الأحد، 4 أغسطس 2024

كم عدد الوفيات من تلوث الهواء

 

كارثة بشرية وقعتْ في مطلع شهر الأعياد والأفراح في مدينة الضباب، مدينة لندن العريقة، وبالتحديد في الفترة من 5 إلى 9 ديسمبر عام 1952، حيث لقي أكثر من 4000 لندني نحبهم في أسبوعٍ واحدٍ فقط، ودخل الآلاف إلى المستشفيات وهم يعانون من ضيق في التنفس، وآلامٍ في الصدر والقلب، والتهابٍ شديد في الجلد والعينين. ثم بعد هذه الفترة الزمنية القصيرة والصعبة التي حلَّت على لندن، تلتها أيام مروعة، بلغ فيها عدد الوفيات الإجمالي إلى أكثر من 8000، إضافة إلى عددٍ مهول من المرضى المصابين بأعراض مرضية حادة ومؤلمة.  

                                                                                                    

فهل تعلمون السبب في نزوٍل هذه النكبة الصحية العقيمة على سكان لندن؟

 

في الحقيقة أن السبب لم يكن مألوفاً واعتيادياً لدى الجهات المسؤولة، أو عامة الناس في تلك المرحلة الزمنية من عمر الإنسان، فلم تكن كارثة طبيعية قد نزلت عليهم، كالزلزال، أو الفيضانات والأعاصير المهلكة، أو البرد الشديد المفاجئ، أو غير ذلك من الأسباب التي تتعرض لها الأمم والشعوب في كل أنحاء العالم، وإنما السبب كان غريباً عليهم، وكان جديداً على المجتمعات البشرية جمعاء في كل مدن العالم، فالسبب كان من صُنع البشر، وكان نتيجة لما ارتكبتها أيدينا الآثمة من تعدٍ فاضح على حرمات مكونات البيئة، وبالتحديد الهواء الجوي.

 

فمصادر تلوث الهواء الكثيرة كانت تُطلق سمومها الكثيفة بكل حرية، وبدون أية ضوابط أو شروط أو تحَكُم في أحجامها ونوعيتها وتركيزها، فكانت تدخل الهواء الجوي، وفي مكونات الضباب البارد الأسود ساعة بعد ساعة، وتبدأ في التراكم فيه وارتفاع تركيزها حتى وصلت إلى المستوى الحرج الكبير الذي أثر على صحة عشرات الآلاف من السكان الذين تعرضوا لها، فمنهم من قضى نحبه فوراً، ومنهم من أُدخل المستشفيات ينتظر مصيره.

 

فمثل هذه الطامة الكبرى التي نزلت على لندن أيقظت المسؤولين من غفوتهم وتجاهلهم لما يستطيع تلوث الهواء القيام به للجسم البشري من فساد ودمار ووفاة، فجاءت ردود فعل كثيرة لمواجهة هذا التحدي البيئي الصحي العقيم، ومن أهمها سن تشريع خاص تحت مسمى "قانون الهواء النظيف" الذي أصدره مجلس العموم البريطاني في عام 1956.

 

ولكن بالرغم من تلك الكارثة اللندنية التي ذهب آلاف البشر ضحية لها بين قتيل وجريح، يعالج جرحه في المستشفيات، إلا أن هذه الكارثة مازالت مستمرة حتى يومنا هذا، ولكن بصور مختلفة متنوعة من حيث نوعية وكمية الملوثات التي تنطلق إلى الهواء الجوي، ومن حيث نوعية وشدة الأسقام التي أصابت البشر بسبب هذا الخليط المعقد من الملوثات.

 

 ونظراً لواقعية هذه الكارثة المستمرة منذ أكثر من قرن، وتجذر تأثيراتها المهلكة للبشر والشجر والحجر ليست على لندن فحسب، وإنما على كل مدن العالم الحضرية المكتظة بالسيارات، والطائرات، والباخرات، والقطارات، ومصانع توليد الكهرباء والطاقة، فقد خصصت مجلة "علوم"(Science) المرموقة والعريقة عدداً كاملاً نُشر في 26 يوليو 2024 تحت عنوان: "تلوث الهواء".

 

وقد احتوى هذا العدد الخاص على عدة مقالات ودراسات تُعنى بالمردودات الصحية لتلوث الهواء الجوي على سكان المدن الحضرية بصفةٍ خاصة، ومن أهمها المقال تحت عنوان: "نحو هواء أنظف وصحة أفضل: الوضع الحالي، والتحديات والأولويات"، إضافة إلى الدراسة بعنوان: "مراقبة وتقييم تعرض السكان لتلوث الهواء".

 

وقد تمخضت عن هذه الدراسات عدة استنتاجات يُجمع عليها العلماء الآن حول تلوث الهواء بشكلٍ عام، وهي كما يلي:

أولاً: تلوث الهواء ولو بمستويات منخفضة يُسهم في قتل البشر في سنٍ مبكرة، ويُقدر عدد الموتى سنوياً بمعدل 5.2 مليون إنسان على المستوى الدولي.

ثانياً: كشفت آلاف الدراسات الوبائية بأن التعرض لبعض الملوثات، مثل الدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي قطرها أقل من 2.5 مايكرومتر، وثاني أكسيد النيتروجين، وأول أكسيد الكربون، والأوزون، وثاني أكسيد الكبريت، والمركبات العضوية المتطايرة، يسبب خليطاً مميتاً من الأمراض غير المعدية الحادة والمزمنة. وبعض هذه الملوثات كالدخان، أو الجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر مُصنَّف من قبل منظمة الصحة العالمية بأنه مسرطن ضمن المجموعة الأولى من المواد المسرطنة والمسببة لسرطان الرئة بشكلٍ خاص. كما أن الدخان الذي ينبعث من التدخين، وحرق البخور والعود، وعوادم السيارات، يعد من أخطر الملوثات، ومن أشدها تهديداً وفساداً للصحة العامة، فبِقُدرة هذه الجسيمات الدقيقة الولوج إلى أعماق الجهاز التنفسي، ثم إلى الدورة الدموية التي بدورها تنقل هذا الجسيمات إلى كل خلية من خلايا جسم الإنسان، فتتراكم فيها، وتعرض الإنسان مع الوقت لأمراض مستعصية. ونظراً لهذا التهديد الذي يمثله الدخان، فقد قامت منظمة الصحة العالمية بتغيير المواصفة الخاصة بها في عام 2021، حيث خفضت النسبة المسموح بها في الهواء الجوي من 10 ميكروجرامات في المتر المكعب كمعدل سنوي إلى 5 فقط.

 

ثالثاً: أكثر من 99% من سكان الأرض يتعرضون لتركيز عالي من الملوثات يتجاوز المواصفات الخاصة بجودة الهواء، سواء في البيئات الداخلية أو الخارجية، مما يعني بأن سكان الأرض يقعون تحت وطأة ملوثات الهواء الجوي، ويصبحون فريسة سهلة ولقمة سائغة للأمراض التي تنجم عن العيش في البيئات الملوثة.

رابعاً: هذا الوضع الحالي لجودة الهواء يتعارض مع "أهداف التنمية المستدامة لعام 2030" التي وضعتها الأمم المتحدة، وتحث الدول على تحقيقها، وبالتحديد الخاصة بالهواء النظيف والعيش في بيئة صحية.

خامساً: هناك علاقة بين تعرض الأم الحامل للملوثات أثناء فترة الحمل والتعقيدات التي تنتج من الحمل، مثل ولادة الجنين الميت، أو الولادة المبكرة وانخفاض وزن الجنين، أو التشوهات في أعضاء الجنين بعد الولادة.

سادساً: صنَّفتْ منظمة الصحة العالمية ممثلة في الوكالة الدولية لأبحاث السرطان في 17 أكتوبر عام 2013 "الهواء الجوي" بأنه من ضمن المواد التي تسبب السرطان للإنسان. كما أن المنظمة تحذر دائماً من التهديدات الصحية التي يمثلها تلوث الهواء بشكلٍ عام. فقد صرح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية في عدة مناسبات بأن تلوث الهواء أصبح الآن "حالة صحية طارئة وصامتة"، كما قال: "لقد تجاوز العالم منعطف التبغ، ونواجه الشيء نفسه في الهواء السام الذي نستنشقه، والذي يُعد التبغ الجديد، فلا أحد يَسْلم من تلوث الهواء، لا غني ولا فقير، إنها حالة صحية طارئة وصامتة".

سابعاً: تلوث الهواء يعتبر قنبلة دمار شامل للجسم البشري برمته، عضوياً، ونفسياً، وعقلياً، وفي كل سنة يكتشف الإنسان مرضاً جديداً بسبب التعرض لتلوث الهواء الجوي. وآخر هذه الاكتشافات ظهر في الدراسة المتعلقة بتلوث الهواء ومخاطر الإصابة بهشاشة العظام، والمنشورة في مجلة "علوم" في 26 يوليو 2024. فقد أشارت الدراسة إلى أن التعرض للملوثات في الهواء الجوي يؤدي إلى هشاشة العظام، أي انخفاض وزن وكثافة العظام مما يجعلها عرضة للكسر بسهولة.

 

وعلاوة على ذلك فقد أفادت دراسة تحت عنوان: " التعرض لتلوث الهواء في مرحلة الطفولة المرتبط بأعراض الشعب الهوائية المُبلغ عنها ذاتياً في مرحلة البلوغ"، والمنشورة في 25 يونيو 2024 في "المجلة الأمريكية لطب الجهاز التنفسي والرعاية الحرجة"، بأن التعرض للملوثات أثناء مرحلة الطفولة ينكشف ضررها بعد عقود طويلة من الزمن ويظهر على الجهاز التنفسي بشكل عام، والشعب والقصيبات الهوائية بشكل خاص. وهذا يعني بأن أضرار تلوث الهواء التي تصاب بها عند الطفولة تلاحقك كلما كبرت في السن، ولا يمكن التخلص منها حتى عند الكبر.

 

ومما سبق من الضروري أن تعطي الدول اهتماماً خاصاً بجودة الهواء الجوي ووضعها في أعلى سلم الأولويات من خلال منع مصادر تلوث الهواء، أو خفض تركيز الملوثات التي تنبعث منها من أجل حماية الصحة العامة للناس وابعادهم عن شر السقوط في الأسقام المهلكة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق