الأربعاء، 3 مايو 2017

لا للسياسة في العِلْم



هناك مقولة وتجربة شخصية تحاول الدول الغربية منذ قرون تعميمها على كافة الثقافات المتنوعة في دول العالم، وهي "لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة"، أي فصل الدين عن الدولة. وعندما أتوغل في بعض الصفحات التاريخية المظلمة والطويلة للحضارة الغربية أقتنع بأن هذه المقولة وهذا الفكر الذي وصلوا إليه جاء كردة فعل عكسية لمرحلة محددة في تاريخهم، والتي يُطلق عليها بالعصور المظلمة، أو العصور الوسطى، حيث تحولت الكنيسة، وبخاصة الكنيسة الكاثوليكية إلى يدٍ قاسية وظالمة، تبطش بالعلم، وتقمع العلماء وتذيقهم أشد أنواع العذاب، ولعل محاكمة جاليليو وكوبرنيكس وغيرهما تُعد من الأمثلة البارزة على هذا العهد الأسود القاتم والرهيب، وتجَسد الصراع الحاد والعنيف بين رجال الدين ورجال العلم.

والآن وبالتحديد في 22 أبريل من العام الجاري، وتزامناً مع يوم الأرض، انكشفت شعارات غربية جديدة من شعوب الدول المتقدمة والمتطورة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، تدعو إلى ما يُوازي المقولة السابقة، وتحيي ذاكرة الحرب التاريخية الغربية بين العلم والدين، ولكن اليوم هي بين العلم والسياسة، وبالتحديد "فصل السياسة عن العلم"، أو "لا سياسة في العلم".

فقد شهدت أكثر من 600 مدينة من مختلف مدن العالم، نواتها العاصمة الأمريكية واشنطن، مظاهرات عارمة، ومسيراتٍ شعبية كبيرة جالت هذه المدن العريقة، أُطلق عليها "مسيرات من أجل العِلم"، وضمت هذه التحركات الجماهيرية أفراداً من مختلف الأحزاب السياسية، والجمعيات الأهلية، والتخصصات العلمية، حيث تزامنت المسيرات مع يوم الأرض في 22 أبريل من العام الجاري.

وفي المقابل، وفي يوم السبت 29 أبريل وتزامناً مع الـ 100 اليوم الأولى لحكم ترامب، خَرجتْ أكثر من 300 مسيرة في مختلف مدن العالم دفاعاً عن أكثر القضايا العلمية البيئية التي دخلت في الدائرة المغلقة لرجال الحكم والسياسة منذ أكثر من 25 عاماً، ومازالت تراوح في مكانها بالرغم من حَسْمِها من ناحية العلم العلماء، والإجماع على واقعيتها ومردوداتها على الإنسان وبيئته واستدامة الحياة على سطح الأرض، وهي قضية التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض.

فهذه الأعداد الغفيرة من البشر التي تركت أعمالها اليومية وأنشطتها العادية لتشارك في هذه المسيرات، لا بد وأنها اقتنعت بأن هناك أمراً جللاً يستأهل التحرك الإيجابي، وأن هناك قضية تعاني من التهديد الفعلي، ولذلك يجب رفع الصوت من أجل هذه القضية والعمل على الوقوف بجانبها.

فقد شَعَرت الشعوب أن العلم والعلماء في خطرٍ حقيقي، وأن هناك ما يهدد موضوعية البحث العلمي واستقلاليته ويُعكر صفاءه ونقاوته ونزاهته عن الأهواء الشخصية، أو الصدامات الحزبية، فقد تفاقمت منذ سنوات ظاهرة توغل رجال السياسة والنفوذ على العلم والعلماء، وتضاعفت الضغوط التي يمارسونها على العلماء من أجل الاصطفاف مع توجهاتهم الفردية، وسياساتهم الحزبية، وبرامجهم الحكومية، كما ارتفعت في السنوات القليلة الماضية وتيرة تسييس القضايا العلمية والمشكلات البيئية، وتسييس نتائج التقارير العلمية والوثائق البيئية التي تصدرها الوزارات، أو الجامعات الأهلية، أو مؤسسات البحث العلمي ومراكز الدراسات التابعة للحكومات، أو الممولة من قبل هذه الحكومات.

فعندما يتم إعداد أي دراسة، أو تقرير علمي من مركز بحثي حكومي، أو جامعة حكومية، فإن المسودة الأولى لهذه الدراسة تُرفع عادة إلى الحكومة للاطلاع عليها ومناقشتها، ثم إقرارها كوثيقةٍ حكومية رسمية مُعتمدة، وإذا كانت الحكومة ائتلافية ومُشَكَّلة من حزبين أو أكثر، فعندها تبدأ لعبة شد الحبل مع هذا التقرير، فكل شخص أو حزب يحاول جر الحبل تجاهه وبما يتوافق مع مصالح حزبه، ويسعى إلى أن تكون استنتاجات التقرير العلمي متوافقة مع برنامجه الحزبي وقناعاته وطموحاته الشخصية المستقبلية، وفي نهاية المطاف يكون التلاعب بالألفاظ، والجُمَلْ، والعبارات، وتنقيحها وتغييرها، حتى تتم أخيراً الموافقة على صيغة توافقية للتقرير العلمي بحيث أنها تتناسب مع أهواء الأحزاب والأشخاص في الحكومة، وليس بالضرورة أن تتوافق مع رأي العلماء والباحثين الذين أعدوا التقرير، وفي خضم هذه التعديلات والتجاذبات قد تضيع المعلومة العلمية الصحيحة، وتختفي الحقيقة عن الناس.

ولذلك أتمنى أن يَترُك رجال السياسة العلماء ليؤدوا دورهم بكل أمانةٍ وصدقٍ وموضوعية، فيعملوا على تطوير المجتمعات البشرية في كافة القطاعات، فيجب عليناً إذن جميعاً تنْزيه ورفع العلم عن المصالح الشخصية، أو الفئوية، أو الحزبية، أي جعل العلم للعلماء، والسياسية للسياسيين، ومنع توغل السياسة على العلم، فكما يعلم الجميع فإن أهواء السياسة، ومصالحها، ومآربها نسبية، ومتغيرة، ومرتبطة بالزمان والمكان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق