السبت، 3 يونيو 2017

وانْسحبتْ أمريكا كما توقَعت


يعيش العالم بأسره منذ قمة الأرض عام 1992، أي قبل 25 عاماً في دوامةٍ صرصرٍ عاتية نواتها الولايات المتحدة الأمريكية، فكلما هدأت العاصفة العقيمة واستقر الوضع الدولي قليلاً، جاءت أمريكا بقراراتها الفردية المنعزلة بتعكير الصفو العام، وتأزيم الحال من جديد، وخلط الأوراق الدولية مرة أخرى.

 

فقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في الأول من يونيو من العام الجاري إعلانه المخيب لآمال الدول والشعوب انسحابه من اتفاقية باريس المتعلقة بمواجهة التغير المناخي وارتفاع سخونة الأرض، والتي تمخضت عن مفاوضات ماراثونية دولية استمرت عقدين من الزمن وجاءت بعد مخاضٍ عسيرٍ وطويل وكلفت الكثير من الجهد والمال والوقت، ووقعت عليها 195 دولة.

 

وفي الحقيقة فإنني شخصياً لم أتفاجأ من هذا القرار الأمريكي الشاذ، وتوقعت حدوثه في عدة مقالات سابقة لسببين رئيسيين.

 

أما السبب الأول، فهذه ليست المرة الأولى التي تكسِر فيها الولايات المتحدة الأمريكية الإجماع الدولي وتلقي صفعة أليمة للمجتمع الدولي برمته. ففي المؤتمر التاريخي البيئي الذي حضره لأول مرة قادة ورؤساء حكومات دول العالم في ريو دي جانيرو في البرازيل 1992، وافقت الدول بالإجماع على اتفاقية إطارية حول التغير المناخي تُمهِد الطريق لمعاهدة دولية تُلزم كافة دول العالم على مواجهة تحديات التغير المناخي وتتعهد بمنع انبعاث الملوثات المتهمة برفع درجة حرارة الأرض. وكانت هذه القمة هي البدء في ولوج التغير المناخي في دوامة جدول أعمال المجتمع الدولي ونقطة دخوله في النفق الطويل المظلم الذي لا يُرى آخره حتى الآن. فقد بدأت المفاوضات الدولية حول اتفاقية ملزمة للتغير المناخي في عام 1993 وانتهت بعد ثلاث سنوات عصيبة، وبالتحديد في 1996 في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي في كيوتو باليابان، حيث وافقت دول العالم على معاهدة مشتركة تَعهدت فيها كل دولة على حِدة من الدول الصناعية على خفض انبعاثاتها من الغازات المعنية برفع درجة حرارة الأرض وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينطلق من احتراق الوقود الأحفوري في السيارات، والطائرات، والمصانع، ومحطات توليد الطاقة.

 

فالولايات المتحدة الأمريكية وقعت على معاهدة كيوتو في ديسمبر 1997 في عهد الرئيس الديمقراطي الأسبق بيل كلينتون، ثم عند دخول الجمهوري جورج بوش الابن إلى البيت الأبيض لم يوافق على المعاهدة ورفض التصديق عليها فأرجع المجتمع الدولي إلى المربع الأول والنقطة التي بدأ منها وهي عام 1992، حيث قام من جديد بمفاوضات ماراثونية دولية استغرقت عشرين عاماً، وبعد مخاضٍ عسيرٍ وشديد وضع مولوداً في ديسمبر 2015 في باريس.

 

وهنا يعيد التاريخ نفسه، فقد وقَّعت أمريكا عندما كان الديمقراطي أوباما يسكن في البيت الأبيض على هذه المعاهدة، والآن بعد تربع ترمب الجمهوري على عرش البيت الأبيض، توعد أثناء حملاته الانتخابية الرأسية بالخروج من اتفاقية باريس، والآن جاء الوقت ليوفي بوعده، فانسحب كلياً منها.

 

وأما السبب الثاني فهناك العديد من الإشارات والخطوات العملية التي اتخذها ترمب قبل وبعد تسلمه زمام البيت الأبيض، وجميعها تتوجه نحو التخلي عن معاهدة باريس، منها أن ترمب شخصياً له رأي مختلف حول ظاهرة التغير المناخي فهو لا يؤمن أصلاً بأن لأنشطة الإنسان المتمثلة في حرق الوقود الأحفوري كالبترول والفحم والغاز الطبيعي دوراً رئيساً في وقوع التغير المناخي المشهود ورفع درجة حرارة الأرض. كذلك بُعيد تنصيبه رئيساً في 20 يناير من العام الجاري، وبعد سُويعات من حفل التنصيب، طرأت تغييرات جوهرية على صفحة البيت الأبيض المناخية، حيث أُلغيت كلياً هذه الصفحة والوثيقة المناخية تحت عنوان:"خطة عمل المناخ" التي وُضعت في يونيو 2013، وتم استبدالها بصفحةٍ ثانية تحتوي على قضايا أخرى غير التغير المناخي، منها الوثيقة تحت عنوان: "خطة أمريكا أولاً في مجال الطاقة"، وهذه الوثيقة تجنبت كلياً مصطلح "التغير المناخي أو سخونة الأرض"، أو عبارة "الطاقة المتجددة"، وركزت بدلاً منها على عبارات عنوانها: "حماية الهواء والماء"، وتعزيز وتشجيع استخدام الفحم، وبالتحديد الفحم النظيف، إضافة إلى الدفع باستعمال الغاز والبترول الصخري الموجود في الولايات المتحدة الأمريكية. وعلاوة على ذلك كله فقد عَيَّن ترمب سكوت برويت(Scott Pruitt) رئيساً لوكالة حماية البيئة في 18 فبراير من العام الجاري، وفي أول كلمة له في العشرين من فبراير لم يتطرق كلياً إلى ظاهرة التغير المناخي وكأنها غير موجودة كلياً، كما أدلى بتصريحات في التاسع من مارس من العام الجاري في مقابلة تلفزيونية مع سِي إِن بـِي سِي تتعارض مع الإجماع الدولي، وذلك عندما سُئل عن دور ثاني أكسيد الكربون في إحداث التغير المناخي، حيث قال: "إنني لا أتفق بأن الأنشطة البشرية هي المساهمة الرئيس للتغير المناخي الذي نراه"، وأضاف: "لا أرى بأن ثاني أكسيد الكربون هو المساهم الرئيس في حدوث التغير المناخي كما نراه الآن، فنحتاج إلى مواصلة الحوار ومواصلة المراجعة والتحليل".

ولهذين السببين توقعتُ من قبل بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستنسحب مرة ثانية من اتفاقيات التغير المناخي وترجع المجتمع الدولي إلى هذه الدوامة من جديد.

           

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق