الأحد، 29 أبريل 2012

احتفال في اليابان


في نوفمبر 1991 قمت بزيارةٍ علميةٍ إلى اليابان من أجل التعرف على القضايا البيئية التي تواجهها، والاطلاع عن كثب على أهم التحديات التي تعاني منها هذه الدول التي انبهر العالم من انجازاتها بعد سقوطها في الحرب، كما رغبت من خلال هذه الزيارة التعرف على نقاط الضعف في العمليات التنموية التي شهدتها اليابان والأخطاء التي وقعت فيها.

ومن بين الزيارات الميدانية التي قُمتُ بها هي زيارة لمتحفٍ فريدٍ من نوعه وغريب من حيث أهدافه والصور والوثائق التي يعرضها، فلأول مرة في حياتي أرى متحفاً خاصاً لعرض قضية بيئية قومية وقعتْ في اليابان، وهي كارثة مرض إتاي إتاي التي هزت الشعب الياباني في مطلع الخمسينيات، وأحدثت زلزالاً شديداً جذوره مازالت ضاربة في أطناب المجتمع الياباني، وستبقى خالدة أبد الدهر يتذكرها اليابانيون كما يتذكرون نائبة قنبلتي هيروشيما وناجازاكي.    

ولذلك فاليوم، وبعد مرور قرابة ستين عاماً على نزول هذه الطامة الكبرى، وبالتحديد في 18 مارس 2012، أقيم احتفال في اليابان، ولكن لم يكن احتفالاً تقليدياً من أجل عيدٍ من الأعياد اليابانية السعيدة، أو إحياء ذكرى مناسبةٍ بهيجة تَجمع بسببها اليابانيون، وإنما أقيم الاحتفال واكتظ الناس وتجمهروا من مسئولين ومواطنين من أجل هذه الكارثة البيئية الصحية.

فقد أقيم الاحتفال في منطقة توياما على ضفاف نهر جنزو، حيث موقع المتحف الذي زرته، وتم الإعلان عن انتهاء أطول مشروع بيئي عرفته اليابان، بدأ عام 1979، أي قبل 33 عاماً وانتهى في مارس 2012، وتمثل في إعادة تأهيل وتنظيف منطقة برمتها وتغيير تربتها السامة ومياهها الملوثة بعنصر الكادميوم المسبب للسرطان، وبلغت كلفة هذا المشروع قرابة 41 بليون ين.

فهذه الكارثة العظيمة سببها بسيط جداً وهو السماح لملوثات الكادميوم الناجمة عن أحد المناجم من الدخول في بيئة النهر الذي كان يستخدم ماؤه للشرب وري حقول الرز. فالكادميوم من الملوثات التي لا تتحلل عند ولوجها في البيئة، إذ لها القدرة على التراكم في مكونات البيئة وأعضاء جسم الإنسان. ولذلك فإن الكادميوم عندما سمح له الإنسان في الدخول في النهر، استقر في تربة النهر أولاً، وبدأ في سرية تامة بالتركيز والانتقال إلى ماء النهر، ثم إلى أعضاء جسم الإنسان عند شرب ماء النهر، أو إلى الرز عند الري باستخدام ماء النهر الملوث، ومنه أخيراً إلى الإنسان، واستغرقت هذه الدورة التي بدأت بالإنسان وانتهت بالإنسان أكثر من عشرين عاماً. فمع مرور الوقت، أخذ الكادميوم في التركيز في جسم البيئة وفي جسم الإنسان حتى سقط مريضاً يقاسي من آلامِ مرضٍ غريب لم يعرفه الطب في ذلك الوقت، وبدأ يصرخ من شدة المعاناة ويقول “إتاي إتاي”، أي “مؤلم مؤلم”، فمنهم من قضى نحبه وهو لا يدري سبب آلامه وموته.

وهناك الكثير من العبر التي نستقيها من هذه الكارثة، أُلخصها في النقاط التالية:
أولاً: التلوث يبدأ بالإنسان عندما يسمح للملوثات بالدخول في البيئة، وينتهي بالإنسان، فهو أول المتضررين منه.
ثانياً: المشكلات البيئية كالكرة الثلجية تكبر في حجمها وتتفاقم في مردوداتها كلما دحرجتها وتركتها دون معالجة جذرية تجتث المشكلة من أصولها، فتبدأ كمشكلة بيئية، ثم صحية، وأخيراً تتحول إلى قضية سياسية وأمنية قد تؤدي إلى زعزعة استقرار الحكومة.
ثالثاً: المشكلة البيئية إذا سمحنا بوقوعها قد يكون حلها صعباً ومكلفاً ويستغرق سنواتٍ طويلة جداً.
رابعاً: لا بد من تبني السياسية الوقائية أي السياسة المعتمدة على منع التلوث من مصدره، بدلاً من السياسة العلاجية المبنية على ردة الفعل وعلاج التلوث والمرض بعد وقوعه وانتشاره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق