الثلاثاء، 28 مارس 2017

قضية لا حل لها


تمكن الإنسان بنجاحٍ غير مسبوق من غزو الفضاء الفسيح وإرسال مندوبٍ بشري إلى سطح القمر، واستطاع بعلمه وخبرته ووسائل التقنية التي يمتلكها من إرسال أدواتٍ ومعدات إلى المريخ، ولكن بالرغم من تخطيه لكل هذه الحدود الجغرافية البعيدة الشاسعة وركوبه إلى الفضاء وسبر غور أسراره وعجائبه، وبالرغم من هذه الانجازات المبهرة والعظيمة، إلا أنه يقف حائراً أمام قضيةٍ تبدو لأول وهلة أنها بسيطة وغير معقدة، فيقعد عاجزاً مكتوف اليدين، قَليل الحِيلة لا يستطيع أن يجد الحل الجذري والمستدام لها.

 

هذه القضية عمرها أكثر من 70 عاماً وما زالت من غير حلٍ ناجع، وتتمثل بكل بساطة في المخلفات الصلبة وشبه الصلبة والسائلة المشعة التي تنجم عن البرامج النووية المتعددة، كتوليد الطاقة الكهربائية في محطات الكهرباء الثابتة وفي المحركات المتنقلة التي تعمل بالطاقة الذرية في الغواصات والسفن، إضافة إلى صناعة الأسلحة والقنابل والذخائر النووية بمختلف أنواعها وأشكالها وأحجامها.

 

ولذلك حذرتُ كثيراً من استخدام الطاقة الذرية لتوليد الكهرباء، وكان تحذيري مَبْنياً أساساً على هذه القضية المعقدة والمهددة لأمن الإنسان وسلامة الكرة الأرضية برمتها، فإذا كانت الدول الصناعية الشرقية والغربية المتطورة والمتقدمة تُقاسي منذ عقودٍ طويلة وحتى يومنا هذا من مخلفات الدمار الشامل المشعة التي نجمت عن أنشطتها وبرامجها النووية في الأربعينيات من القرن المنصرم، فماذا سنفعل نحن في بلادنا بقنابل المخلفات المشعة في أرضنا والتي ستنتج عن توليد الطاقة؟ وكيف سنتعامل معها؟ وكيف نَأْمن من تداعياتها المحتملة على مجتمعاتنا؟

 

ولكي أُبيِّن لكم حجم هذه القضية المزمنة والشائكة، سأضرب لكم مثالاً واحداً فقط من أكثر دول العالم تقدماً وتطوراً وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وأُقدم لكم درجة معاناتها، وضَعف حِيلتها تجاه الأطنان من مخلفات الدمار الشامل المخزنة والمتراكمة على أراضيها، والتي ضاقت أرض أمريكا الواسعة من أحجامها الهائلة منذ بدء برنامجها النووي السري لإنتاج أول قنبلة ذرية في الأربعينيات من القرن العشرين وحتى كتابة هذه السطور.

 

فقد بدأ الاهتمام الفعلي بقضية المخلفات النووية المشعة في عهد الرئيس الأسبق ريجن عندما وافق في عام 1982 على قانون "سياسات المخلفات النووية"، حيث طلب من وزارة الطاقة البحث عن موقعٍ مناسب لتخزين المخلفات، وكانت نتيجة البحث اختيار جبال يوكا(Yucca Mountain) في نيفادا عام 1987 كمقبرة دائمة للمخلفات النووية المشعة، حيث وافق الكونجرس عليه وأمر باتخاذ الخطوات التنفيذية، ولكن مع تغير الأجواء السياسية وتغير موازين القوى، وبالتحديد بعد دخول أوباما البيت الأبيض تم إيقاف العمل بالمشروع في عام 2009 دون تقديم أي بديل أو مبرر علمي.

 

والآن وبعد دخول ترمب للبيت الأبيض تم إحياء المشروع من جديد وتخصيص مبلغ محدد لإدارة "الأمن القومي النووي" التابعة لوزارة الطاقة في الموازنة المقترحة لعام 2018، والتي تم طرحها في 16 مارس من العام الجاري، فقد أفردت الموازنة بنداً خاصاً لعمليات التنظيف وجهود التعامل والتخلص من المخلفات النووية المشعة، وتم رفع هذه الموازنة الخاصة بنسبة 11% مقارنة بعام 2017، أي زيادة مبلغ وقدره 1.4 بليون دولار.

 

وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية أَنفقتْ حتى يومنا هذا على إدارة هذه القضية أكثر من 7 مليارات دولار، ولكن دون أن تتخذ خطوة تنفيذية عملية واحدة لعلاج هذه المعضلة المزمنة والمعقدة تقنياً والمهددة لسلامة البيئة والإنسان ليس على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية وإنما على مستوى الكرة الأرضية برمتها، أي أنها منذ أكثر من سبعة عقود تسير في دائرةٍ مغلقة عقيمة لا تعلم كيف تخرج منها.

 

وهذه الحالة الأمريكية تتكرر في كل الدول التي استخدمت الطاقة النووية، سواء لأغراض عسكرية أم سلمية، فجميع هذه الدول تقف حائرة أمام هذا الكم المتزايد سنوياً من مخلفات الدمار الشامل المشعة والقنابل الموقوتة التي قد تنفجر في أية دولة وفي أية لحظة.

 

وانطلاقاً مما سبق فإنني أُنبه دولنا، وأية دولة أخرى تريد أن تتوغل في استعمال الطاقة النووية أن تفكر أولاً وقبل كل شيء في المخلفات المشعة التي ستنجم عن هذا البرنامج النووي، وتخطط ملياً قبل أن تأخذ أية خطوة عملية في كيفية التعامل مع هذه المخلفات وسبل التخلص الآمن والمستدام منها.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق