الأربعاء، 12 سبتمبر 2012

ألمانيا تعتذر



إذا ذهبتَ يوماً إلى ألمانيا، وبالتحديد زُرتَ مدينة ستولبرج التي تقع في المنطقة الغربية من ألمانيا، فستشاهد تمثالاً غريباً وفريداً من نوعه مصنوعاً من البرونز، لا تُشاهده في أية دولةٍ أخرى في العالم، وهذا التمثال البرونزي يُجسم منظر طفلٍ صغيرٍ لا أطراف له، أي ليست له أيدٍ أو أرجل.

وربما تتساءل معي: ما هي قصة هذا التمثال، وإلى ماذا يرمز منظر هذا الطفل المُشوه خَلْقياً؟

تبدأ قصة هذا التمثال قبل أيامٍ فقط عندما قامت مجموعة شركات عريقة معروفة في ألمانيا بصناعة الدواء وهي مجموعة جرونثال(Grünenthal Group) ممثلة في رئيسها التنفيذي هارالد ستوك بإزالة الستار عن هذا التمثال الذي أُطلق عليه بالطفل المريض، وبعد الانتهاء من مشهد كشف الستار ألقى ممثل شركة الدواء كلمة أعرب فيها عن أسف الشركة العميق واعتذارها عن الكارثة الصحية العضوية والنفسية التي بدأت خيوطها المدمرة تنتشر في معظم دول العالم منذ مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، ووقع ضحيتها أكثر من 20 ألف امرأة من 46 دولة في العالم، وسببت الإعاقات والتشوهات الخَلْقية لعشرات الآلاف من الأطفال الذين وُلِدَ بعضهم بلا أطرافٍ كلياً، أو أطرافٍ ناقصة، كنصف رِجل، أو نصف يد، أو ولدوا بأيدٍ ناقصة تشبه بعض الحيوانات البحرية، أو ولدوا بتشوهات في العين، والأذن، والقلب، والكلى، والجهاز الهضمي.

فالآن وبعد أكثر من خمسين عاماً من معاناة الناس المتضررين والذين عاشوا حياتهم كلها تحت عذاب الإعاقة الجسدية والتشوه العضوي والمعاناة النفسية منذ ولوجهم إلى الحياة الدنيا، تأتي هذه الشركة لتُقدم أسفها لهؤلاء الناس وتعترف بخطئها، إلا أنها بالرغم من ذلك فإنها لم تُحمَّل نفسها المسؤولية الكاملة على هذا الخطأ الجسيم، فقد أفادت بأنها عندما صنعت الدواء المُتهم بارتكاب الكارثة الصحية، قامت بإجراء التجارب الضرورية المتعارف عليها في تلك الحقبة الزمنية، وبعد التأكد من ذلك، قامت بتسويقه على مستوى ألمانيا ودول العالم برمته، وأَطْلقتْ عليه بالدواء الأعجوبة بسبب خصائصه المميزة، فهو مهدئ ومسكن قوي، ويساعد على النوم، ويستخدم لعلاج الصداع، والكحة، والأرق، وبخاصة لمعالجة الأعراض المرضية التي تصيب المرأة الحامل عند الصباح.  
فهذا الدواء الذي يتكون من مركب عضوي اسمه الثاليدوميد(thalidomide) ويُسوق تجارياً على شكل كبسولة بيضاء اللون تحت اسم كونترجن (Contergan) له بالفعل مميزات علاجية خارقة، ولكن ما لم يعرفه الإنسان أن هذا المركب نفسه يعيش على هيئتين شبه متطابقتين، إحداهما يتحد مع مركب الـ دي إن آيه الذي يحمل الصفات الوراثية عند الإنسان وله تأثيرات تسبب تشوهات خَلقية أثناء نمو الجنين وهو في بطن أمه، كما أن هذا الدواء الأعجوبة يمنع نمو أوعية دموية جديدة في الجنين، أي توقف نمو بعض الأعضاء في الجسم فيؤدي إلى ظهور أنواعٍ مختلفةٍ من الإعاقات الجسدية والتشوهات الخَلقية.

ولذلك عَمَّ البلاء في معظم دول العالم، وانتشرت ظاهرة ولادة الأطفال المشوهين، وفي كل دولة تقرأ عن قصصٍ مأساوية للناس الذين تجرعوا كأس هذا الدواء السام، ونظراً لهذا الخطب الجلل والمصيبة الكبرى التي نزلت على أعدادٍ كبيرة من البشر، قام الكثير من الدول، ومن بينها بريطانيا بتأسيس مجلس للعناية بالمصابين ومتابعة حالاتهم، أَطلقتْ عليه “المجلس الاستشاري القومي للثاليدوميد”، وشكلت صندوقاً لذلك تحت اسم “صندوق الثاليدوميد”، كما أن المحاكم في هذه الدول اكتظت بالقضايا ذات العلاقة بهذا الدواء، ومازالت هذه القضايا حتى الآن موجودة في أروقة المحاكم لم يتم البت فيها. 

وبعد هذا الكارثة الصحية، ما هي الدروس التي نستقيها؟
أولاً: معظم الأدوية عبارة عن مركبات صناعية ملوثة لجسم الإنسان، تُعالج مرضاً محدداً وقد تصيب الإنسان بمشكلات صحية أخرى، وفي بعض الحالات، كما هو بالنسبة للثالدوميد، الضرر يكون أشد وأكبر من نفعه.

ثانياً: الشركات الكبرى، سواء أكانت شركات الأدوية أو غيرها، لا يهمها إلا الربح والثراء الفاحش والعاجل، ولذلك تدافع عن منتجاتها بكل وسيلة شرعية أو غير شرعية حتى الرمق الأخير، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها السجائر، والشيشة، وعملية التانينج المسرطنة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق