الثلاثاء، 4 أبريل 2017

حتى الفضاء لم يسلم من عَبَثْ الإنسان


أيدي الإنسان التي أَفْسدت البر والبحر والجو، ولوثت كل شبرٍ بعيدٍ أو قريبٍ من الأرض حتى تشبعت جميع البيئات بالملوثات السامة والخطرة، فلم تكتف أيدي الإنسان بهذا الجُرم والإثم العظيم فحسب، وإنما طالت أرجاء الفضاء الفسيح، وتركت بصماتها المدمرة في تلك المناطق النائية عن أنشطته اليومية المباشرة.


 


فأيدي الإنسان بحجة التنمية والتقدم والتطور وغزو واستكشاف الفضاء امتدت إلى أعالي السماء الدنيا وعلى ارتفاعات شاهقة لا يتخيلها عقل بشر وزادت عن 30 ألف كيلومتر فوق سطح الأرض، فحولت السماء التي زينها الله سبحانه وتعالى بمصابيح من النجوم والأقمار والأجسام السماوية الأخرى تُنير لنا الأرض وتجمل المنظر من فوقنا وتنعش أبصارنا وقلوبنا، فقد حولت أيدي الإنسان هذه البيئة العذراء البكر إلى مقبرة عظيمة من المخلفات الصلبة التي تدور في مدارات فوق الأرض ولا يعرف أحد مصيرها وخاتمتها.


 


فهذه المقبرة الفضائية الجماعية للمخلفات التي بدأ الدفن فيها منذ الخطوات الأولى لاستكشاف الفضاء وصلت الآن بعد هذه السنوات الطويلة إلى نقطة التشبع وعدم القدرة على استيعاب المزيد من هذه المخلفات. فهناك من جهة مخلفات وبقايا الصواريخ التي تتفتت وتنفجر مع الوقت إلى قطعٍ أصغر فأصغر، وهناك مخلفات الأقمار الصناعية المهجورة والقديمة التي انتهى عمرها الافتراضي وبدأت تدور منذ سنوات في مدارات حول الأرض، حتى أن العلماء نشروا تقارير كثيرة تحاول تقدير كمية وأحجام هذه المخلفات المتزايدة والتي بلغت الملايين من القطع، تتراوح أحجامها وأوزانها بين مليمتراتٍ صغيرة إلى أطنانٍ كبيرة ضخمة.


 


فعلاوة على هذا الجانب البيئي المتعلق بالزيادة المطردة لهذه المخلفات في الفضاء، فإن هناك أبعاداً خطيرة لها علاقة بأمن الإنسان وسلامته على سطح الأرض، إضافة إلى أمن وسلامة الأقمار الصناعية التي يستخدمها الإنسان حالياً لأغراض عسكرية تجسسيه، أو أغراض سلمية كالاتصالات، ومعرفة الطقس والمناخ على سطح الأرض، وإجراء الأبحاث العلمية المختلفة. فهذه المخلفات التي تدور حول الأرض قد تسبب مع الوقت في وقوع كارثة عصيبة تهدد تقدم الإنسان وتطوره المشهود، وتحطم المكتسبات التنموية التي حققها طوال العقود الماضية، فهي إما أن تصطدم مع بعض وتتحول إلى قطعٍ أصغر، وإما أن تصطدم بالأقمار الصناعية التي يستخدمها الإنسان حالياً فتوقف أنشطته وبرامجه التنموية وتشل أعماله اليومية على سطح الأرض. كذلك فإن وقوع مثل هذه الكوارث الفضائية تُعد خسائر اقتصادية كبيرة للإنسان، فهذه الأقمار الصناعية كَلَّف إنتاجها وصناعتها وإطلاقها المليارات الكثيرة التي يصعب تعويضها.


 


ومن أجل درء هذا التهديد العقيم القادم لا محالة على البشرية والكرة الأرضية، قامت منظمات الأمم المتحدة المتخصصة، كمكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي في فينا بالتعاون مع وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"، ووكالة الفضاء الأوروبية بوضع توجيهات عامة، وخطوط عريضة للدول المعنية حول سبل منع مخلفات الفضاء، منها كيفية التخلص من الأقمار بعد الانتهاء من عمرها الافتراضي. ولكن المشكلة تكمن في أن هذه التوجيهات والمبادئ العامة غير مُلزمة للدول، وفي الأغلب لن يلتزم بها أحد من الدول التي تعمل في مجال الفضاء وفي صناعة وإطلاق الأقمار الصناعية، مما يجعل الحاجة إلى تعاون كافة دول العالم للوصول إلى معاهدة دولية ملزمة لكافة الأطراف أكثر إلحاحاً وأشد حاجة لها في الوقت الراهن.


 


ومن هنا أود الوقوف على نقطتين هامتين جداً. أما الأولى فهي أن الدول الغربية والشرقية الصناعية والمتقدمة هي التي تتسبب في وقوع الكوارث البيئية المهددة لأمن وسلامة الأرض والإنسان في الوقت نفسه، مثل استخدامهم للغازات التي دمرت غاز الأوزون في طبقة الأوزون، أو انبعاث الملوثات من مصانعهم لأكثر من قرن والتي أدت إلى التغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض، ثم تأتي هذه الدول المتهمة بارتكاب هذه الجرائم البيئية العامة فتُحملنا نحن المسؤولية في المساهمة في إيجاد الحلول لهذه الكوارث التي أوقعونا هُم فيها.


 


والنقطة الثانية فهي ظاهرة بشرية عامة في كل دول العالم، وتتلخص في أن الإنسان استغل القيام بالأعمال التنموية كمبرر وغطاء شرعي للعبث في الأرض دون رقيبٍ أو حسيب، فلوَّث الهواء بحجة التنمية، وحول البحار إلى مقابر جماعية للمخلفات بحجة التنمية، وأفسد التربة بالسموم من المبيدات والأسمدة العضوية بحجة التنمية، والآن يملأ الفضاء بالمخلفات بحجة التنمية أيضاً.


 


فالتنمية الحقيقية المستدامة والشاملة يجب أن تُنمي دون أن تدمر، وتُعمِّر دون أن تفسد، وتطور دون أن تترك بصمات سيئة تنتهك حرمات الغير وتسيء إلى الآخرين من حولنا.     


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق