الأربعاء، 5 فبراير 2025

القمر ضمن المواقع المهددة بالخطر!

 

عبثتْ أيدي الإنسان الفاسدة بكوكب الأرض برمته منذ أكثر من قرنين من الزمان، فامتدت آثار الملوثات التي كان يُطلقها وتجذرت أضرارها في الهواء، والمسطحات المائية، والمياه الجوفية، والتربة، وفي كل شبرٍ من هذه المكونات البيئية أينما كانت، قريبة في المدن والقرى، أم بعيدة في المناطق النائية الخالية من أي وجود أو نشاط بشري. بل وفي العقود القليلة الماضية بلغت هذه السموم التي سمح الإنسان لها بدخول بيئتنا إلى أعالي السماء السفلى في طبقة الأوزون وفي الغلاف الجوي بشكلٍ عام، ثم انتقلت إلى أعالي السماء العليا في الفضاء الواسع الشاسع العظيم.

 

واليوم بعد أن ارتكب الإنسان عمله الشنيع بتلويث كوكب الأرض، والتعدي على حرماته، واستباحة صحة وسلامة عناصره الحية وغير الحية، هل جاء دور الأجرام السماوية الأخرى في الفضاء والسماء العليا ليعيث أيضاً فيها فساداً وتدميراً، ويتعدى على فطرتها الأصلية السليمة كما خلقها الله سبحانه وتعالى؟

 

والإجابة عن السؤال تأتي من منظمة دولية يُطلق عليها "صندوق الآثار العالمي"، أو الصندوق العالمي للآثار والتراث والمعالم الدولية. فطبيعية عمل هذه المنظمة هي إلقاء الضوء على معالم التراث التاريخي الأثري الدولي، وتهتم بلفت أنظار العالم إلى المواقع الأثرية المهددة والموجود على سطح الأرض. وهناك عدة أسباب تَذْكرها المنظمة لهذا التدهور في سلامة المواقع التراثية والثقافية الأثرية. أما السبب الأول فهو نزول ظاهرة التغير المناخي المعروفة لدى الجميع على الكرة الأرضية برمتها، ولهذه الظاهرة الدولية تداعيات تتمثل في سخونة الأرض وارتفاع حرارتها، إضافة إلى ارتفاع مستوى سطح البحر وما ينجم عنه من كوارث مناخية عقيمة، وفيضانات مدمرة، وأعاصير مهلكة للبشر والشجر والحجر. وكل هذه الكوارث تضر بصحة وسلامة واستمرارية وجود المعالم الأثرية الموجودة على البيئات الساحلية. والسبب الثاني هو السياحة المفرطة، حيث أن وجود أعدادٍ كثيفة مزدحمة من السواح في موقع أثري واحد، واستمرار ذلك طوال العالم يضر بأمن هذه المواقع من ناحية سلوكيات وتصرفات الكثير من السواح. وأما السبب الثالث فهو الأزمات السياسية والنزاعات البشرية المسلحة، سواء بداخل الدولة الواحدة وبين الطوائف المختلفة، أو بين أكثر من دولة واحدة، كما حصل في غزة عندما هدم الجيش الصهيوني الكثير من المعالم الأثرية، والمرافق التاريخية التراثية، من كنائس، ومساجد، ومقابر، وارتكب إبادة جماعية شاملة للبنية التحتية الأثرية والتراثية والخدمية والتعليمية والسياحية في غزة. ثم يأتي السبب الرابع المؤثر على سلامة المباني التراثية وهو الزحف العمراني والسكاني والصناعي على هذه المواقع التراثية، إضافة إلى شح الموارد المالية والبشرية في الدولة لحمايتها والحفاظ عليها.

 

ولكن هذا العام انتقل اهتمام صندوق الآثار العالمي من المرافق والمواقع التراثية على وجه الأرض، وركز بوصلته على مواقع خارج حدود كوكبنا، فتوسع الاهتمام وامتد إلى ما وراء حدود كوكبنا بمسافات طويلة جداً لم تخطر على بال أحد، ولم يتوقعها أي إنسان، فالتفت الأنظار إلى الأجسام والكويكبات التي تحوم في فضائنا الواسع الفسيح.

 

 وهذه السنة توسع اهتمام ورؤية هذه المنظمة لتخرج من أروقة كوكبنا الصغير، ومن حدود أرضنا الضيقة إلى ما وراء ذلك بكثير، وبمسافات بعيدة جداً وإلى الفضاء الرحب الشاسع العظيم، وبالتحديد القمر. فتقرير المنظمة لعام 2025 يشتمل على مواقع مهددة بالخطر من 29 دولة حول العالم، منها بريطانيا، والهند، والصين، ولكن ولأول مرة أحد هذه المواقع التاريخية المهددة من قبل الإنسان يكون خارج حدود كوكبنا براً وبحراً وجواً، وإلى القمر في الفضاء الفسيح، والذي يعتبر من المواقع التراثية الطبيعية الفطرية للبشرية جمعاء، ويشترك الجميع في ملكيته وحق التصرف فيه.

 

وهناك عدة أسباب ومبررات جعلت هذه المنظمة تخرج من حدود كوكبنا، فتنظر إلى القمر الذي يبعد قرابة 384400 كيلومتر عن الأرض، كمعلم تاريخي تراثي مهدد بوقوع تغييرات على هويته، وطبيعته، وفطرته التي فطره الله عليه. أما السبب الأول فهو أن أيدي الإنسان العبثية الفاسدة، وأنشطته اللامتناهية قد انتقلت من كوكبنا إلى عنان السماء وفي أعالي الفضاء، وتوسعت برامجه الطموحة إلى أبعد الحدود وإلى مواقع لم تخطر من قبل على بال أحد، مثل القمر، والمريخ وغيرهما. فبدأ اهتمام الإنسان يتزايد باستكشاف القمر، والتعرف على أسراره وخفاياه منذ الخمسينيات من القرن المنصرم، وهذا الاهتمام كان من أجل استراتيجيات وخطط طويلة الأمد، كاستغلال الموارد والثروات الطبيعية المخزنة على سطح القمر ولاتي يحتاج إليها الإنسان لأنشطته الصناعية المستقبلية. كذلك اعتبار القمر قاعدة أولية، وبناء مستعمرات بشرية عليه، أو اعتباره منطقة عبور وتنقل "ترانزيت"، وموقع للانطلاق نحو الأجسام البعيدة جداً في كوننا الفسيح والعميق.

 

فأول رحلة إلى القمر بدون أي إنسان في المركبة الفضائية، كانت في 12 سبتمبر 1959(لونا 2) من الاتحاد السوفيتي، واعتبرت أول رحلة ميدانية يتم فيها التحام والتماس مادة من الأرض مع جسم كوكب في الفضاء، حيث حطَّت السفينة الفضائية على سطح القمر. ثم في 3 فبراير 1966(لونا 9) نجح السوفييت بالنزول بأمان على القمر. وفي 30 مايو 1966(سيرفيور 1)(Surveyor 1)، أنزلت الولايات المتحدة أول سفينة على القمر، وجاءت بعد ذلك المهمة التاريخية "أبولو 11" في 20 يوليو 1969، حيث وطأة قدما أول إنسان على سطح القمر. وبعد هذه الرحلة الناجحة، توقفت الرحلات عقوداً من الزمن حتى تمكنت الصين في 4 ديسمبر 2013(Change-3) ودخلت تاريخ الفضاء في النزول على سطح القمر، كما نجحت الصين في 3 مايو 202 (6Change-) ولأول في أخذ عينة من التربة من الجزء البعيد من القمر. وبعدها جاءت الهند في المهمة الفضائية(Chandrayaan-3)في 23 أغسطس 2023، فأصبحت الدولة الرابعة في الهبوط بسلام على القمر، ولأول مرة عالمياً في الهبوط في القطب الجنوبي البعيد من القمر، حيث يوجد الماء على هيئة الجليد.

 

وأما السبب الثاني فهو دخول القطاع الخاص على خط الاستكشافات الفضائية، وبالتحديد الرحلات إلى القمر. ففي السابق جميع المهمات والاستكشافات الفضائية البحثية كانت تحت إشراف الحكومات بشكل مباشر، والتمويل أيضاً من ميزانية هذه الحكومات. ولكن الخطورة في تقديري هو سياسة القطاع الخاص الذي أولويته الرئيسة ليست في الاستكشاف والبحث العلمي فحسب، وإنما في الاستثمار وجني الأرباح والأموال من هذه الرحلات الفضائية، واعتبارها فرصاً للازدهار والنمو الاقتصادي، وعلى حساب كل شيء آخر، سواء أكان صحة الناس، أو صحة البيئة على سطح كوكبنا، أو صحة وسلامة الفضاء والأجسام الموجودة في الفضاء. فمن ضمن مهمة وكالة الفضاء الأمريكية تحت مسمى "أرتيميس"(Artemis)، شاركت ولأول مرة الشركات الخاصة، وأسهمت مالياً مع ناسا في 22 فبراير 2024 في هبوط المركبة "أوديسيس"(Odysseus) على سطح القمر. كما أن شركة (STAR VISION) الصينية أعلنت في 26 يناير 2025 عن برامجها الطموحة بالتعاون مع الحكومة الصينية ممثلة في الإدارة القومية الصينية للفضاء وباستخدام الإنسان الآلي بتقنية الذكاء الاصطناعي لاستكشاف البيئة القمرية. كما أن القطاع الخاص دخل في مجال فضائي جديد هو السياحة الفضائية بمختلف أنواعها، فالنوع الأول هو فقط الرحلة الفضائية والمكوث في الفضاء، وربما في السنوات القادمة ستكون الرحلات متجهة نحو القمر والهبوط على سطحه.

 

فكل هذه المهمات والرحلات الاستكشافية على سطح القمر تركت وراءها مخلفات صلبة من صنع الإنسان من أنواع كثيرة مختلفة، كالأجهزة والمعدات الصغيرة والكبيرة، ولا يعلم أحد تأثيراتها المستقبلية على هوية سطح القمر، كما أنها في الوقت نفسه هددت نوعية التربة، وأثرت على استقرارها وثباتها.

 

فالإنسان فشل في حماية مكونات الأرض الحية وغير الحية التي بين يديه وأمام عينيه، وأثر عليها نوعياً وكمياً، فتسبب في انكشاف ظواهر ومشكلات بيئية مزمنة كثيرة انعكست على صحة وسلامة كوكبنا برمته. فهل سيتعلم الإنسان من هذا الدرس العقيم فينجح في حماية القمر والأجسام الفضائية الأخرى وبيئة الفضاء بشكلٍ عام من فساد الإنسان؟

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق