الدول الغربية والشرقية التي لا تقوم
على المبادئ الأخلاقية العليا، والقيم الإنسانية السامية، تفعل كل شيء، وتستغل أية
وسيلةٍ شرعية كانت أم غير شرعية، محظورة أم مسموحة، من أجل تحقيق التفوق العسكري،
والتقدم العلمي البارز، واستتاب الأمن القومي، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة.
وصفحات تاريخهم المعاصر مليئة بالفضائح
التي ارتكبوها على شعوبهم وشعوب الدول الأخرى على حدٍ سواء، وأرشيفهم الموجود في
مكتباتهم يقطر دماً وينزف جرحاً من شدة ألم ومعاناة الجرائم التي قامت بها أيديهم
خلال العقود الماضية.
ودعوني هنا أُقدم لكم مثالاً واحداً
فقط من الولايات المتحدة الأمريكية يؤكد صِدق ادعاءاتي، ويثبت منهجيتهم
اللاأخلاقية التي يتبعونها دائماً في تسيير أمور الحكم والدولة.
ففي الفترة من 1929 إلى
1972
أجرتْ حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، ممثلة في عدة جهات حكومية في مقدمتها
"إدارة الخدمات الصحية" تجارب طبية كلينيكية استخدمت فيها فئران التجارب
المخبرية، ولكن هذه المرة كان فئران التجارب من البشر الفقراء غير المتعلمين
والمستضعفين في الأرض وعددهم 399
أمريكياً
من أصول أفريقية، لا يتمتعون بأي نفوذ، أو سلطة، وليس لديهم من يدافع عن حقوقهم ويحميهم
من البشر المفترسين، فهؤلاء يسكنون في مناطق ريفية نائية بعيدة عن الأعين الساهرة
وعن مراقبة وسائل الإعلام ومتابعاتهم اليومية، ومن السهولة جداً استغلالهم لمثل
هذه الأفعال المشينة غير الإنسانية.
فهؤلاء الفئران البشرية كانوا يعانون
من مرض الزهري أو السِفْلِس(syphilis)، ويعيشون في مدينة تسْكِجي(Tuskegee) الصغيرة في مقاطعة ماكون(Macon County) بولاية ألباما المعدومة والمعروفة بارتفاع أعداد سكان السود
فيها، حيث أغروهم بعدة وسائل مالية لإدخالهم في تجاربهم السرية الخبيثة حول التعرف
على أعراض مرض الزهري على السود خاصة، والتغيرات التي تطرأ على هذه الأعراض منذ
الإصابة بالمرض إلى أن ينقلوا إلى مثواهم الأخير. ومن الوسائل المغرية العلاج
"الوهمي" المجاني، والمواصلات وتوفير الغذاء والتأمين عليهم بعد الموت
للدفن، وعُرفت بعد ذلك هذه التجارب أو الدراسات الميدانية تحت عدة مُسميات منها
دراسة السفلس في تسكجي(Tuskegee
Syphilis Study).
فقد أُجريت هذه التجارب دون علم المرضى
أو موافقتهم، وتم الكذب عليهم بأن هذه التجارب تجرى على دمائهم "غير
السليمة"، فبَدأتْ التجارب عليهم واستمرت مراقبة التدهور في حالتهم الصحية
بسبب السفلس، وتدوين الأعراض المرضية المختلفة التي تظهر عليهم مع الوقت، والأدهى
والأمر من هذا كله والأشد بأساً وتنكيلاً بالجميع، أنه في عام 1947 تم
اكتشاف العلاج الناجع والتام لهذا المرض، ويتمثل في استخدام البنسلين(penicillin)، ومع ذلك رفض هؤلاء العلماء السفاحون القائمون على هذه التجارب
تقديم البنسلين لهم، بل وأصروا على إكمال تجاربهم ومشاهداتهم، فتركوهم عمداً تحت
أنظارهم وأعينهم القاسية وقلوبهم المتحجرة دون رحمةٍ أو شفقةٍ على حالهم المزري
الحزين، ومَنَعُوا أي علاجٍ من الوصول إليهم لتستمر معاناتهم الشديدة من آلام
وقسوة المرض، ويقاسوا من أعراضه العصيبة، ويمضوا ما تبقى من حياتهم تحت وطأة الموت
البطيء الأليم.
وهكذا استمرت معاناة هؤلاء البشر من
الشعب الأمريكي أكثر من 25
عاماً، وهم يقاسون من العذاب العصيب، حتى انكشفت هذه الغمة في عام 1972 عندما
فضح طبيب من سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا هذه الجريمة النكراء باسم العلم،
ونبه إلى الجوانب الأخلاقية والإنسانية، واضطر إلى اللجوء إلى سلطة الإعلام ليوجه
تحذيره ويضع حداً لهذه المأساة البشرية، حيث نشرت صحيفة "الواشنطن ستار"
أول مقالٍ في 25
يوليو
1972 حول
هذا الكرب العظيم، ثم تلتها الصحف الأخرى وحقَّقت فيها السلطات التشريعية، وفي
مقدمتها الكونجرس.
ونتيجة لهول هذه القضية على المجتمع
الأمريكي برمته، والصدمة الكبيرة التي نزلت على الشعب الأمريكي من ممارسات
الحكومة، فقد اضطر الرئيس الأسبق بيل كلينتون من إعلان اعتذارٍ رسمي في 16 مايو
1997 لضحايا
التجارب البشرية، حيث قال: "نيابةً عن الشعب الأمريكي، ما قامتْ به حكومة
الولايات المتحدة الأمريكية يُعد مخزياً وأنا آسف".
ومنذ أن فاحت رائحة هذه الكارثة
البشرية ووصلت إلى الشعب الأمريكي، تحولت إلى هزة ثقافية شملت كافة القطاعات
الثقافية والفنية على مستوى أمريكا برمتها، فمنهم من ألَّف الأغاني بكلمات تصف
مشاهد معاناة الضحايا، ومنهم من كتب المسرحيات والروايات والمقالات الواقعية،
ومنهم من عمل أفلام درامية ووثائقية حول فئران التجارب البشرية، إضافة إلى الحلقات
التلفزيونية التي استمرت عدة سنوات.
والطامة الكبرى أن تداعيات هذه الجريمة
البشعة لم تنته عام 1972
بظهورها فوق السطح، وإنما هي مازالت حتى يومنا هذا ماثلة أمام الجميع، فهناك من
يعانون حالياً من انعكاساتها الصحية العضوية والنفسية، فهؤلاء المرضى الذين تُركوا
دون علاج نَقَلوا المرض إلى الآخرين، فكانت الحصيلة إصابة أربعين امرأة من زوجات
المرضى، و 19
طفلاً
حملوا المرض عند ولادتهم، وهؤلاء الزوجات والأبناء والأحفاد وغيرهم من ضحايا
الكارثة أنشئوا الآن مؤسسة خاصة لتخليد ذكرى هذه الفضيحة وكَشْف حقيقة حكومتهم
وأسلوب تعاملها مع بعض فئات الشعب، وأَطْلقوا عليها "أصوات إرث آبائنا"(Voices for Our Fathers Legacy Foundation).
فهذا ما كشفتها لنا بعض صفحات التاريخ
المعاصر حول تصرفات الغرب لتحقيق العُلو، والسُمو، والسلطة المطلقة على الآخرين،
وهناك حالياً صفحات أخرى تُكتب في جنح الليل، وبكتمانٍ شديد وسريةٍ عالية، ولكن
سيتم فضحها في السنوات القادمة، فاحذروا وتنبهوا فهم لا يرقُبون في أحدٍ إلاً ولا
ذمة.