوجه حماية الأمن الصحي للإنسان، والمعايير التي تُقررها هذه الدول في المجالات المختلفة لا تبتغي سلامة الإنسان أو سلامة البيئة التي نعيش فيها فقط، وإنما تشوبها دائماً شبهات توغل البعد السياسي والحزبي والشخصي، وتفوح منها رائحة جماعات الضغط ولوبي الشركات العملاقة المتنفذة التي تلعب بيدها وبمالها فتؤثر على اتجاه قرارات ومواقف رجال السياسة والتشريع والحكم.

 

فالمعايير البيئية، أو المعايير الصحية، أو المعايير الغذائية كلها يجب أن تمر أولاً على رقابة جماعات الضغط قبل أن تصل إلى مرحلة القرار النهائي والتنفيذ. فإذا كان المعيار في مجال البيئة ومصادر التلوث فسيخضع في البداية لمرئيات وموافقة شركات إنتاج واستخدام الوقود، إضافة إلى شركات تصنيع السيارات وغيرها من الشركات التي لها علاقة بهذا المعيار البيئي، كذلك إذا كانت المواصفة مرتبطة بالمنتجات الغذائية المجمدة والمعلبة وغيرهما، فإنها تعبر أولاً على اللوبي الغذائي والشركات الغذائية التي تعمل معها، وهكذا بالنسبة لأي نوع من المواصفات والمعايير التي تسعى الحكومة والجهات السياسية الأخرى إلى وضعها وتبنيها. مما يعني أن المعيار "مُسيس" وسيأخذ في الاعتبار مصالح هذه الشركات، وبالتحديد ترعى المصالح الاقتصادية والمصالح المرتبطة بالتوظيف والعمالة حتى ولو كانت على حساب الجانب العلمي ونتائج الأبحاث العلمية، والجانب الصحي للإنسان وأمن المكونات البيئية الحية وغير الحية.

 

وهذا الاستنتاج الذي توصلتُ إليه مبني على وقائع ميدانية وأدلة علمية دامغة في حالات كثيرة جداً عانى منها الإنسان، ومنها الحالة الأخيرة التي خرجتْ إلى وسائل الإعلام حول العالم في 15 يناير 2025 بخصوص حظر استخدام مادة الصبغ الأحمر 3(Red Dye 3) في المنتجات الغذائية والمشروبات المختلفة والأدوية والعقاقير التي تؤخذ عن طريق الفم.

فتبدأ قصة هذه المادة المسرطنة مع الإنسان والمجتمع البشري في عام 1907 عندما تمت الموافقة على إضافته في المنتجات التي يستهلكها ويستخدمها الإنسان. فهذه المادة الصناعية يُطلق عليها علمياً إسم "إريثروسين"(erythrosine)، وتُضاف إلى المواد الغذائية لإعطائها اللون الأحمر الزاهي، أو الوردي الفاتح، ويمكن معرفتها في قائمة محتويات الأطعمة والمشروبات باسم "إي 127" (E127)، وتوجد في أكثر من 3000 منتج غذائي، بما في ذلك أنواع الحلوى المختلفة للأطفال، والآيس كريم، والجيلي الأحمر، والمخبوزات، ومشروبات الفراولة، وأدوية السعال والكحة. ولكن تمت الموافقة على إضافة هذه المادة الكيميائية الغريبة إلى طعام ومشروبات الإنسان بضغوط الشركات المصنعة لها دون إجراء الدراسات المتعلقة بسلامتها على الصحة العامة.

ومنذ عام 1907 حتى عام 1960 كانت المادة تستخدم على نطاق واسع جداً في منتجات غذائية وغير غذائية لا تعد ولا تحصى، حيث أجرت إدارة الغذاء والدواء مراجعة وتحديث لجميع مضافات المنتجات الغذائية، بما في ذلك الصبغة الحمراء، فأعادت موافقتها كمضاف غذائي استسلاماً واستجابة لمصالح الشركات المتنفذة. ولكن في عام 1990 بسبب بعض الدراسات الطبية التي أشارت إلى وجود علاقة بين هذه المادة وسرطان الغدة الدرقية في فئران المعامل، قررت إدارة الغذاء والدواء منعها فقط في منتجات التبرج والزينة. ولكن من الغريب وغير المفهوم أنها لم تتخذ أية خطوة لحظرها كمضاف في آلاف المنتجات الغذائية التي يستهلكها الأطفال والشباب والكبار، بالرغم من تحذير العلماء بتهديدها للصحة العامة، ويرجع السبب وراء هذا الإجراء غير العملي وغير الصحي أن الشركات المصنعة ادعت بأنه لا يوجد دليل علمي دامغ على أن هذه المادة تصيب السرطان للإنسان. 

ثم في نوفمبر عام 2022 تم تقديم وعريضة والتماس من قبل عدة مجموعات ومنظمات معنية بحماية المستهلك منها "مركز العلوم للمصلحة العامة" لمنع الصبغة الحمراء من المنتجات الغذائية، بسبب الشكوك التي تحوم حولها بأنها تسبب السرطان، ولها علاقة بإصابة الأطفال بالنشاط المفرط.

 

واستجابة لهذه النداءات الشعبية وفي 15 يناير 2025، أي بعد قرابة ثلاث سنوات من تقديم العريضة، وبعد أكثر من قرن من استخدامها وتعريضها لصحة الناس والأطفال خاصة لتهديدات الإصابة بالأمراض المزمنة، أصدرتْ إدارة الغذاء والدواء أمراً بحظر إضافته إلى المواد الغذائية والمشروبات والأدوية، كما أعلنت بأن على منتجي المواد الغذائية والأدوية إزالتها بحلول 15 يناير 2027، وبحلول 18 يناير 2028، على التوالي، مما يعني أن أضرار هذه المادة المسرطنة ستستمر أكثر من ثلاث سنوات أخرى حتى تتم إزالتها كلياً من جميع المنتجات التي يستهلكها البشر!!! 

 

والجدير بالذكر بأن ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية منعت إضافته إلى المنتجات الغذائية في أكتوبر 2023، كما أن دولاً أخرى حول العالم حظرت استخدامه قبل عقود طويلة من الزمن، مثل أستراليا، ونيوزلندا، والاتحاد الأوروبي، واليابان.

 

فهذه الحالة تؤكد بأن أية مواصفة في أي قطاع، وفي أي مجال تُوضع في الولايات المتحدة الأمريكية، أو في الدول الغربية عامة تكون عادة "مسيسة"، أي لا تستند فقط على الأدلة العلمية، ولا تبني قراراتها فقط على استنتاجات الدراسات الميدانية الموثوقة، وإنما تدخل عوامل أخرى تضعف من قوة هذه المواصفة، وتخفف من شدتها، وتؤثر على محتواها. فهذه المواصفات تأخذ في الاعتبار المصالح الاقتصادية للشركات الصناعية المتنفذة وذات السلطة على أي قرار سياسي تتخذه الحكومات، كما تأخذ في الاعتبار الجانب التقني والعملي في إمكانية تنفذ المواصفة على أرض الواقع دون التأثير على أرباح الشركات وعلى العاملين فيها.

 

وبعد هذه التجربة المريرة مع مادة الصبغ الأحمر التي تغلغلت في أعماق صحة البشر وسلامتهم منذ أكثر من مائة عام، ستتكرر التجربة نفسها مع المواصفات في القطاعات الأخرى، ومع البديل لهذه المادة الحمراء المسرطنة، وسيمر الإنسان بالمراحل نفسها التي مرَّ فيها مع الصبغ الأحمر دون أن يعتبر ويتعظ بالدرس الذي أمامه، حيث إن هناك مضافات غذائية أخرى تضيف ألواناً محددة إلى المنتجات الغذائية، كالأحمر، والأبيض، والأزرق، والأصفر، والأخضر، فمنها مازالت تستخدم حتى الآن، ومنها ما ستضاف كمادة جديدة دون إجراء الدراسات اللازمة والمستضيفة لتأثيراتها على الصحة العامة.

 

الخميس، 20 فبراير 2025

كيف نجعل الإنجاز الطبي التاريخي مستداماً؟



أفتخر كثيراً كمواطن بحريني عندما أرى أمامي مثل هذا الإنجاز التاريخي الطبي في مجال التصدي لمرض مزمن يستعصي على العلاج منذ قرون طويلة من الزمن، حيث عانى من هذا المرض الملايين من البشر في كل أنحاء العالم. ويزيدني اعتزازاً وفخراً أن هذا الإنجاز الكبير جاء من جزيرة صغيرة جداً في مساحتها الجغرافية، ولكن كبيرة جداً في كفاءة ومثابرة شبابها، وقوية في خبرات علمائها، وثرية في علم أطبائها في الميدان.

 

كما أن هذا الإنجاز والابتكار البحريني جاء مُعترفاً به ومقدراً له على المستوى العالمي، ومن منظمة تابعة للأمم المتحدة متخصصة في مجال حماية صحة الإنسان على المستوى العالمي، ووقايته من الأمراض الحادة والمزمنة، حيث قدَّم المدير العام لمنظمة الصحة العالمية شهادة هذا الإنجاز المتميز والفريد من نوعه. فقد هنّأ "تيدروس أدهانوم غيبريسوس"، المدير العام للمنظمة مملكة البحرين في تغريدة نشرها في 17 فبراير 2025 على نجاحها في تقديم أول علاج لمرض فقر الدم المنجلي الوراثي خارج الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام تقنية زراعة النخاع الحديثة والتي يُطلق عليها "كريسبر للتعديل الجيني".

 

ولكن المهم الآن هو أن نقف أمام هذا الإنجاز البحريني في المجال الطبي، ونسأل أنفسنا كيف سننجح في أن نُحول هذا الحدث التاريخي إلى إنجازات "مستدامة" لمملكة البحرين، لكي تكسب سمعة عالية على المستوى المحلي، وتحظى بالاهتمام والثقة على المستوى الدولي؟ فبعبارة أخرى يجب أن نحول هذا النجاح الدولي الأول والفريد من نوعه إلى نجاحات وابتكارات وتطورات مستمرة ودائمة في كافة المجالات الطبية، فلا نقف عند هذا الحد، فتفتر عزائمنا مع الوقت، فنرجع إلى الوراء، ونتأخر عن الركب الدولي. وهذا السؤال يصب في رؤية مملكة البحرين والشعار الرسمي للدولة وهو السعي نحو تحقيق التنمية المستدامة في كافة قطاعات الدولة.

 

ومن أهم العوامل التي تجعلنا ننجح في تحدي "الاستدامة" في العطاء، والانجاز، والتقدم الطبي وفي المجالات الأخرى، هو توفير واعداد وحماية وتطوير ثروة الشباب والعامل البشري بشكلٍ عام من الأطباء ذوي الاختصاص الدقيق في كل المجالات والتخصصات الطبية، إضافة إلى تأهيل الممرضين من الكفاءات العالية والخبرات الطويلة، علاوة على الأفراد العاملين في الطب والتخصصات الطبية المساندة المختصة في التحاليل المخبرية، والتغذية الإكلينيكية، وغيرهما من التخصصات الأخرى. ثم العامل الثاني لاستمرارية النجاح والتطور هو وجود الأجهزة الطبية التي يعتمد عليها الأطباء في التشخيص والتحليل وتقييم حالة كل مريض.

 

وفي الجانب الآخر وهو الأهم في تقديري، والأصعب في مواجهة تحدي "الاستدامة"، والذي يعتبر الشريان الرئيس للنجاح في استدامة الإنجاز والتقدم، ويعد الوقود الذي يشعل توافر كل هذه التخصصات واستدامة وجودها وعطائها وانتاجها، ويغذيها بشكل يومي هو حجم الميزانية المرصود سنوياً، وبشكلٍ مستدام لتحقيق هذه الإنجازات والتطور الطبي، والمواصلة في رفع اسم البحرين عالياً في سماء التقدم الطبي على كافة المستويات. فهناك معادلة بسيطة جداً تحكم تحقيق الاستدامة، وهي كلما أنفقنا أكثر على تحقيق التطور في علاج الأمراض، كلما ارتفع الإنتاج، وزادت الإنجازات، وتقدمنا خطوات كبيرة إلى الأمام لنسابق الدول المتطورة والمتقدمة، وكلما عملنا على الترشيد والخفض في الانفاق الطبي، فذلك سيؤدي بنا إلى التأخر والرجوع إلى الوراء، وتدهور الخدمات الطبية والرعاية الصحية، ثم فقدان ثقة الناس على المستويين القومي والدولي.

 

واليوم وفي أكثر دول العالم تقدماً وتطوراً في مجالات وقطاعات كثيرة، ولا سيما في المجال الطبي، وهي الولايات المتحدة الأمريكية من المحتمل أن نشهد مصداقية هذه المعادلة. 

 

فالرئيس ترمب بسياساته الشاذة والمختلفة، ورغبته الجامحة، حسب رأيه، في ترشيد الانفاق، وخفض المصروفات على المستوى الاتحادي، قام بخفض الميزانية المخصصة للبحث العلمي في المجال الطبي، وبخاصة الأبحاث الأساسية الأصيلة التي تؤدي إلى اكتشافات جديدة، إضافة إلى الأبحاث التجريبية السريرية التي عن طريقها يمكن اكتشاف أدوية جديدة للأمراض والأسقام المزمنة وتطوير إجراءات وتقنيات حديثة لعلاج هذه الأمراض. وقد انعكس هذا التوجه الجديد لخفض النفقات والمنح عن المراكز البحثية الطبية وعن الجامعات والمستشفيات الجامعية في الإعلان المنشور من مكتب مدير "المعاهد القومية للصحة" في 7 فبراير 2025 تحت عنوان: "التوجيهات المتعلقة بالمنح والسياسات الخاصة بالمعاهد القومية للصحة: الكلفة غير المباشرة". فالمعاهد القومية للصحة تدخل تحت مظلتها معاهدة اتحادية كثيرة، منها المعاهد المتخصصة في السرطان، وأمراض القلب، والسكري، وغيرها من المعاهد التي تُجري الأبحاث الطبية المتقدمة والجديدة، حيث قُدر الخفض بنحو 4 مليارات دولار.

 

فهذه السياسة من الإدارة الجديدة، دقت ناقوس الخطر في المجتمع العلمي الطبي في الولايات المتحدة الأمريكية برمتها، وبالتحديد في الجامعات ومراكز البحث العلمي المتخصصة، ونُشرت الكثير من البيانات والمقالات التي تبين تهديد هذه السياسة للبحث العلمي في أمريكا، إضافة إلى خفض قدرتها التنافسية مع الدول والأمم الأخرى، وجعلها تسير خلف الركب بدلاً من أمامه في الوقت الحالي.

 

فعلى سبيل المثال، هناك التقرير المنشور في صحيفة "يو إس توداي"(USA Today) الواسعة الانتشار في 18 فبراير 2025 تحت عنوان: "قطع ترمب للدعم المالي سيؤدي إنهاء الأبحاث الطبية المنقذة للحياة، والناس ستموت"، حيث يؤكد التحقيق بأن هذا النمط المجحف من خفض الدعم المالي وترشيد النفقات على الأبحاث والدراسات في القطاع الصحي، لو استمر فسيؤدي إلى اغلاق التجارب والأبحاث السريرية، وآلاف الناس سيفقدون وظائفهم، كما أن التطور والتقدم الطبي سيتوقف، والناس ستموت. ويقدم التقرير أمثلة على الإنجازات الطبية الخارقة والعظيمة التي تحققت في أمريكا بفضل الأبحاث الطبية الممولة من المنح الاتحادية، مثل علاج أمراض السرطان بشكلٍ عام، والسكري من النوع الثاني، وأمراض القلب، ومرض باركنسون، والأمراض المعدية كالإيدز، إضافة إلى أمراض مزمنة كثيرة أخرى. كذلك هناك التحقيق المنشور في صحيفة "نيويورك تايمس" العريقة في 7 فبراير 2025 تحت عنوان: "قطع إدارة ترمب للدعم المالي يضع التطور الطبي في خطر"، حيث يؤكد المقال بأن قطع هذا الدعم المالي الفيدرالي له عواقب وخيمة جداً على سمعة أمريكا في الأبحاث الطبية، وسيؤدي بها إلى الرجوع إلى الوراء والتبعية، وتدهور القطاع الطبي بشكلٍ عام.

 

فما يحدث الآن في أغنى دول العالم، وأكثرها تطوراً وتقدماً في كافة القطاعات والمجالات من تهديد للإنجازات الطبية التي تحققت، واضعاف قدرات وإمكانات أمريكا البحثية الطبية، لا شك أنه من المحتمل أكثر أن يقع لدول صغيرة محدودة الموارد والثروات، مثل البحرين. فهل سننجح في سباق تحدي "الاستدامة" ونستمر في الإنتاج والانجاز الطبي؟

الأربعاء، 12 فبراير 2025

آخر إعلان للمسؤول الأول عن الصحة العامة في أمريكا؟

 

المسؤول الأول عن صحة الشعب الأمريكي والذي يُطلق عليه اسم "الجراح العام"(Surgeon General)، أو المستشار الصحي الأول للحكومة الفيدرالية التابع مباشرة لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية يهتم بدرجة أساسية بكل ما يؤثر على صحة المواطن الأمريكي، ويضر بأمنه الصحي العام، سواء أكانت الصحية الجسدية، أو العقلية، أو النفسية. ولذلك من واجبات هذا المسؤول هو استشراف وتقييم الأوضاع الصحية للشعب على المدى القريب أو البعيد، والتعرف على كل العوامل المستجدة التي تؤثر عليه. أي واجبه التحذير المبكر والاستباقي والوقائي من أية تحديات وتهديدات تفسد الأمن الصحي للناس، وتُلقيهم في شبح الإصابة بالأمراض والعلل الحادة والمزمنة، ثم نشرها في وثيقة علمية عامة على صورة بيان عام للأمة تحت عنوان: "استشارة الجراح العام للولايات المتحدة". وفي هذا البيان العام يقوم بتشخيص القضية الصحية، وتقديم آخر الأبحاث والدراسات المنشورة حولها، ويبن خطورتها على المجتمع الأمريكي، ثم أخيراً يقدم التوصيات اللازمة لمعالجة هذه الظاهرة الصحية، ومواجهتها والتصدي لها، وتعميق ورفع مستوى وعي واتجاه الشعب والحكومة الأمريكية بكيفية تجنبها والتخلص منها.

 

وآخر التحذيرات التي أعلن عنها هذا المسؤول الاتحادي نُشرت في الثالث من يناير 2025 في وثيقته الرسمية الدورية تحت عنوان: "الكحول ومخاطر السرطان"، أي بعبارة أخرى علاقة شرب الخمر بمخاطر الإصابة بأمراض السرطان. وهذا البيان يتمحور حول عدة نقاط، منها أولاً: شرب الخمر يعتبر من الأسباب الرئيسة للسرطان والتي يمكن منعها وتجنبها والتخلص منها كلياً، وثانياً: العلاقة السببية بين شرب الخمر والتعرض للسرطان والأدلة التي تثبت هذه العلاقة، والمحور الثالث فهو آلية وكيفية إصابة شارب الخمر بالسرطان، ورابعاً: التوصيات بكيفية تجنب هذا المرض الناجم عن السرطان، وخامساً وأخيراً هو تحديث التحذيرات الصحية القديمة المكتوبة على زجاجات وعلب الخمر.

 

فالخمر الآن يمر بالمراحل التاريخية نفسها التي مرَّ فيها تدخين السجائر، حيث إن تدخين السجائر كان في الماضي ممارسة طبيعية جداً بين الرجال والنساء، بل وكان المدخن يفتخر والسيجارة بيده، حتى تحول التدخين إلى موضة أمريكية غربية، وسلوك عصري منتشر بين كافة فئات المجتمع ومن نمط الحياة الغربي. ولكن في 12 يونيو 1957 جاء الإعلان التاريخي الأول للجراح العام الأمريكي والذي أفاد فيه بأن الأدلة تشير إلى وجود علاقة سببية بين التدخين وسرطان الرئة، ثم تبعه الإعلان الحاسم والقوي تحت عنوان: "التدخين والصحة" في 11 يناير 1964، حيث أكد فيه الجراح العام ولأول مرة بأن هناك علاقة وثيقة بين التدخين والإصابة بسرطان الرئة، أي بعبارة أخرى تدخين السجائر يسبب السرطان، علماً بأن الإعلان نُشر يوم السبت حتى يقلل هذه الصدمة القوية على تقلبات سوق الأسهم وتقع خسائر لا تحمد عواقبها، مما يؤكد بأن الحكومة الأمريكية تأخذ دائماً الجانب الاقتصادي كأولوية في كل أعمالها وقراراتها لمنع أي تأثير سلبي على اقتصاد أمريكا وازدهار شركاتها المتنفذة على القرار في الحكومة والكونجرس معاً. ثم تحولت هذه القضية الصحية إلى قضية سياسية تدخل فيها الكونجرس، فسن قانوناً في عام 1965 يلزم شركات التبغ على وضع علامات تحذيرية على علب السجائر، وصيغة هذه التحذيرات تغيرت مع الوقت ومع ثبوت الأدلة العلمية المتعلقة بأضرار التدخين، فأصبحت العلامات الموجودة اليوم تؤكد وتجزم بأن التدخين قاتل ويسبب أنواعاً كثيرة من السرطان، وأمراض القلب، والجهاز التنفسي.

 

أما بالنسبة للخمر ففي عام 1988 سن الكونجرس تشريعاً تحت عنوان: "وضع العلامات على المشروبات الكحولية"، والمتعلق بالموافقة على وضع علامات تحذيرية على زجاجات وعبوات الخمر، حيث جاء في هذه الملصقات والعلامات: "تحذير حكومي: (1) بناءً على اعلان الجراح العام، على المرأة أن لا تشرب المشروبات الكحولية أثناء الحمل لأنه يزيد من مخاطر التشوهات في المولود. (2) شرب المشروبات الكحولية يؤثر على قدرتك في قيادة السيارة أو تشغيل الآليات، وقد يسبب لك مشكلات صحية". فهذا الإعلان كان خجولاً جداً ومخفياً عن الأنظار في عبوات الخمر، فصياغته ضعيفة جداً ولا تنفر الناس من شرب الخمر، كما إنها مكتوبة بخطٍ صغير جداً قد لا يرى بالعين المجردة، ولذلك لم يف بالهدف من وضعه، ولم يجعل الأمريكيين يتجنبون، أو يقللون من شرب الخمر.

 

ونتيجة لهذا الإعلان غير الفاعل وغير المؤثر، ونظراً لانكشاف أدلة طبية كثيرة موثقة تثبت أضرار الخمر على الصحة العامة خاصة، والمجتمع الأمريكي عامة، كان لا بد من تحديث الملصق القديم، وكان لا بد من تحذير الناس، ورفع وعيهم وتغيير اتجاهاتهم وسلوكياتهم بالنسبة لشرب الخمر.

 

ومن البراهين العلمية الميدانية التي بدأت تتراكم مع الزمن أن شرب الخمر يسبب قرابة 100 ألف حالة سرطان سنوياً في الولايات المتحدة الأمريكية، ويؤدي إلى موت 20 ألف كل سنة، كما يعتبر شرب الخمر السبب الثالث الذي يمكن منعه وتجنبه للإصابة بالسرطان، بعد التدخين، والبدانة والوزن الزائد. وهذا يعني بأن أمراض السرطان الناجمة عن الخمر يمكن منعها كلياً وبكل بساطة، وبدون بذل أي مجهود على المستويين الحكومي والفردي، ودون إنفاق المال على الدواء والعلاج، وهو العزوف عن شرب الخمر كلياً ومنع بيعه في الأسواق. كما أكدت الأبحاث الطبية وأثبتت وجود علاقة مباشرة بين شرب الخمر والسرطان، وتم الكشف عنها أولاً في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، ومع الزمن تم الوصول إلى اجماع الأطباء والعلماء على واقعية هذه العلاقة، كما تم إثبات أن شرب الخمر يؤدي إلى الوقوع في شباك ما لا يقل عن سبعة أنواع مختلفة من السرطان، وهي سرطان الثدي، والقولون والمستقيم، والحنجرة، والكبد، والفم، والمريء، والبلعوم. كما أكد العلماء بأن المخاطر تزيد مع ارتفاع نسبة شرب الخمر، كما إنه لا يوجد حد آمن لشرب الخمر، فكل كأس تشربه يؤدي بك في نهاية المطاف إلى الوقوع في نوعٍ من أنواع السرطان.

 

وعلاوة على ما سبق فقد قامت منظمة الصحة العالمية ممثلة في الذراع العلمي المختص بالسرطان وهو "الوكالة الدولية للأبحاث حول السرطان"، بتصنيف الخمر ضمن المجموعة الأولى من المواد المسرطنة للإنسان، مثل التدخين، والأسبستوس، والفورمالدهيد.

 

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الدليل العلمي والطبي وحده يكفي لمنع مادة قاتلة للشعوب وتسبب لهم السرطان والأمراض المزمنة الأخرى مثل الخمر والتدخين، سواء في دولة مثل أمريكا، أو في أية دولة أخرى؟

 

مع الأسف أن الحقائق والثوابت العلمية التي يُجمع عليها العلماء في أية قضية تهم الناس صحياً أو بيئياً أو غذائياً لا تكفي وحدها لاتخاذ القرار السليم والمستدام الذي يحمي صحة الإنسان وبيئته. فالعامل الاقتصادي دائماً يدخل على الخط وعلى مسار اتخاذ القرار، وجماعات الضغط، أو "اللوبي" يلعبون دوراً رئيساً في هذه العملية. ولذلك بالنسبة لوباء شرب الخمر، فإن هناك اجماعاً على افساده لصحة الشعب والمجتمع، ولكن هذا لا يكفي لمنع بيعه، فشركات صناعة الخمر ذات النفوذ الواسع والكبير والهيمنة على السلطتين التنفيذية والتشريعية تتدخل في رفض منعه حتى لا تقل أرباحهم السنوية، حيث إنها تنفق سنوياً قرابة 30 مليون دولار على أعضاء الكونجرس الأمريكي، أي على السلطة التشريعية لنيل رضاهم، وكسب تأييدهم وأصواتهم وموافقتهم على الاستمرار في بيع الخمر. فقد أصدر مجلس أمريكي معني بالخمر هو(Distilled Spirits Council of the United States) ويمثل المنتجين والمسوقين للخمر بياناً يرفض إعلان الجراح العام المتعلق بوضع علامة جديدة على زجاجات الخمر تُحذر من أن الخمر يسبب السرطان، وجاء فيه بأن: "العديد من خيارات أنماط الحياة تحمل مخاطر محتملة"، كما أضاف البيان بأن العلامات الحالية التي توضع على زجاجات الخمر تقدم معلومات للمستهلك عن المخاطر المحتملة لشرب الخمر".

 

فالدول الغربية، وتتبعها دول العالم الأخرى أولويتهم هي الازدهار والنمو الاقتصادي للشركات العملاقة متعددة الجنسيات التي تسيطر على حكومات الدول ونواب الشعب، ولو كان ذلك على حساب الصحة العامة للشعوب، أو على حساب مكونات وعناصر بيئتنا.