الأربعاء، 15 مارس 2017

حرب ضد الضوضاء


الحرب مشتعلة وملتهبة منذ أكثر من خمسين عاماً، وبالتحديد منذ مطلع السبعينيات من القرن المنصرم، ووقود هذه الحرب المضْطَرمة استمرار معاناة الناس الشديدة من أهوال التلوث الضوضائي والأصوات المرتفعة والمزعجة.

 

فهل للضوضاء هذه القدرة العظيمة، والإمكانية القوية والمشهودة في أن تُشعل وتوقد فتيل الحروب، وتهيِّج وتثير الصراعات بين الناس؟

 

وهل الضوضاء العالية تُعد قضية كبيرة ومشكلة خطيرة إلى درجة أن تكون وقوداً قوياً تحتدم بها المعارك الضارية، وتهدد الأمن والاستقرار، فتجعلها تستمر عقوداً طويلة من الزمن دون توقف؟

 

فهذه الحرب ومعاركها الشرسة المستمرة تدور رحاها في أروقة المحاكم اليابانية، حيث بدأت المعركة الأولى في عام 1982 عندما رفع أكثر من 900 مواطن ياباني يعيشون في جزيرة أوكيناوا دعوى قضائية ضد القواعد العسكرية الأمريكية الموجودة في اليابان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد قاعدة كادينا العسكرية الجوية(Kadena). فحركة الطائرات العسكرية الكثيفة ليلاً ونهاراً وطوال ساعات اليوم، والضوضاء الشديدة والعالية التي تصدر منها خلقت أزمة بيئية وصحية واجتماعية مزمنة للساكنين بالقرب من هذه القواعد الجوية، بحيث إنها سببت للناس مشكلات تتمثل في عدم القدرة على النوم، وفقدان أو ضعف السمع، إضافة إلى التعرض لحالاتٍ نفسية شديدة من القلق والتوتر والاكتئاب والضيق النفسي.

 

وبعد صراعٍ محتدم طويل في المحكمة فاز الناس في هذه المعركة الأولى حيث أمرت المحكمة عام 1998 بدفع مبلغ وقدره 1.37 بليون ين تعويضاً لهؤلاء المتضررين، ولكن بالرغم من هذا الحُكم إلا أن الحرب لم تنته واستمرت ملتهبة، فوقودها المتمثل في التلوث الضوضائي مازال يشعل المعارك ويؤجج النفوس، حيث قام قرابة 5500 ياباني برفع قضيةٍ أخرى ضد حركة الطيران الحربي عند أحيائهم ومساكنهم في عام 2000، وجاء قرار المحكمة بعد تسع سنوات، وبعد مخاضٍ عسير ومرهق، ولكن الأمر القضائي كان  منقوصاً حيث عَوَّض المتضررين بمبالغ مالية ولكن لم يستجب لطلبهم المتمثل في وقف حركة الطيران ليلاً حتى يهنئوا بنومٍ مريح طوال الليل. وهكذا تواصلت الحرب ولم تقف، فاضطرمت المعركة الثالثة من جديد في عام 2011، حيث قام زهاء 22 مواطن في الولوج في هذه المعركة الماراثونية التي انتهت مشاهدها قبيل أيام، وبالتحديد في 23 فبراير من العام الجاري عندما صدر حُكم المحكمة بدفع 267 مليون دولار للمتضررين صحياً واجتماعياً من الضوضاء. ولكن هذه الحرب مازالت في بداياتها بالرغم من مرور أكثر من خمسين عاماً على اشتعالها، ولن تنتهي معاركها مادام وقودها ماثلاً وموجوداً يُزعج الناس ويؤرقهم ويقاسون من تداعياتها على أمنهم الصحي النفسي والعضوي.

 

فهذه الحالة التي نراها ماثلة أمامنا ونشاهدها في واقعنا اليومي تؤيد وتثبت نتائج الدراسات العلمية التي تُنشر يومياً في المجلات الموثوقة، وكلها توجه أصابع الاتهام نحو الملوثات الفيزيائية والطبيعية المتمثلة في التلوث الضوضائي وارتفاع الأصوات والإزعاج المستمر طوال اليوم والساعة، والتي أكد العلماء والأطباء علاقتها بأمراض نفسية وفسيولوجية متعددة منها أمراض القلب والأوعية القلبية والسمع والموت بسببها. فعلى سبيل المثال، نُشرت دراسة في مجلة القلب الأوروبية 23 يونيو 2016 تحت عنوان: "الضوضاء من السيارات في لندن يزيد من أمراض القلب والموت"، وغطت 8.6 مليون لندني، وقامت بمتابعة حالتهم الصحية خلال الفترة من 2003 إلى 2010، حيث توصلت إلى استنتاجٍ خطير يتمثل في أن الذين يسكنون بالقرب من مصادر الضوضاء كالشوارع المزدحمة والمكتظة بالسيارات ترتفع عندهم حالات الموت مقارنة بالذين يعيشون بعيدين عن ضوضاء السيارات ومصادرها الأخرى.

 

فهذه الأدلة الصارخة يجب أن تؤكد لنا بأن الضوضاء والأصوات العالية تُعد مشكلة عصيبة يجب ألا نتساهل معها، ولا نستصغر أضرارها، ولا نتهاون أبداً في تداعياتها وانعكاساتها الخطرة على صحتنا واستقرار مجتمعاتنا، وعلينا أن نُسرع في إيجاد الحلول المستدامة والجذرية لها حتى نقى أنفسنا من شرورها ونحمي أفراد مجتمعنا من السقوط في بلاء الموت المبكر.     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق