الأربعاء، 24 مايو 2017

مُعضلة الحكومات البريطانية منذ أكثر من 90 عاماً



تتعاقب الحكومات البريطانية وتتوالى منذ اليوم الأول لتطبيق النظام الديمقراطي في بريطانيا بين حزبين لا ثالث لهما في النفوذ وتداول السلطة حتى الآن، وهما حزب العمال وحزب المحافظين.

 

وهناك معضلة عقيمة مُزمنة، وقضية شائكة عَصِيبة تُعرَض على هذين الحزبين في كل دورة حكومية منذ مئات السنين، ولكن الحزبين أبَيْنَ في كل مرةٍ أن يحمِلْنها وأشْفَقن منها ومن ثِقْلها وحمْلها العظيم، وأعبائها الكبيرة، فهذه القضية ليست كباقي القضايا، فهي عصية على الحل الجذري، والعلاج المستدام.

 

فمنذ بزوغ فجر الثورة الصناعية الأولى في بريطانيا في نهاية القرن السابع عشر والبذور الخبيثة لهذه الطامة الكبرى قد دفنت في الأرض، وارْتَوت بالمياه الآسنة الناجمة عن تداعيات هذه الثورة، فبدأت النَبتة في الخروج إلى سطح الأرض، وأخذت تنمو وتكبر رويداً رويداً، ويوماً بعد يوم فتمتد أغصانها وفروعها في كل حدبٍ وصوب، حتى جاءت الثورة الصناعية الثانية فتحولت إلى شجرةٍ عظيمة مهيبة لا تخفى على أحد ولا يمكن تجاهلها، وازداد الوضع سوءاً وتدهوراً، وتفاقمت المعضلة بدرجةٍ مشهودة، حتى تحولت مع الوقت إلى ظاهرةٍ غريبةٍ فريدة من نوعها في المجتمعات البشرية، ويراها الناس أمامهم وبأم أعينهم، ويتحسسون آثارها وتداعياتها على أمنهم الصحي وسلامتهم. 

 

ووصلت هذه المعضلة ذروتها في الرابع من ديسمبر عام 1952 في العاصمة لندن، عندما بدأت السماء تمتلأ بالغَمام فينزل على الأرض كعادته في فصول الشتاء، ثم مع الوقت تتشبع بالضباب الأبيض الكثيف، وفي الحقيقة فإن سكان لندن في البداية لم يُعيروا أي اهتمامٍ بهذا الضباب، فلندن كما تعلمون مدينة الضباب، وهذا الضباب الذي نزل عليهم في ذلك اليوم سيكون، حسب ظنهم وخبرتهم، كمثيلاته لآلاف السنين. ولكن رويداً رويداً، ودقيقة بعد دقيقة، أحس اللندنيون أنه ضباب غير عادي، وليس كالضباب الطبيعي الذي تعودوا على رؤيته والتعايش معه، فالسماء بدأت تُظلم، والهواء تحول من اللون النقي الصافي الأبيض إلى اللون الرمادي القاتم الكئيب، ثم ما لبث أن تحول إلى اللون الأسود المشؤوم المشبع بالملوثات من الدخان الأسود وأكاسيد الكبريت والنيتروجين، فانعدمت الرؤية كلياً، بحيث إنك مع الوقت إذا أخرجتَ يدك من جَيبِك لم تكد تراها، وساعة بعد ساعة انشلتْ الحياة، فتوقفت الحركة المرورية، ولم تخرج وسائل المواصلات العامة من محطاتها، وانعكس كل هذا الوضع البيئي المأساوي على البشر، فبدأوا يتساقطون صَرعى كسقوط أوراق الأشجار في فصل الخريف، فمنهم من قضى نحبه فوراً، ومنهم من هُرع به إلى قسم الطوارئ في المستشفيات فانتقل هناك إلى خالقه، ومنهم من ينتظر فحالفه الحظ فاستجاب للعلاج والدواء. واستمرت هذه الأيام العصيبة لأكثر من سبعة أيام فلم يأت هذا الضباب العقيم على بشرٍ أو حَجرٍ إلا جعله كالرَّميم، فقد مرَّت على اللندنيين هذه الأيام كسنواتٍ طويلةٍ عجاف، فانقشع الضباب القاتل في اليوم الحادي عشر من ديسمبر، وبدأت لندن تحسب موتاها، وتداوي جراحها، وتتساءل كيف نزل عليهم هذا الكرب العظيم؟ 

 

وهذا السؤال حيَّر العلماء لعقودٍ طويلة من الزمن، يحاولون فك شفراته، والتعرف على الملوثات المتهمة بقتل الناس وعدد الضحايا الذي ذهبوا ضحية لهذا التلوث، وقد جاءت الإجابة الشافية عن هذا السؤال بعد قرابة 65 عاماً في البحث المنشور في مجلة وقائع الأكاديمية القومية للعلوم(Proceedings of the National Academy of Sciences) في الولايات المتحدة الأمريكية في 14 نوفمبر 1916، حيث قدر عدد الموتى بنحو 12 ألف، ودخول قرابة 150 ألف إلى المستشفيات، وهلاك أعدادٍ كبيرة من الحيوانات، وأرجع السبب إلى تكون أحماضٍ سامة تحرق الإنسان كحمض الكبريتيك والنيتريك وحمض الهيدرفلوريك، إضافة إلى جسيمات الأمونيا والكربون السامة.

 

وتوالت الأيام والسنون، وتعاقبت الحكومات، ولم تزل المعضلة مستمرة دون حلٍ دائم، وتفرضُ نفسها على كل حكومة منتخبة، فمستوى التلوث، وبالتحديد من أكاسيد النيتروجين والدخان أو الجسيمات الدقيقة تجاوز المعايير والمواصفات الخاصة بتلوث الهواء وبات يُهدد الأمن الصحي للناس، حتى أن الاتحاد الأوروبي فرض غرامةٍ ماليةٍ باهظة على بريطانيا لعدم التزامها بالمواصفات الأوروبية لجودة الهواء، كما رفعت جمعية أهلية هي كلَيَّنتْ إيرْثْ(ClientEarth) عدة دعوات قضائية لإلزام الحكومة على تحسين نوعية الهواء وخفض مستوى الملوثات، وكسبت القضية في كل مرة، حيث أمر القاضي الحكومة البريطانية على تقديم خطتها لمواجهة تلوث الهواء، ولكن في كل مرة تفشل الحكومة في تقديم الخطة في موعدها فتعتذر وتطلب التأجيل، وكان آخرها في 26 أبريل من العام الجاري، حيث بَرَّرتْ الحكومة عدم تقديم برنامجها بحُجة الانتخابات العامة التي ستُجرى في الثامن من يونيو من العام الجاري.

 

وهكذا تُرَحل قضية تلوث الهواء الجوي في لندن، ومدن عالمية أخرى، من جيلٍ إلى جيل، ومن حكومةٍ إلى أخرى، فالجميع يقف مكتوف الأيدي أمام هذه القضية المتشابكة والمعقدة. ولذلك أتمنى من البحرين وضع جودة الهواء كأولوية في البرنامج الحكومي والحزم في تقديم الحلول العملية لعلاجها، حتى لا نضطر إلى ترحيلها إلى الأجيال اللاحقة وتحميلهم هذا العبء الثقيل الذي أَبتْ الأجيال السابقة على حملها وعلاجها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق