الأحد، 14 مايو 2017

الإزدحام يشلُ تنميتنا


بالأمس وأنا ذاهب إلى العمل في الصباح الباكر تمكنْتُ وبنجاح أن أُنهي وجبة إفطار كاملة وأنا في الطريق، وختمتُ الفطور بكوبٍ من شاي الكَرَكْ المعروف. ولست الوحيد الذي يقف أمام هذا المشهد ويمر بمثل هذه التجربة، فهناك عشرات الآلاف من الناس يأخذون فطورهم معهم لتناوله وهم في الطريق أثناء الازدحام المروري الشديد، وعند طول الانتظار، وكثرة التوقف.

 

هذا المشهد، ومشاهد الازدحام والتكدس المروري في جميع شوارع البحرين وطرقاتها وفي معظم الأوقات من الليل أو النهار، لها مدلولات عميقة، وانعكاسات عصيبة على المجتمع البحريني برمته وعلى مستقبل واستدامة عملياتنا التنموية حالياً ومستقبلاً إذا لم ننتبه لها قبل فوات الأوان ونجعلها في مقدمة سلم الأولويات، وإذا لم نُفعِّل الحلول العملية الجذرية الشاملة للقضاء كلياً عليها.

 

فقضية الاكتظاظ المروي يجب أن لا تختزل فقط في البعد المروري، وإنما يجب إجراء دراسات مستفيضة ومتكاملة لكافة الأبعاد والجوانب المتعلقة بها، بدءاً بالجانب السلوكي والأخلاقي للمواطن، ثم البعد البيئي والصحي المتعلق بتدهور نوعية الهواء ونزول الأمراض المزمنة علينا، وأخيراً وليس آخراً البعد الاقتصادي والتنموي.

 

أما من الناحية الأخلاقية والسلوكية، فهناك بعض المؤشرات السلبية التي بدأت تنكشف في المجتمع البحريني حول التأثير المزمن السلبي للسيارات على أخلاق وسلوك السائق البحريني، والواقع المشهود يؤكد أن ازدحام الشوارع بالسيارات وطول الانتظار في الطرقات، قد غَيَّر بالفعل من سلوك المواطن تغييراً سلبياً ملموساً، وبَدَّل من أسلوب تعامله مع الآخرين أثناء السياقة، أو عند وقوع مخالفة مرورية، أو حادثة بسيطة. فالمواطن البحريني الذي كان يُعرف تاريخياً بأخلاقه العالية والفاضلة، ويتميز بِصفَةِ تَحَمل الآخرين والتسامح معهم، وكان يُضرب به المثل دائماً بِسعة صدره ومرونته، ويتمتع بقدرته على التفاهم عند وقوع الخلافات البسيطة، أصبح الآن إنساناً آخراً، وظهرت عليه صفات غير كريمة وغير طيبة، لا نعتز بها.

 

وأما من الناحية البيئية الصحية فهناك إجماع دولي على إفساد السيارات لنوعية الهواء الجوي وتعرض الإنسان لأمراض عضال نتيجة لاستنشاق آلاف الملوثات والمواد المسرطنة التي تنبعث من السيارات. وهناك بعض الحقائق العلمية المتعلقة بهذا الجانب، أُقدمها لكم في النقاط التالية. أما الأولى فهي أن المنظمة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية قد صنَّفتْ الهواء الجوي العادي الذي نستنشقه يومياً بأنه يقع ضمن "المواد المسرطنة للإنسان"، وهذا يؤكد على أن الهواء الجوي يحتوي على ملوثات مسرطنة تنبعث من السيارات خاصة، كالبنزين ومركب البِنْزوبيرين والجسيمات الدقيقة الصغيرة الحجم، واستنشاق الإنسان لهذا الهواء يسقطه على المدى البعيد في شباك أخطر مرض يصيب البشرية ألا وهو السرطان، إضافة إلى أمراض القلب والموت المبكر.  

 

فهذه الأبعاد تنعكس مباشرة على الجانب الاقتصادي التنموي، فعندما تنتظر طويلاً في الطرقات، فهذا من شأنه أن يؤثر عليك نفسياً طوال اليوم، وفي الوقت نفسه فإنك فعلياً تخسر الوقت الثمين الذي من المفروض أن تقضيه في الإنتاج والعطاء والتنمية، كذلك فإن تلوث الهواء من السيارات وانتشار الأمراض والموت المبكر للإنسان نتيجة لهذا التلوث ينعكس أيضاً على المجتمع من الناحيتين الاقتصادية والتنموية، حيث تُنفق الدولة أموالاً طائلة على علاج عشرات الآلاف من المرضى وتخسر عطاءهم وإنتاجهم وهم في ريعان شبابهم، فتتأثر التنمية سلباً، وقد تنشل إذا استفحل الأمر وتفاقمت المشكلة. وقد نشرت منظمة الصحة العالمية تقريراً قدرت فيه الخسائر الاقتصادية السنوية التي تتكبدها الدول نتيجة لتلوث الهواء من السيارات وغيرها من المصادر الكثيرة والمتعددة. فعلى سبيل المثال، تلوث الهواء يكلف خزينة الدولة البريطانية نحو 83 بليون دولار سنوياً، كما أن دراسة أمريكية من معهد ماسشوستس للتكنلوجيا المعروف، قدَّرت كلفة تلوث الهواء على الاقتصاد الصيني بقرابة 112 بليون دولار أمريكي في عام 2007، علماً بأن هذا الرقم أعلى خمس مرات عن الكلفة المقدرة في عام 1975، وهذه التكاليف الباهظة الثمينة على المجتمع الصيني وعلى استدامة العمليات التنموية بسبب تلوث الهواء من السيارات ومن محطات الكهرباء والمصانع، أجبر الصين وللأول مرة في تاريخه أن يعلن الحرب على التلوث.

 

فمُدن العالم الآن أمام تحدٍ تاريخي لم يشهد له التاريخ مثيلاً، فإما أن تواجه التلوث الناجم عن السيارات بحزم وقوة، وإرادة وعزيمة شديدين، فتَحْمي البلاد والعِباد وتستمر التنمية وتؤتي أكلها، وإما أن تتجاهل هذه القضية وتؤخرها إلى أجلٍ غير مسمى، فتخسر مع الوقت البلاد والعباد وتنشل عجلة التنمية. 

 

ونحن في البحرين قد اقتربنا كثيراً من هذه المعادلة الصعبة، وبلغنا منعطف الطريق العصيب، فهل سنسعى لتحقيق تنمية مستدامة لنا وللأجيال اللاحقة، أم أننا فقط نعمل لتحقيق تنمية آنية مُعوقة لا ضمان لاستمراريتها؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق