الخميس، 22 أغسطس 2024

المخلفات الغازية والصلبة الناجمة عن حرب الإبادة في غزة


عدة دراسات وتقارير أممية وجامعية وإعلامية نُشرت منذ حرب الإبادة الجماعية الشاملة التي يشنها الكيان الصهيوني بدعمٍ ومساعدة عسكرية شاملة من الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، وبريطانيا ودول غربية أخرى. وهذه التقارير وثقت وغطت جوانب مختلفة تمخضت عن حرب الإبادة الشاملة، ومعظمها ركز على الجانب الإنساني من حيث مقتل أكثر من 40 ألف فلسطيني في غزة، معظمهم من الأطفال والنساء، إضافة على الجانب العمراني المتمثل في التدمير الشامل للمباني السكنية، والمرافق الخدمية العامة، والمساجد والكنائس والجامعات والمقابر، والحقول الزراعية المثمرة والمنتجة.

 

وهذه الحرب الضروس الظالمة على الشعب الفلسطيني الأعزل المدافع عن وطنه وأرضه وعرضه، تمخضت عنها أيضاً تأثيرات بيئية عميقة، ومردودات عقيمة تجذرت في شرايين كل مكونات البيئة الحية وغير الحية. ولكن هذا الجانب لم يحظ بالاهتمام المطلوب، ولم يلق ما يستحق من عناية ورعاية وتوثيق علمي دقيق، فلا حياة كريمة للإنسان في بيئة ملوثة، ولا حياة صحية وآمنة للإنسان عند العيش في ظلِ هواء ملوث، وماء آسن، وتربة مسمومة، فلا استدامة ولا سلامة. 

 

فالعمليات العسكرية الصهيونية المشتركة من الجو، والبر، والبحر، ولَّدت انبعاثات غازية مشبعة بخليطٍ معقد من الملوثات السامة والخطرة، كما أنتجت كميات ضخمة غير مسبوقة في تاريخ البشرية من المخلفات الصلبة الخطرة والمتفجرة والسامة والمسرطنة من جهة، والمخلفات الصلبة غير الخطرة من جهة أخرى.

 

أما الانبعاثات الغازية السامة التي لوثت الهواء الجوي وأفسدت جودته وصحته فنجمت من عدة مصادر متنوعة. فالمصدر الأول نجم عن حركة الطيران الحربي جواً، وثانياً الانبعاثات من انفجار الأطنان من مختلف أنواع القنابل والمتفجرات والصواريخ خلال 60 يوماً فقط، وثالثاً من حركة طائرات الشحن العسكرية الأمريكية العملاقة خاصة والغربية عامة، والتي لم تتوقف طوال فترة الهجوم العسكري البري والجوي والبحري، إضافة إلى الانبعاثات من عوادم السيارات البرية العسكرية بمختلف أنواعها وأحجامها.

 

أما بالنسبة لانبعاثات الملوثات من المتفجرات فأخطرها من قنابل الفوسفور الأبيض المحرمة دولياً والتي استُخدمت في عدة أيام على سكان غزة، منها يومي 10 و 11 أكتوبر 2023، حسب التقارير الصادرة من صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية، ومنظمة العفو الدولية وهيومان رايتس. وهذه القنبلة، أو القذيفة الكيماوية، تُطلق من المدافع أو الصواريخ، وعند التماسها بالأكسجين في الهواء الجوي تحترق وتشتعل وتولد كمية ضخمة من الحرارة العالية جداً ومن الأدخنة والسحب البيضاء السامة والحارقة للبشر والشجر والحجر والحيوان. وهذه القنبلة الفوسفورية لها بصمات عميقة وعقيمة تتركها في مكونات البيئة وفي جسم الإنسان فتبقى خالدة مخلدة فيها عقوداً طويلة من الزمن. فجسيمات الفوسفور الحارقة تنزل على البشر، وعلى المسطحات المائية، وعلى التربة فتلوثها جميعاً وتتجذر في أعماقها تحت سطح التربة وإلى المياه الجوفية وتتراكم فيها يوماً بعد يوم، فتنتقل مع الوقت من النبات إلى الحيوان والإنسان ضمن السلسلة الغذائية.

 

كذلك فإن القنابل بشكل عام عندما تسقط على الأرض تولد أدخنة سوداء مظلمة تحول النهار ليلاً، وقاتلة للبشر والشجر على المدى القريب والبعيد. فهذه الأدخنة السوداء التي نُطلق عليها بالجسيمات الدقيقة تهدد صحة الإنسان من جانبين. الأول هو تعرض الإنسان مباشرة لهذه الملوثات المسرطنة فتدخل حسب حجمها إلى الإنسان عن طريق الجهاز التنفسي، وقد تصل إلى الجزء السفلي من الجهاز التنفسي وإلى الرئتين والشعاب الهوائية فيها، ثم تنتقل فتدخل إلى الدورة الدموية، ومنها إلى كل خلية من خلايا أعضاء جسم الإنسان. وأما الجانب الثاني فإن الجسيمات الدقيقة السوداء تحمل على سطحها الملوثات المسرطنة والسامة الأخرى التي تمتصها من الجو الملوث والمسموم، فتتضاعف تهديداتها لصحة الإنسان، وتزيد هذه التهديدات بالنسبة للأطفال والمرضى الذين يعانون من مشكلات في التنفس. وعلاوة على الدخان المنبعث من المتفجرات فإن هناك ملوثات أخرى سامة تنطلق منها فتفسد نقاوة الهواء الجوي وتدمر صحة البشر، منها أكاسيد النيتروجين، وأول أكسيد الكربون، وأنواع كثيرة من المعادن الثقيلة السامة، وفي مقدمتها الرصاص.

 

وعلاوة على ذلك كله فجميع المصادر التي ذكرتُها تنبعث عنها غاز ثاني أكسيد الكربون المسؤول الأول عن أعظم وأعقد قضية بيئية وصحية عرفها الإنسان في تاريخه، وهي قضية التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض والمردودات الأخرى الكثيرة الناجمة عنها. فقد أكدت عدة دراسات أولية بأن الانبعاثات من حرب الإبادة في غزة من غاز ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى مرتفعة جداً، وتُعتبر أكثر من الانبعاثات السنوية للكثير من دول العالم من هذا الغاز، حيث قُدَّرت الكمية خلال شهرين فقط من العدوان الصهيوني بدءاً من السابع من أكتوبر 2023، بنحو 281 ألف طن من مكافئ غاز ثاني أكسيد الكربون، وهو ما يساوي حرق ما لا يقل عن 150 ألف طن من الفحم. وهذه الدراسة الأولية منشورة في 9 يناير 2024 في (Social Science Research Network) تحت عنوان: "الانبعاثات الزمانية المتعددة لغازات الدفيئة من نزاع إسرائيل- غزة".

 

وأما المخلفات الصلبة التي نجمت عن الإبادة الشاملة لغزة، فيمكن تصنيفها إلى مخلفات صلبة خطرة وغير خطرة. فأما المخلفات غير الخطرة فتتمثل في ركام المباني المهدومة والخرسانة المسلحة بأنواعها والأعمدة الحديدية والمعدنية بشكلٍ عام، إضافة على مخلفات الشوارع الإسفلتية وغير الإسفلتية التي تم تدميرها. والمخلفات الخطرة فهي المواد العازلة الأسبستية المسرطنة من المباني ومخلفات المستشفيات الخطرة، إضافة إلى القنابل والصواريخ والذخائر الأخرى الموقوتة قد تنفجر في أي وقت، وبقايا جثث آلاف الشهداء الذين مازالوا تحت ركام المباني. وقد قامت منظمات الأمم المتحدة وبعض الباحثين بتقديرها حسب صور الأقمار الصناعية التي تُقدم عدد المباني والعمارات والمرافق التي تم هدمها. فعلى سبيل المثال، هناك التقرير الصادر عن معهد الأمم المتحدة للتدريب والأبحاث(United Nations Institute for Training & Research) والمنشور في الأول من أغسطس 2024، تحت عنوان: "غزة: المخلفات الناجمة عن النزاع الحالي يقدر بأكثر 14 مرة من اجمالي المخلفات الناجمة عن النزاعات الأخرى منذ عام 2008"، إضافة إلى التقرير الأممي من برنامج الأمم المتحدة للبيئة (United Nations Environment Program)، وبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية(United Nations Habitat)، وتحقيق "البلومبيرج" في 16 أغسطس 2024.

 

فكمية المخلفات الصلبة غير الخطرة التي قُدِّرت في السابع من يناير بلغت قرابة 2 مليون و 293 ألف طن، في حين أن هذه الكمية الضخمة زادت بنسبة 83% في 6 يوليو حيث وصلت إلى 41 مليون و 946 ألف طن، أي نحو 300 كيلوجرام من المخلفات الصلبة في المتر المربع من قطاع غزة. وفي تقديري ونتيجة لاستمرار العدوان الهمجي البربري على البنية التحتية السكنية والخدمية فإن كمية المخلفات الصلبة قد تتجاوز الـ 50 مليون طن.

 

فهذه المخلفات الغازية والصلبة الخطرة وغير الخطرة ستمثل أزمة خالدة في المجتمع الغزاوي بعد أن ينتهي العدوان الصهيوني، وستحتاج للتخلص منها إلى عقود طويلة من الزمن، وكلفة مالية عالية مرهقة لميزانية أية دولة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق