الأحد، 19 مارس 2017

هل هناك شبر من كوكبنا لم يصله داء التلوث؟


هل تستطيع أن تُسمي لي موقعاً في الأرض، أو حتى شبراً صغيراً في رحاب كوكبنا الكبير والواسع يكون فيه بمنأى عن التلوث، فلا يتعرض كلياً للملوثات التي تنبعث عن أنشطتنا اليومية؟

 

وجوابي هو أنك لن تنجح مهما أمْعنتَ في التفكير وتدبرت لإيجاد هذا المكان الخالي من التلوث. ولكنني بالرغم من ذلك فإنني سأحاول أن أُسهل مهمتك المستحيلة وأطرح عليك بعض المواقع البعيدة والنائية في أعالي السماء فوق سطح الأرض، وفي غياهب وأعماق البحار السحيقة، وفي ثلوج القطبين الشمالي والجنوبي، والتي قد تخطر على بالك فتظن بأنها حتماً لن تصلها أيدي التلوث مهما طالت، ولن تتمكن الملوثات مهما كان نوعها من الزحف إليها وإفسادها وتدهور نوعيتها.

 

أما الموقع الأول الذي من الممكن أن يكون بعيداً عن أعين الملوثات فهو فوق رؤوسنا في السماء العليا وعلى بعد مئات الكيلومترات فوق سطح الأرض، ومع ذلك فإن هذا الموقع لم يفلت من داء التلوث. فمن جهة هناك المخلفات الفضائية البشرية الصلبة التي تسبح في هذا الفضاء الفسيح على ارتفاعات شاهقة تتراوح بين 300 و 900 كيلومتر، حيث يُقدر العلماء هذه المخلفات التي جاءت من الأقمار الصناعية المهجورة والمفتتة ومن بقايا الصواريخ الفضائية بنحو 170 مليون قطعة، منها ما يبلغ وزنها كيلوجرامات فقط ومنها ما يزيد على طنٍ واحد. ومن جانبٍ آخر هناك الملوثات الغازية التي انبعثت من أنشطتنا على سطح الأرض، فرَحْلت ساعة بعد ساعة إلى أعالي الجو حتى بلغت طبقة الأوزون على ارتفاعٍ يتراوح بين 15 إلى 30 كيلومتراً فوق سطح الأرض، وهناك بعد انتهاء رحلتها استقرت في تلك الطبقة النائية فدمرت غاز الأوزون الموجود طبيعياً في طبقة الأوزون والتي تحمي وتقي الإنسان من الأشعة فوق البنفسجية الضارة، فخلقت كارثة عقيمة هزَّت البشرية برمتها.

 

وأما الموقع الثاني الذي قد تفكر فيه فهو أكثر بيئات الأرض بُعداً عن أي نشاطٍ إنساني، أو أي عملٍ تنموي عمراني، أو أي مصدر صغيرٍ أو كبيرٍ للتلوث، وهو القطبين الشمالي والجنوبي، حيث البرد القارس، والبيئة الجرداء، وبالرغم من ذلك فإن الملوثات نجحت في تخطي كافة الحدود الجغرافية المصطنعة بين الدول وتمكنت من الوصول إلى هواء هذه المناطق البعيدة وترسبت مع الوقت وتراكمت في الثلوج، وبخاصة الملوثات العضوية متعددة الحلقات الثابتة والمستقرة.

 

وأما الموقع الثالث والأخير الذي قد يخطر في مخيلتك، هو أعماق المحيطات المظلمة العذراء البِكْر، وعلى بعد أكثر من 10 آلاف متر تحت سطح البحر، وهذا المواقع أيضاً أثبت الاكتشافات العلمية اليوم أنه أصبح في مرمى الملوثات، حيث نُشرت دراسة ميدانية في 13 فبراير من العام الجاري في مجلة "البيئة الطبيعية والتطور"(Nature Ecology and Evolution) تحت عنوان: “التراكم الحيوي للملوثات العضوية الثابتة في الحيوانات في أعمق موقع في المحيط"، وكشفت هذه الدراسة عن ظاهرة غريبة لم تخطر على بال أحد، ولم يتوقعها أي إنسان من قبل.

 

فقد قامت الدراسة بجمع عينات الحيوانات عن طريق غواصة الإنسان الآلي في أعمق منطقة لم يصلها الإنسان بعد حتى الآن في المحيط الهادئ، وبالتحديد في الخنادق والوديان المائية الفريدة والبِكر التي تُعرف بـ كِرْمَدك ومَاريانَا (Kermadec and Mariana) وعلى عمقٍ يزيد عن 10 كيلومترات من سطح البحر، ثم قامت بتحليل تركيز الملوثات غير الموجودة أصلاً في الطبيعية والتي هي من صنع البشر في هذه القشريات البحرية التي تعيش في ظلمات المحيط، وبالتحديد رَكز التحليل على مجموعة من الملوثات السامة التي يُطلق عليها الملوثات العضوية الثابتة، منها مركبات الـ بي سي بي. وجاءت نتائج التحليل مخالفة لتوقعات العلماء ونظرياتهم، حيث وُجدت هذه الملوثات السامة في أجسام هذه الحيوانات النائية وبنسبٍ مرتفعة تزيد كثيراً عن تركيزها في أكثر المواقع تلوثاً على الأرض، أي أن أيدي الملوثات امتدت واتسعت فوصلت إلى مواقع لم تتمكن أيدي البشر من الوصول إليها.

 

والآن بعد أن كَشفتُ لكَ عِلمياً بأن الملوثات بلغت عنان السماء، ووصلت إلى أكثر المناطق بُعداً عن أي نشاطٍ بشري في البر والبحر، هل ستشُك بأن الملوثات تغلغلت في كل شبرٍ صغيرٍ من كوكبنا وأنها موجودة مَعَنا أَينما كُنا ولن نستطيع الهروب منها فنَسْلم من شرورها وأضرارها حتى لو كُنا في بروجٍ عالية مُشيَّدة؟

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق