لفت انتباهي التحقيق الصحفي القيم المنشور
في أخبار الخليج في 19 فبراير والذي أجراه
الأستاذ محمد الساعي حول الاختناقات المرورية في البحرين، بين الكلفة الاقتصادية
والانعكاسات الصحية. وفي الحقيقة فإننا بحاجة إلى المزيد من مثل هذه التحقيقات
الميدانية التي تبين حجم المعاناة التي يقاسي منها المواطن والمقيم في كل ساعة من
يومه أثناء الخروج من منزله من السيارات بشكلٍ عام ومن الزيادة المطردة سنوياً في
الحركة المرورية في شوارعنا المحدودة كماً ونوعاً بصفةٍ خاصة.
وهذه المعاناة من السيارات أحْمِلها
على عاتقي منذ أكثر من ثلاثين عاماً من خلال التحذير والتنبيه إلى هذه الظاهرة
المرورية الخطيرة سواء عن طريق المحاضرات، أو الأبحاث العلمية، أو المقالات
التوعوية والتثقيفية في الصحافة المحلية، أو من خلال إعداد كتب خاصة لمناقشة قضية
السيارات بجميع أبعادها البيئية، والمرورية، والاقتصادية، والصحية، والاجتماعية،
حيث ألفتُ كتاباً في التسعينيات من القرن المنصرم عنوانه: "السيارات: المشكلة
والحل"، كما خصصت فصلاً كاملاً في كتابي المنشور في عام 2005 تحت عنوان:
"رحلتي مع البيئة"، وكان عنوان الفصل: "السيارات: المشكلة
المزمنة".
فمشكلة السيارات واقعية لا شك فيها،
ويتحسسها الجميع ويقع تحت وطأتها كل من يعيش على هذه الأرض الطيبة بدون استثناء في
كل يوم، والمؤشرات التي تؤكد واقعية هذه المعضلة العصيبة وتفاقمها سنوياً وارتفاع
حدة تأثيرها موجودة أمامنا، وبالتحديد المؤشر الخاص بالزيادة الطفرية في أعداد
السيارات سنوياً.
فعلى سبيل المثال كان عدد السيارات عام
1990 في البحرين 130149، ثم بعد عقد من
الزمن أي في عام 2000 ارتفع تقريباً إلى
الضعف فبلغ 216679. ولم تبق هذه
الأعداد المفرطة في السيارات على ما هي عليها بالرغم من صغر مساحة البحرين، وشح
شوارعها، وضيق طرقاتها، وبطء أعمال بنائها وتوسيعها، وإنما أخذتْ طريقها إلى
الارتفاع غير المعقول وغير المناسب لواقع البحرين، ففي عام 2015 وصل
عدد السيارات المسجلة 545 ألف، ثم قفز إلى 653 ألف
في عام 2016،
وفي عام 2017 زاد مرة أخرى
فبلغ 686150، واليوم وصلت
السيارات إلى أكثر من 720 ألف، أي
بزيادة سنوية أعلى من 10%، وهذه
الزيادة مستمرة وبمستويات عالية، ولن تتوقف إذا تركنا كما يقول المثل "الحبل
على الغارب" وكأن شيئاً لم يكن، وبالتالي قد تُعد البحرين مقارنة بدول العالم
من أشدها كثافة وازدحاماً مرورياً!
ومن المهم
جداً التذكير بأن قضية السيارات لا تنحصر فقط على الجانب المروري المتعلق
بالازدحام والحوادث المرورية المؤسفة التي نسمع عنها يومياً وأبعادها المؤلمة
والقاسية على الأسر والمجتمع برمته، وإنما لهذه القضية جوانب أخرى كثيرة ومتشعبة
لا تقل أهمية وتأثيراً على المجتمع وهي الجانب البيئي المتعلق بتلوث الهواء
وارتفاع أحجام المخلفات السائلة والصلبة، والبعد الصحي والأمراض التي تنزل على
الناس، إضافة إلى البعد الخطير المتعلق بأمن الطاقة في البحرين واستنزاف المصدر
الوحيد الناضب غير المتجدد للطاقة بشكلٍ سريع غير مدروس.
أما الجانبان
المرتبطان فهما البيئة والصحة، فكل ما يُعكر صفاء البيئة فإنه يفسد صحة الإنسان في
الوقت نفسه. فعلى سبيل المثال، تلوث الهواء من عوادم السيارات يسبب ظاهرة بيئية
وصحية حديثة نسبياً معروفة في معظم دول العالم وهي ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي
المتمثلة في وجود سحبٍ بنية صفراء اللون تنزل إلى طبقات الجو السفلى التي يتعرض
لها الإنسان بشكلٍ مباشر. وهذه السحب مشبعة بالسموم والمواد المسرطنة والمهلكة
للصحة العامة، مثل الأوزون والجسيمات الدقيقة وأول أكسيد الكربون وغيرها الكثير،
بحيث عندما تنزل على المدن تصيح وسائل الإعلام محذرة الناس إلى عدم الخروج من
منازلهم وعدم ممارسة الأنشطة خارج المنزل.
ونظراً لشيوع وانتشار تلوث الهواء من السيارات في معظم مدن العالم، فقد
اضطرت
الوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية في عام 2015 إلى
تصنيف "الهواء الجوي" بأنه من أسباب الإصابة بالسرطان للإنسان، كما
أعلنت هذه الوكالة بأن عوادم سيارات الديزل
تُعتبر من مصادر الإصابة بالسرطان، وبخاصة سرطان الرئة. ونتيجة لذلك
فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية رسمياً بعد تقييم الدراسات
والأبحاث الخاصة بتلوث الهواء، بأن التلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص يُعد
السبب الرئيس لنقل الإنسان مبكراً إلى مثواه الأخير، وأن هذا العدد بلغ نحو 8.8 مليون إنسان في عام 2018.
وآخر الأبحاث المنشورة تؤكد حجم
وعمق الضرر الناجم عن عوادم السيارات على صحة البيئة وسلامة الإنسان. فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك دراسة عُرضت في
17
سبتمبر 2018
في المؤتمر الدولي الذي عُقد في باريس بتنظيم من جمعيات الجهاز التنفسي الأوروبية
والتي أكدت لأول مرة وجود جزيئات الدخان الأسود المتناهية في الصغر والتي لا ترى
بالعين المجردة وتنبعث من السيارات في مشيمة المرأة غير المدخنة بعد ولادتها، مما
يثبت بأن استنشاق الأم للملوثات من السيارات يؤدي إلى انتقالها من الجهاز التنفسي
إلى مجرى الدم وأخيراً الاستقرار في المشيمة التي تربط بين الأم وجنينها، أي أن
حتى الجنين وهو في رحم أمه، ذلك المكان الآمن والمظلم، لا يسلم من غزو الملوثات.
كذلك عَثر العلماء على اكتشاف مخيف ومقلق جداً في قلب الإنسان، حيث نبض الحياة
الدائم، ونشروا نتائج اكتشافهم في مجلة أبحاث البيئة في 12 يوليو 2019 تحت
عنوان:" وجود الجسيمات الممغنطة
المتناهية في الصغر الناجمة عن تلوث الهواء من حرق الوقود في قلب الإنسان".
فقد قام الباحثون بتحليل أنسجة القلب من 72 شاباً من
المكسيك ماتوا بحوادث الطرق، ثم أجروا تحليلاً لهذه الأنسجة وعثروا فيها على
مستويات مرتفعة جداً من جزيئات الدخان الأسود المجهري (nanoparticles)المشبعة
بالحديد الممغنط، حيث تراوحت أعدادها بين بليونين إلى 22 بليون من هذه
الجسيمات في الجرام الواحد من الأنسجة الجافة للبطين، وهذا العدد المرتفع والعالي
يزيد عشر مرات عن الإنسان المكسيكي الذي يعيش في مناطق أقل تلوثاً من العاصمة
المكسيكية. وقد استنتج العلماء بأن التعرض للدخان الناجم من عوادم السيارات خاصة
في سن مبكرة واختراق هذه الملوثات لخلايا وأنسجة القلب له مردودات سلبية خطيرة على
قيام القلب لأداء وظيفته، ويسبب ضعفاً لقدرته وعمله في كل ثانية، كما إن هذه الملوثات
هي المتهم الرئيس في تلف خلايا القلب بشكلٍ عام وتعريض الإنسان لمخاطر أمراض القلب
والموت المبكر.
وبالرغم
من كل هذه الأدلة الواقعية الدامغة على الأضرار التي تُشكلها السيارات للإنسان
وبيئته والمجتمع برمته، إلا أنني لا أرى خطوات جبارة ملموسة تتخذها البحرين لتواكب
حجم هذه الأضرار؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق