الجمعة، 24 مارس 2017

قضية التغير المناخي تَسير في نفقٍ مظلم



منذ متابعاتي الحثيثة للقضايا البيئية لأكثر من أربعين عاماً ومراقبتي عن قرب للسياسات والقرارات الدولية حول هذه القضايا، لم أجد قضية شائكة ومعقدة ومتداخلة حيَّرت العَالم برمته وأدخلته في دوامة عصيبة لا يستطيع الخروج منها بأمانٍ وسلامة كقضية التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض.

فعندما بدأت خيوط هذه القضية تنكشف رويداً رويداً في السبعينيات من القرن المنصرم، وتأكد العلماء والمختصون أن هناك تغيراً مناخياً ملحوظاً تشهده الكرة الأرضية وأنها فعلياً تعاني من سخونةٍ في حرارة جسمها وتهدد الحياة على سطح الأرض، قرر هؤلاء العلماء والمهتمون بهذه القضية نقلها فوراً إلى مستشفى الأمم المتحدة الدولي لتشخيص مرضها بشكلٍ تفصيلي أدق وأشمل، ووصف العلاج المناسب بصورةٍ جماعية مشتركة تُوقف انتشار المرض وتمنع تداعياته من التفاقم والتوغل في كل أعضاء جسم كوكبنا. وكان هذا في عام 1992 في المؤتمر التاريخي البيئي الذي حضره لأول مرة قادة ورؤساء حكومات دول العالم، وأُطلق عليه بقمة الأرض أو مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية في ريو دي جانيرو في البرازيل، حيث وافقت الدول بالإجماع على اتفاقية إطارية حول التغير المناخي تُمهِد الطريق لمعاهدة دولية تُلزم كافة دول العالم على مواجهة تحديات التغير المناخي وتتعهد بمنع انبعاث الملوثات المتهمة برفع درجة حرارة الأرض.

وكانت هذه القمة هي البدء في ولوج التغير المناخي في دوامة جدول أعمال المجتمع الدولي ونقطة دخوله في النفق الطويل المظلم الذي لا يُرى آخره حتى الآن، ولا يمكن مشاهدة شُعلة من الأمل في نهاية هذا النفق. فقد بدأت المفاوضات الدولية حول اتفاقية ملزمة للتغير المناخي في عام 1993 وانتهت بعد ثلاث سنوات عصيبة، وبالتحديد في 1996 في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي في كيوتو باليابان، حيث وافقت دول العالم على معاهدة مشتركة تَعهدت فيها كل دولة على حِدة من الدول الصناعية والمتقدمة على خفض انبعاثاتها من الغازات المتهمة برفع درجة حرارة الأرض وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينطلق من احتراق الوقود الأحفوري في السيارات، والطائرات، والمصانع، ومحطات توليد الكهرباء.

فالولايات المتحدة الأمريكية وهي أكثر دولة انبعاثاً لثاني أكسيد الكربون، وقعت على معاهدة كيوتو في ديسمبر 1997 في عهد الرئيس الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون، ثم عند دخول الجمهوري جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض لم يوافق على المعاهدة ورفض التصديق عليها، مما أدخل المجتمع الدولي في حرجٍ شديد، وأرجعه إلى المربع الأول والنقطة التي بدأ منها وهي عام 1992، حيث قام من جديد بمفاوضات مارثونية دولية استغرقت عشرين عاماً، وبعد مخاضٍ عسيرٍ وشديد وضع مولوداً في ديسمبر 2015 في باريس، ولكن هذا المولود كان غير مكتملِ النمو ويعاني من إعاقات مزمنة، فقد توصل المجتمع الدولي إلى معاهدة غير ملزمة "قانونياً"، وتتعهد فيها دول العالم "طوعياً" إلى خفض انبعاثاتها من الغازات المتهمة بالتغير المناخي.

وهنا يعيد التاريخ نفسه، فقد وقَّعت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية عندما كان الديمقراطي أوباما يسكن في البيت الأبيض على هذه المعاهدة، والآن بعد تربع ترمب الجمهوري على عرش البيت الأبيض ظهرت سياسات وتوجهات جديدة تختلف عن سياسات الحكومة السابقة في مجال التغير المناخي، مما يُنذر بأن تَلْقى معاهدة باريس للتغير المناخي المصير نفسه كمعاهدة كيوتو للتغير المناخي.

وهناك العديد من الإشارات والدلائل التي تُشير إلى احتمال وقوع هذا المشهد السابق، وهي كما يلي:
أولاً: الرئيس ترمب له رأي مختلف حول ظاهرة التغير المناخي فهو لا يرى بأن لأنشطة الإنسان المتمثلة في حرق الوقود الأحفوري كالبترول والفحم والغاز الطبيعي دوراً رئيساً في وقوع التغير المناخي المشهود ورفع درجة حرارة الأرض.
ثانياً: بُعيد تنصيب دونالد ترمب رئيساً في 20 يناير من العام الجاري، وبعد سُويعات من حفل التنصيب، طرأت تغييرات جوهرية على صفحة البيت الأبيض المناخية، حيث أُلغيت كلياً هذه الصفحة والوثيقة المناخية تحت عنوان:"خطة عمل المناخ" التي وُضعت في يونيو 2013، وتم استبدالها بصفحةٍ ثانية تحتوي على قضايا أخرى غير التغير المناخي، منها الوثيقة تحت عنوان: "خطة أمريكا أولاً في مجال الطاقة"، وهذه الوثيقة تجنبت كلياً مصطلح "التغير المناخي أو سخونة الأرض"، أو عبارة "الطاقة المتجددة"، وركزت بدلاً منها على عبارات عنوانها: "حماية الهواء والماء"، وتعزيز وتشجيع استخدام الفحم، وبالتحديد الفحم النظيف، إضافة إلى الدفع باستعمال الغاز والبترول الصخري الموجود في الولايات المتحدة الأمريكية.
ثالثاً: عَيَّن ترمب سكوت برويت(Scott Pruitt) رئيساً لوكالة حماية البيئة في 18 فبراير من العام الجاري، وفي أول كلمة له في العشرين من فبراير لم يتطرق كلياً إلى ظاهرة التغير المناخي وكأنها غير موجودة كلياً، كما أدلى بتصريحات في التاسع من مارس من العام الجاري في مقابلة تلفزيونية مع سِي إِن بـِي سِي تتعارض مع الإجماع الدولي والحقائق العلمية الموثقة، وذلك عندما سُئل عن دور ثاني أكسيد الكربون في إحداث التغير المناخي، حيث قال: "إنني لا أتفق بأن الأنشطة البشرية هي المساهمة الرئيس للتغير المناخي الذي نراه"، وأضاف: "لا أرى بأن ثاني أكسيد الكربون هو المساهم الرئيس في حدوث التغير المناخي كما نراه الآن، فنحتاج إلى مواصلة الحوار ومواصلة المراجعة والتحليل".  

وعلاوة على ذلك، فإن هذا التصريحات لا تتوافق مع المرئيات السابقة لوكالة حماية البيئة قبل أن يُعين هو رئيساً لها، ففي صفحة وكالة حماية البيئة على الإنْترنت هناك تصريح سابق يفيد بأن: "ثاني أكسيد الكربون هو الغاز المتهم الرئيس في وقوع التغير المناخي الحالي"، كما تتناقض تصريحاته مع قناعات وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"، والإدارة القومية للمحيطات والغلاف الجوي "نووا"، حيث أكدا في التقرير المنشور في يناير من العام الجاري على ارتفاع درجة حرارة الأرض منذ نهاية القرن التاسع عشر بقدر 1.1 درجة مئوية نتيجة لزيادة انبعاث ثاني أكسيد الكربون إلى الهواء الجوي.

ولذلك فإن هذه السياسة العَلَنية للإدارة الأمريكية الجديدة تُدخل المجتمع الدولي مرةً ثانية في دوامة من القلق والترقب خوفاً من انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من معاهدة باريس، كما انْسحبتْ من قبل من بروتوكول كيوتو للتغير المناخي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق