الأربعاء، 26 فبراير 2020

ما هو المرض إِكْسْ؟


كلما تطور العلم وخطا خطوة إلى الأمام، وكلما تقدم الأطباء والعلماء ونجحوا في تخطي جدار التحديات المرضية التي تواجه البشرية، فكلما ظن الجميع أنهم وجدوا الحل المستدام والشامل والجذري لأمراض البشرية جمعاء في كل مكان، وجدوا أنفسهم أمام مرضٍ غامض جديد سريع الانتشار، وغريب الأطوار يكتسح بلمح البشر صحة الأمم والشعوب، ولم يشهدوا له مثيلاً من قبل في تاريخ البشر.

فعقول البشر في هذه الحياة الدنيا لن ترتاح أبداً، وأيدي الأطباء ستبقى مشمرة عن سواعدها جاهزة ومستعدة للحدث القادم والمرض المريب العصيب الذي لا محالة من وقوعه.

فقبل عقود كان مرض السرطان، والذي يُطلق عليه الجميع بالمريض العضال الخبيث المستعصي عن العلاج الدائم والجذري، فمازالت عقول البشر تقف حائرة وعاجزة حتى يومنا هذا عن إيجاد الحلول المستدامة التي تقضي عليه كلياً وبدون رجعة تماماً، فالأطباء يتحولون تدريجياً من أساليب العلاج الكيميائي والإشعاعي إلى العلاج المناعي والجيني، لعلهم يجدون ما يشفي غليلهم في هذه التقنيات الحديثة الواعدة. ثم نزل على البشرية مرض جديد لم تسمع بها من قبل ولا خطر على بال بشر وهو مرض الإيدز، أو نقص المناعة المكتسبة، فضرب الإنسان ضربة قاضية من حيث لم يحتسب ونقل الملايين في سنٍ مبكرة إلى مثواهم الأخير، حيث قتل حتى الآن قرابة 35 مليون إنسان، وها هو الإنسان يجري التجربة تلو الأخرى، والعلاج بعد العلاج لعله يصل إلى الحل الأمثل والمستدام لهذه النكبة الصحية الجديدة.
واليوم يتحدث العلماء بصوتٍ عال مسموع للجميع عن ريحٍ صرصرٍ مرضية عاتية ستسحق البشرية، ولكنها مجهولة المعالم والهوية، لا يعرفون الكثير عن خفاياها وأسرارها، وأَطلقُوا عليه مرض إكس(Disease X). ومنظمة الصحة العالمية تصدرت هذا التوجه العالمي الجديد، وعرَّفت هذا الكَربْ الجديد القادم لا محالة في السابع من فبراير عام 2018 بأنه ينزل على الإنسانية بسبب التعرض لكائنٍ مجهري جرثومي غير معروف، ويؤدي إلى تفشي وباءٍ عام على مستوى الكرة الأرضية برمتها، مما يستدعي الاستنفار الجماعي المشترك بين كل دول العالم النامي والمتقدم للبحث والتنقيب في كل مكان عن مسقط رأس هذا المجهول الغول وبيئة تكاثره وتنقله.

كما قامت منظمة الصحة العالمية بإطلاق مبادرة صحية وقائية جماعية مشتركة بين جميع دول العالم، ودشنت هذه المبادرة في ديسمبر 2015 وأعلنت عن قائمة الأمراض ذات الأولوية العالمية والتي تحتاج إلى استنفار الجهود والبحوث العلمية وتبادل الخبرات العلمية والمخبرية والتقنية من أجل التصدي لها عند وقوعها، ونشرت آخر نسخة لهذه القائمة المرضية المهددة لصحة البشرية في ديسمبر 2019، ومن بين هذه الأمراض التي يجب أن تتصدر اهتمام العالم ولا علاج جذري لها حتى الآن هي مرض إيبولا، وسارس (SARS)، وميرس(MERS)، وزيكا، وأخيراً مرض إكس المجهول.

ومن أجل التجاوب مع هذه المبادرة الأممية والبدء في تنفيذها في الواقع الميداني قامت العديد من المنظمات بقديم الدعم المالي والرعاية الإدارية لإجراء البحوث والدراسات الميدانية في الأدغال والغابات والبيئات البعيدة النائية التي ربما لم تصل إليها أيدي البشر ولم يسمع عنها أحد، فقد تشكلت فرق علمية استكشافية في بعض دول العالم لغزو هذه البيئات الأرضية العذراء البكر في غابات أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وقامت هذه الفرق البحثية التي أُطلق عليها "صيادو الفيروسات" بجمع العينات الفريدة من الحيوانات والطيور وغيرهما التي تعيش بعيداً عن أعين البشر وسمعهم، وعملت مخزوناً ثرياً من الفيروسات الغريبة والنادرة والجديدة التي تحملها هذه الحيوانات، كما أسست قاعدة بيانات علمية فريدة من نوعها لجميع هذه الفيروسات التي تم جمعها وتحليلها والتعرف على هويتها والتي بلغ عددها حتى الآن قرابة 900 فيروس جديد لم يعرفه الإنسان من قبل، وقد يكون أحدها الفيروس إكس المنتظر. 

فهل هذا التنبؤ والتحذير من العلماء ومنظمة الصحة العالمية قد وقع بالفعل الآن، والذي يتمثل حالياً في ظهور فيروس كورونا الغامض الجديد في ديسمبر 2019، والذي أُعطي في الثلاثين من يناير من العام الحالي إسم كوفيد 19(COVID19)؟
فهل هذا المرض "الكُوروني" الجديد هو مرض إِكْسْ المرتقب منذ عدة سنوات والذي ينتظره الجميع؟

في الحقيقة، وبعد مقارنة وتحليل تعريف منظمة الصحة العالمية لمرض إكس المنتظر ومرض كورونا المجهول الجديد فإن هناك توافقاً وانسجاماً شديدين بين المرضين، وبخاصة أولاً من ناحية الهوية الجديدة غير المعروفة من قبل عند العلماء لفيروس كورونا الجديد، وثانياً من ناحية مباغتة هذا الفيروس ومفاجئته للمجتمع الطبي وعامة الناس، وثالثاً من ناحية سرعة وقسوة ضربه للإنسان الحامل للفيروس وانتشاره بسهولة بين بني البشر، ليس عند مسقط رأس الفيروس ومكان ولادته وإنما بين البشر على بعد عشرات الآلاف من الكيلومترات من مصدر هذا الوباء حتى إنه وصل إلى البحرين في 24 فبراير.

فهناك عدة متغيرات ومستجدات وقعت على مستوى الكرة الأرضية تجعل من مرض إكس، أو فيروس كورونا الجديد هو الوباء المنتظر، وترفع كثيراً من مخاطر انتشار الأمراض عبر الحدود الجغرافية وجعلها أكثر سهولة وسرعة ويسر. أما التغير الأول فهو سعي العالم نحو تحقيق العولمة والقرية الأرضية الصغيرة الواحدة في كافة القطاعات التجارية والصناعية والزراعية وغيرها، مما يعني سهل تبادل السلع من استيراد وتصدير، وبالتالي سهولة انتقال أي مرض عبر هذه القناة الدولية المتحركة والمتسارعة. والثاني فهو تطور شبكة المواصلات وسرعتها، سواء على مستوى الدولة الواحدة أو بين الدول مما يجعل المسافات قصيرة والزمن محدود والحدود الجغرافية ضيقة، وهذا يعني في الوقت نفسه سرعة انتشار وتفشي أي مرض معدي بين الشعب الواحد وشعوب العالم أجمع. وأما النقطة الثالثة فتتمثل في غزو الإنسان للأنظمة البيئية النائية والبعيدة التي لم يصل إليها البشر من قبل وتعيش فيها بأمان بعيداً عنَّا الحيوانات والنباتات والفيروسات وغيرها من الكائنات في بيئاتها الفطرية الطبيعية، وهذه الكائنات الفطرية قد تحمل الأمراض الجديدة فتُعدي الإنسان. والنقطة الرابعة فتتمثل في التغير المناخي وارتفاع سخونة الأرض مما يعني انتقال وحركة الكائنات الحية بكافة مستوياتها، الصغيرة التي لا ترى بالعين المجردة والكبيرة التي نشاهدها أمامنا، من موقع إلى آخر أكثر تناسباً مع تغير الظروف المناخية وحرارة الأرض. وأما العامل الخامس والأخير ففي تقديري هو المختبرات البحثية العلمية السرية وغير السرية التي تتلاعب بالفيروسات وبجيناتها لأغراض عسكرية أو سلمية، وقد تتسرب هذه الفيروسات الجديدة إلى خارج بيئة المختبر ثم إلى الإنسان.

فكل هذه العوامل المستجدة تُسهل من ظهور فيروس أو مرض إكس، أو حتى في المستقبل أمراضٍ جديدة أخرى غامضة جداً، وقد لا يمكن مكافحتها والقضاء عليها إلا بعد أن تقضي على بني البشر.

الجمعة، 21 فبراير 2020

تحقيق صحفي جاء في الوقت المناسب


لفت انتباهي التحقيق الصحفي القيم المنشور في أخبار الخليج في 19 فبراير والذي أجراه الأستاذ محمد الساعي حول الاختناقات المرورية في البحرين، بين الكلفة الاقتصادية والانعكاسات الصحية. وفي الحقيقة فإننا بحاجة إلى المزيد من مثل هذه التحقيقات الميدانية التي تبين حجم المعاناة التي يقاسي منها المواطن والمقيم في كل ساعة من يومه أثناء الخروج من منزله من السيارات بشكلٍ عام ومن الزيادة المطردة سنوياً في الحركة المرورية في شوارعنا المحدودة كماً ونوعاً بصفةٍ خاصة.

وهذه المعاناة من السيارات أحْمِلها على عاتقي منذ أكثر من ثلاثين عاماً من خلال التحذير والتنبيه إلى هذه الظاهرة المرورية الخطيرة سواء عن طريق المحاضرات، أو الأبحاث العلمية، أو المقالات التوعوية والتثقيفية في الصحافة المحلية، أو من خلال إعداد كتب خاصة لمناقشة قضية السيارات بجميع أبعادها البيئية، والمرورية، والاقتصادية، والصحية، والاجتماعية، حيث ألفتُ كتاباً في التسعينيات من القرن المنصرم عنوانه: "السيارات: المشكلة والحل"، كما خصصت فصلاً كاملاً في كتابي المنشور في عام 2005 تحت عنوان: "رحلتي مع البيئة"، وكان عنوان الفصل: "السيارات: المشكلة المزمنة".

فمشكلة السيارات واقعية لا شك فيها، ويتحسسها الجميع ويقع تحت وطأتها كل من يعيش على هذه الأرض الطيبة بدون استثناء في كل يوم، والمؤشرات التي تؤكد واقعية هذه المعضلة العصيبة وتفاقمها سنوياً وارتفاع حدة تأثيرها موجودة أمامنا، وبالتحديد المؤشر الخاص بالزيادة الطفرية في أعداد السيارات سنوياً.

فعلى سبيل المثال كان عدد السيارات عام 1990 في البحرين 130149، ثم بعد عقد من الزمن أي في عام 2000 ارتفع تقريباً إلى الضعف فبلغ 216679. ولم تبق هذه الأعداد المفرطة في السيارات على ما هي عليها بالرغم من صغر مساحة البحرين، وشح شوارعها، وضيق طرقاتها، وبطء أعمال بنائها وتوسيعها، وإنما أخذتْ طريقها إلى الارتفاع غير المعقول وغير المناسب لواقع البحرين، ففي عام 2015 وصل عدد السيارات المسجلة 545 ألف، ثم قفز إلى 653 ألف في عام 2016، وفي عام 2017 زاد مرة أخرى فبلغ 686150، واليوم وصلت السيارات إلى أكثر من 720 ألف، أي بزيادة سنوية أعلى من 10%، وهذه الزيادة مستمرة وبمستويات عالية، ولن تتوقف إذا تركنا كما يقول المثل "الحبل على الغارب" وكأن شيئاً لم يكن، وبالتالي قد تُعد البحرين مقارنة بدول العالم من أشدها كثافة وازدحاماً مرورياً!

ومن المهم جداً التذكير بأن قضية السيارات لا تنحصر فقط على الجانب المروري المتعلق بالازدحام والحوادث المرورية المؤسفة التي نسمع عنها يومياً وأبعادها المؤلمة والقاسية على الأسر والمجتمع برمته، وإنما لهذه القضية جوانب أخرى كثيرة ومتشعبة لا تقل أهمية وتأثيراً على المجتمع وهي الجانب البيئي المتعلق بتلوث الهواء وارتفاع أحجام المخلفات السائلة والصلبة، والبعد الصحي والأمراض التي تنزل على الناس، إضافة إلى البعد الخطير المتعلق بأمن الطاقة في البحرين واستنزاف المصدر الوحيد الناضب غير المتجدد للطاقة بشكلٍ سريع غير مدروس.

أما الجانبان المرتبطان فهما البيئة والصحة، فكل ما يُعكر صفاء البيئة فإنه يفسد صحة الإنسان في الوقت نفسه. فعلى سبيل المثال، تلوث الهواء من عوادم السيارات يسبب ظاهرة بيئية وصحية حديثة نسبياً معروفة في معظم دول العالم وهي ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي المتمثلة في وجود سحبٍ بنية صفراء اللون تنزل إلى طبقات الجو السفلى التي يتعرض لها الإنسان بشكلٍ مباشر. وهذه السحب مشبعة بالسموم والمواد المسرطنة والمهلكة للصحة العامة، مثل الأوزون والجسيمات الدقيقة وأول أكسيد الكربون وغيرها الكثير، بحيث عندما تنزل على المدن تصيح وسائل الإعلام محذرة الناس إلى عدم الخروج من منازلهم وعدم ممارسة الأنشطة خارج المنزل.

ونظراً لشيوع وانتشار تلوث الهواء من السيارات في معظم مدن العالم، فقد اضطرت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية في عام 2015 إلى تصنيف "الهواء الجوي" بأنه من أسباب الإصابة بالسرطان للإنسان، كما أعلنت هذه الوكالة بأن عوادم سيارات الديزل تُعتبر من مصادر الإصابة بالسرطان، وبخاصة سرطان الرئة. ونتيجة لذلك فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية رسمياً بعد تقييم الدراسات والأبحاث الخاصة بتلوث الهواء، بأن التلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص يُعد السبب الرئيس لنقل الإنسان مبكراً إلى مثواه الأخير، وأن هذا العدد بلغ نحو 8.8 مليون إنسان في عام 2018.

وآخر الأبحاث المنشورة تؤكد حجم وعمق الضرر الناجم عن عوادم السيارات على صحة البيئة وسلامة الإنسان. فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك دراسة عُرضت في 17 سبتمبر 2018 في المؤتمر الدولي الذي عُقد في باريس بتنظيم من جمعيات الجهاز التنفسي الأوروبية والتي أكدت لأول مرة وجود جزيئات الدخان الأسود المتناهية في الصغر والتي لا ترى بالعين المجردة وتنبعث من السيارات في مشيمة المرأة غير المدخنة بعد ولادتها، مما يثبت بأن استنشاق الأم للملوثات من السيارات يؤدي إلى انتقالها من الجهاز التنفسي إلى مجرى الدم وأخيراً الاستقرار في المشيمة التي تربط بين الأم وجنينها، أي أن حتى الجنين وهو في رحم أمه، ذلك المكان الآمن والمظلم، لا يسلم من غزو الملوثات. كذلك عَثر العلماء على اكتشاف مخيف ومقلق جداً في قلب الإنسان، حيث نبض الحياة الدائم، ونشروا نتائج اكتشافهم في مجلة أبحاث البيئة في 12 يوليو 2019 تحت عنوان:" وجود الجسيمات الممغنطة المتناهية في الصغر الناجمة عن تلوث الهواء من حرق الوقود في قلب الإنسان". فقد قام الباحثون بتحليل أنسجة القلب من 72 شاباً من المكسيك ماتوا بحوادث الطرق، ثم أجروا تحليلاً لهذه الأنسجة وعثروا فيها على مستويات مرتفعة جداً من جزيئات الدخان الأسود المجهري (nanoparticles)المشبعة بالحديد الممغنط، حيث تراوحت أعدادها بين بليونين إلى 22 بليون من هذه الجسيمات في الجرام الواحد من الأنسجة الجافة للبطين، وهذا العدد المرتفع والعالي يزيد عشر مرات عن الإنسان المكسيكي الذي يعيش في مناطق أقل تلوثاً من العاصمة المكسيكية. وقد استنتج العلماء بأن التعرض للدخان الناجم من عوادم السيارات خاصة في سن مبكرة واختراق هذه الملوثات لخلايا وأنسجة القلب له مردودات سلبية خطيرة على قيام القلب لأداء وظيفته، ويسبب ضعفاً لقدرته وعمله في كل ثانية، كما إن هذه الملوثات هي المتهم الرئيس في تلف خلايا القلب بشكلٍ عام وتعريض الإنسان لمخاطر أمراض القلب والموت المبكر.

وبالرغم من كل هذه الأدلة الواقعية الدامغة على الأضرار التي تُشكلها السيارات للإنسان وبيئته والمجتمع برمته، إلا أنني لا أرى خطوات جبارة ملموسة تتخذها البحرين لتواكب حجم هذه الأضرار؟