المسؤول الأول عن صحة الشعب الأمريكي والذي يُطلق عليه اسم "الجراح العام"(Surgeon General)، أو المستشار الصحي الأول للحكومة الفيدرالية التابع مباشرة لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية يهتم بدرجة أساسية بكل ما يؤثر على صحة المواطن الأمريكي، ويضر بأمنه الصحي العام، سواء أكانت الصحية الجسدية، أو العقلية، أو النفسية. ولذلك من واجبات هذا المسؤول هو استشراف وتقييم الأوضاع الصحية للشعب على المدى القريب أو البعيد، والتعرف على كل العوامل المستجدة التي تؤثر عليه. أي واجبه التحذير المبكر والاستباقي والوقائي من أية تحديات وتهديدات تفسد الأمن الصحي للناس، وتُلقيهم في شبح الإصابة بالأمراض والعلل الحادة والمزمنة، ثم نشرها في وثيقة علمية عامة على صورة بيان عام للأمة تحت عنوان: "استشارة الجراح العام للولايات المتحدة". وفي هذا البيان العام يقوم بتشخيص القضية الصحية، وتقديم آخر الأبحاث والدراسات المنشورة حولها، ويبن خطورتها على المجتمع الأمريكي، ثم أخيراً يقدم التوصيات اللازمة لمعالجة هذه الظاهرة الصحية، ومواجهتها والتصدي لها، وتعميق ورفع مستوى وعي واتجاه الشعب والحكومة الأمريكية بكيفية تجنبها والتخلص منها.
وآخر التحذيرات التي أعلن عنها هذا المسؤول الاتحادي نُشرت في الثالث من يناير 2025 في وثيقته الرسمية الدورية تحت عنوان: "الكحول ومخاطر السرطان"، أي بعبارة أخرى علاقة شرب الخمر بمخاطر الإصابة بأمراض السرطان. وهذا البيان يتمحور حول عدة نقاط، منها أولاً: شرب الخمر يعتبر من الأسباب الرئيسة للسرطان والتي يمكن منعها وتجنبها والتخلص منها كلياً، وثانياً: العلاقة السببية بين شرب الخمر والتعرض للسرطان والأدلة التي تثبت هذه العلاقة، والمحور الثالث فهو آلية وكيفية إصابة شارب الخمر بالسرطان، ورابعاً: التوصيات بكيفية تجنب هذا المرض الناجم عن السرطان، وخامساً وأخيراً هو تحديث التحذيرات الصحية القديمة المكتوبة على زجاجات وعلب الخمر.
فالخمر الآن يمر بالمراحل التاريخية نفسها التي مرَّ فيها تدخين السجائر، حيث إن تدخين السجائر كان في الماضي ممارسة طبيعية جداً بين الرجال والنساء، بل وكان المدخن يفتخر والسيجارة بيده، حتى تحول التدخين إلى موضة أمريكية غربية، وسلوك عصري منتشر بين كافة فئات المجتمع ومن نمط الحياة الغربي. ولكن في 12 يونيو 1957 جاء الإعلان التاريخي الأول للجراح العام الأمريكي والذي أفاد فيه بأن الأدلة تشير إلى وجود علاقة سببية بين التدخين وسرطان الرئة، ثم تبعه الإعلان الحاسم والقوي تحت عنوان: "التدخين والصحة" في 11 يناير 1964، حيث أكد فيه الجراح العام ولأول مرة بأن هناك علاقة وثيقة بين التدخين والإصابة بسرطان الرئة، أي بعبارة أخرى تدخين السجائر يسبب السرطان، علماً بأن الإعلان نُشر يوم السبت حتى يقلل هذه الصدمة القوية على تقلبات سوق الأسهم وتقع خسائر لا تحمد عواقبها، مما يؤكد بأن الحكومة الأمريكية تأخذ دائماً الجانب الاقتصادي كأولوية في كل أعمالها وقراراتها لمنع أي تأثير سلبي على اقتصاد أمريكا وازدهار شركاتها المتنفذة على القرار في الحكومة والكونجرس معاً. ثم تحولت هذه القضية الصحية إلى قضية سياسية تدخل فيها الكونجرس، فسن قانوناً في عام 1965 يلزم شركات التبغ على وضع علامات تحذيرية على علب السجائر، وصيغة هذه التحذيرات تغيرت مع الوقت ومع ثبوت الأدلة العلمية المتعلقة بأضرار التدخين، فأصبحت العلامات الموجودة اليوم تؤكد وتجزم بأن التدخين قاتل ويسبب أنواعاً كثيرة من السرطان، وأمراض القلب، والجهاز التنفسي.
أما بالنسبة للخمر ففي عام 1988 سن الكونجرس تشريعاً تحت عنوان: "وضع العلامات على المشروبات الكحولية"، والمتعلق بالموافقة على وضع علامات تحذيرية على زجاجات وعبوات الخمر، حيث جاء في هذه الملصقات والعلامات: "تحذير حكومي: (1) بناءً على اعلان الجراح العام، على المرأة أن لا تشرب المشروبات الكحولية أثناء الحمل لأنه يزيد من مخاطر التشوهات في المولود. (2) شرب المشروبات الكحولية يؤثر على قدرتك في قيادة السيارة أو تشغيل الآليات، وقد يسبب لك مشكلات صحية". فهذا الإعلان كان خجولاً جداً ومخفياً عن الأنظار في عبوات الخمر، فصياغته ضعيفة جداً ولا تنفر الناس من شرب الخمر، كما إنها مكتوبة بخطٍ صغير جداً قد لا يرى بالعين المجردة، ولذلك لم يف بالهدف من وضعه، ولم يجعل الأمريكيين يتجنبون، أو يقللون من شرب الخمر.
ونتيجة لهذا الإعلان غير الفاعل وغير المؤثر، ونظراً لانكشاف أدلة طبية كثيرة موثقة تثبت أضرار الخمر على الصحة العامة خاصة، والمجتمع الأمريكي عامة، كان لا بد من تحديث الملصق القديم، وكان لا بد من تحذير الناس، ورفع وعيهم وتغيير اتجاهاتهم وسلوكياتهم بالنسبة لشرب الخمر.
ومن البراهين العلمية الميدانية التي بدأت تتراكم مع الزمن أن شرب الخمر يسبب قرابة 100 ألف حالة سرطان سنوياً في الولايات المتحدة الأمريكية، ويؤدي إلى موت 20 ألف كل سنة، كما يعتبر شرب الخمر السبب الثالث الذي يمكن منعه وتجنبه للإصابة بالسرطان، بعد التدخين، والبدانة والوزن الزائد. وهذا يعني بأن أمراض السرطان الناجمة عن الخمر يمكن منعها كلياً وبكل بساطة، وبدون بذل أي مجهود على المستويين الحكومي والفردي، ودون إنفاق المال على الدواء والعلاج، وهو العزوف عن شرب الخمر كلياً ومنع بيعه في الأسواق. كما أكدت الأبحاث الطبية وأثبتت وجود علاقة مباشرة بين شرب الخمر والسرطان، وتم الكشف عنها أولاً في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، ومع الزمن تم الوصول إلى اجماع الأطباء والعلماء على واقعية هذه العلاقة، كما تم إثبات أن شرب الخمر يؤدي إلى الوقوع في شباك ما لا يقل عن سبعة أنواع مختلفة من السرطان، وهي سرطان الثدي، والقولون والمستقيم، والحنجرة، والكبد، والفم، والمريء، والبلعوم. كما أكد العلماء بأن المخاطر تزيد مع ارتفاع نسبة شرب الخمر، كما إنه لا يوجد حد آمن لشرب الخمر، فكل كأس تشربه يؤدي بك في نهاية المطاف إلى الوقوع في نوعٍ من أنواع السرطان.
وعلاوة على ما سبق فقد قامت منظمة الصحة العالمية ممثلة في الذراع العلمي المختص بالسرطان وهو "الوكالة الدولية للأبحاث حول السرطان"، بتصنيف الخمر ضمن المجموعة الأولى من المواد المسرطنة للإنسان، مثل التدخين، والأسبستوس، والفورمالدهيد.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل الدليل العلمي والطبي وحده يكفي لمنع مادة قاتلة للشعوب وتسبب لهم السرطان والأمراض المزمنة الأخرى مثل الخمر والتدخين، سواء في دولة مثل أمريكا، أو في أية دولة أخرى؟
مع الأسف أن الحقائق والثوابت العلمية التي يُجمع عليها العلماء في أية قضية تهم الناس صحياً أو بيئياً أو غذائياً لا تكفي وحدها لاتخاذ القرار السليم والمستدام الذي يحمي صحة الإنسان وبيئته. فالعامل الاقتصادي دائماً يدخل على الخط وعلى مسار اتخاذ القرار، وجماعات الضغط، أو "اللوبي" يلعبون دوراً رئيساً في هذه العملية. ولذلك بالنسبة لوباء شرب الخمر، فإن هناك اجماعاً على افساده لصحة الشعب والمجتمع، ولكن هذا لا يكفي لمنع بيعه، فشركات صناعة الخمر ذات النفوذ الواسع والكبير والهيمنة على السلطتين التنفيذية والتشريعية تتدخل في رفض منعه حتى لا تقل أرباحهم السنوية، حيث إنها تنفق سنوياً قرابة 30 مليون دولار على أعضاء الكونجرس الأمريكي، أي على السلطة التشريعية لنيل رضاهم، وكسب تأييدهم وأصواتهم وموافقتهم على الاستمرار في بيع الخمر. فقد أصدر مجلس أمريكي معني بالخمر هو(Distilled Spirits Council of the United States) ويمثل المنتجين والمسوقين للخمر بياناً يرفض إعلان الجراح العام المتعلق بوضع علامة جديدة على زجاجات الخمر تُحذر من أن الخمر يسبب السرطان، وجاء فيه بأن: "العديد من خيارات أنماط الحياة تحمل مخاطر محتملة"، كما أضاف البيان بأن العلامات الحالية التي توضع على زجاجات الخمر تقدم معلومات للمستهلك عن المخاطر المحتملة لشرب الخمر".
فالدول الغربية، وتتبعها دول العالم الأخرى أولويتهم هي الازدهار والنمو الاقتصادي للشركات العملاقة متعددة الجنسيات التي تسيطر على حكومات الدول ونواب الشعب، ولو كان ذلك على حساب الصحة العامة للشعوب، أو على حساب مكونات وعناصر بيئتنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق