الثلاثاء، 31 ديسمبر 2024

ارتفاع مستوى سطح البحر في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة

 


لم تعد قضية ارتفاع مستوى سطح البحر من المواضيع والمجالات العلمية البحتة الهامشية التي يناقشها العلماء والباحثون في مؤتمراتهم ودراساتهم الضيقة البعيدة عن بهرجة أنظار الإعلام والصحافة، وإنما تخطت البعد البيئي والعلمي لتتحول إلى قضية أمنية وسياسية جامعة تخص كل دول العالم بدون استثناء، الغنية والفقيرة، المتقدمة والنامية، كما تعدت في الوقت نفسه الاجتماعات العلمية الخاصة لتبلغ إلى أعلى المستويات الدولية الهامة، وهي اجتماعات الأمم المتحدة السياسية والأمنية وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي، والاجتماعات السنوية للجمعية العمومية للأمم المتحدة.

والاجتماع الأخير الذي ناقش تهديدات ارتفاع مستوى سطح البحر على دول العالم، وبخاصة المدن والمجتمعات التي تعيش على السواحل، أو بالقرب منها وعلى الأراضي المنخفضة كان في 25 سبتمبر 2024 أثناء انعقاد الدورة (79) من اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في مدينة نيويورك الأمريكية.

وفي هذا الاجتماع الثاني للجمعية العمومية الذي أُطلق عليه اللقاء الحواري رفيع المستوى تحت عنوان: "معالجة التهديدات الحالية الناجمة عن ارتفاع مستوى سطح البحر"، ألقى الأمين العام كلمة في الجلسة الافتتاحية قال فيها بأن ارتفاع مستويات سطح البحر يهدد بوقوع الكثير من المآسي للملايين من البشر الذين يقطنون السواحل، حيث يتعرضون لمتغيرات الأمواج البحرية، وهم أول من يقع فريسة لارتفاع المد والأمواج العالية والأعاصير العاتية والفيضانات الغامرة، حيث يعيش في المناطق الساحلية المنخفضة قرابة 900 مليون إنسان. كما أضاف بأن غازات البيت الزجاجي الناجمة عن حرق الوقود الأحفوري تسخن كوكبنا، وتمدد من مياه البحر فتزيد في حجمها، وتزيد في الوقت نفسه من ذوبان الثلوج. كذلك أشار الأمين العام بأن هذا اللقاء يهدف إلى التركيز على بناء تفاهمات مشتركة وموقف سياسي موحد، وتعزيز التعاون والتنسيق المشترك بين جميع القطاعات التنموية على المستوى الدولي، إضافة إلى التفكير في الحلول الميدانية الشاملة لمساعدة الدول والمجتمعات الساحلية المتضررة ومكافحة ارتفاع مستوى سطح البحر.

كما عَقَد مجلس الأمن في 14 فبراير 2024 نقاشاً مفتوحاً على المستوى الوزاري تحت عنوان: "ارتفاع مستوى سطح البحر: آثاره على السلم والأمن الدوليين"، حيث قال الأمين العام للأمم المتحدة في جلسة الافتتاح بأن المجلس: "يلعب دوراً حاسماً في بناء الإرادة السياسية اللازمة لمواجهة التحديات الأمنية المدمرة الناشئة عن ارتفاع منسوب مياه البحار"، كما شدد على ضرورة العمل المشترك بشأن هذه القضية الحاسمة، ودعم حياة الأشخاص والمجتمعات الذين يعيشون في الخطوط الأمامية لهذه الأزمة. فارتفاع مستوى سطح البحر يسبب سيلاً من المشكلات بالنسبة لمئات ملايين الأشخاص الذين يعيشون في الدول الجزرية الصغيرة النامية وغيرها من المناطق الساحلية المنخفضة حول العالم.

ولذلك فإن طَرْح الجمعية العمومية ومجلس الأمن المعني بالحفظ على الأمن والسلام الدوليين لقضية ارتفاع مستوى سطح البحر يؤكد بأن قضية التغير المناخي وتداعياتها المتمثلة في ارتفاع مستوى سطح البحر تحولت اليوم إلى قضية أمنية تسبب زعزعة الأمن والاستقرار في الدول، وبخاصة الدول الجزرية والمدن التي تقع في مستوى منخفض من سطح البحر، فهي من العوامل المستجدة التي تُضاف إلى العوامل التقليدية المعروفة قديماً مثل الحروب والنزاعات المسلحة التي تُدهور أمن واستقرار الدول.

فقضية ارتفاع مستوى سطح البحر هي نابعة من القضية الأم وهي التغير المناخي التي سببها بسيط جداً، ويتمثل في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون وغازات أخرى كثيرة من حرق الوقود الأحفوري في السيارات والطائرات ومحطات توليد الطاقة، حيث ترتفع هذه الغازات إلى طبقات الجو العليا فتمنع الحرارة المنعكسة من سطح الأرض من الانتشار وتحبسها في تلك الطبقة، مما يؤدي إلى سخونة الأرض وارتفاع حرارتها. كما أن سخونة الهواء الجوي، إضافة إلى امتصاص المياه للغازات الملوثة للهواء، تؤدي إلى سخونة مياه المحيطات وارتفاع حرارة المياه مما يزيد من حجمها فتتمدد وتسبب ارتفاعاً في مستوى سطح البحر، وينجم عنها تيارات المد، والأعاصير، والفيضانات التي تهدد البشر والشجر والحجر، وجميع المرافق السكنية والسياحية وغيرهما الموجودة بالقرب من الساحل.

وهناك الكثير من الدراسات والتقارير الدولية التي تقدم تقييماً كمياً لارتفاع مستوى سطح البحر خلال العقود الماضية، وتَسَارع نسبة الارتفاع في العقد الماضي بشكلٍ خاص.

فقد نشرت "منظمة الأرصاد الدولية" تقريراً عنوانه "حالة المناخ 2022" مبنياً على قراءات الأقمار الصناعية، ويفيد بأن معدل ارتفاع مستوى سطح البحر يتسارع منذ عام 1900 أكثر من العقود الماضية، كما أن حرارة المحيطات وسخونتها زادت وارتفعت بالوتيرة نفسها خلال القرن المنصرم. ففي الفترة من يناير 2013 إلى يناير 2022 معدل الارتفاع بلغ 4.5 ميليمتر في السنة، والنمط العام كان 3.33، في حين أنه من يناير 2003 إلى ديسمبر 2012 كان الارتفاع 2.9، ومن يناير 1993 إلى ديسمبر 2002 كان المعدل 2.1 ميليمتر فقط.

كما نشر الفريق المختص في التغير المناخي في "الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء"( (ناسا) في 3 سبتمبر 2024 تقريراً توقع فيه ارتفاع مستوى سطح البحر إلى 50 سنتيمتراً بحلول عام 2050.

كذلك نشرت ناسا في 21 مارس 2024 تقريراً تحت عنوان: "ارتفاع مستوى سطح البحر"، وهذا التقرير الدوري يأتي ضمن سلسلة من التقارير عنوانها: "بيانات الأرض"(Earthdata وحسب برنامج "ناسا" المتعلق بـ"بيانات أنظمة علوم الأرض". وقد اعتمدت الدراسة في نتائجها على أحدث التقنيات وأكثر تطوراً ودقة ومصداقية، مثل الأقمار الصناعية المتخصصة في تقديم البيانات والمعلومات البيئية، وبخاصة المتعلقة بمؤشرات التغير المناخي، كما أن الدراسة قدَّمت بيانات مراقبة التغير في مياه سطح المحيطات لأكثر من 30 عاماً، وبالتحديد من عام 1992 إلى 2023. 

 فقد خلصت الدراسة إلى حدوث قفزة كبيرة وغير مسبوقة في مستويات سطح المياه في المحيطات على المستوى الدولي خلال الثلاثة عقود الماضية، ويمكن تقديم أهم الاستنتاجات كما يلي:

أولاً: المعدل العالمي لمستوى سطح البحر ارتفع قرابة 0.76 سنتيمتر من عام 2022 إلى 2023، أي بزيادة قرابة أربعة أضعاف عن السنة الماضية، حيث كان المعدل 0.2 سنتيمتر كل سنة.

ثانياً: الزيادة المطردة سنوياً لمستوى سطح البحر من عام 1993 إلى 2020، حيث كان المعدل الإجمالي لمستوى سطح البحر عالمياً في عام 1993، 0.18 سنتيمتر وارتفع سنوياً إلى أن وصل إلى 0.43 سنتيمتر حالياً. والتقديرات التي جاءت في الدراسة تفيد بأنه بحلول عام 2050 سيرتفع معدل مستوى سطح البحر 20 سنتيمتراً إضافياً، أي علينا أن نُضيف 20 سنتيمتراً على المعدل العالمي السنوي.

ثالثاً: المعدل الإجمالي لارتفاع مستوى سطح البحر بلغ اليوم 10.1 سنتيمتر منذ عام 1993 وحتى عام 2022.

رابعاً: تشير الدراسة إلى أن هناك سببين رئيسين لهذه الزيادة الكبيرة في أنماط تغير مستوى سطح البحر على المستوى العالمي، وبالتحديد في السنوات القليلة الماضية. أما السبب الأول فهو طبيعي ولا علاقة له بأيدي وأنشطة الإنسان بشكلٍ مباشر وهو ظاهرة ألنينو(El Nino)، حيث تسخن مياه المحيط وترتفع سخونتها أكثر وأعلى من السخونة الطبيعية، إضافة إلى سقوط الأمطار وانصهار الثلوج ودخولها مع مصادر المياه العذبة الأخرى في مياه البحار ورفع مستواها. وأما السبب الثاني فهو ناجم عن فعل أيدينا وبسبب أنشطتنا التنموية التي تنبعث عنها الملوثات الناجمة عن حرق الوقود الأحفوري وغيره، كما أشرنا إليه في مطلع المقال.

فمما سبق يجب أن نُدرك بأن ظاهرة ارتفاع مستوى سطح البحر حقيقية وواقعية، وتداعياتها مشهودة وملموسة في الكثير من دول العالم، مما يعني أن علينا مسؤولية كبيرة ونحن نعيش في جزيرة صغيرة منخفضة جداً مقارنة بمستوى سطح البحر، وتتمثل في اتخاذ الإجراءات العملية اللازمة لحماية المواطنين وحماية المرافق الساحلية قبل أن يغرقنا البحر.

 

 

الثلاثاء، 24 ديسمبر 2024

الماء سلاح للإبادة الجماعية الشاملة

 

هل هناك سلاح يخطر على بالك ولم يستعمله جيش الكيان الصهيوني البربري الهمجي ضد سكان غزة الضعفاء والمعزولين والمحاصرين من الغريب والقريب منذ أكثر من 16 عاماً؟

 

فقد استخدم الصهاينة اليهود وغير اليهود أحدث أنواع الطائرات الفتاكة لإحداث زلزال أرضي عنيف تحت أقدام الأطفال والنساء والشيوخ من القنابل الفوسفورية المحرمة دولياً والحارقة إلى القنابل العملاقة التي تزن 2000 رطل، والتي في مجملها تعادل القوة التدميرية والتخريبية للقنبلة الذرية التي ألقتها الولايات المتحدة الأمريكية على الشعب الياباني في مدينتي هيروشيما وناجازاكي في عام 1945.

 

كما استخدم الصهاينة الدبابات الأكثر تطوراً وتقدماً وفتكاً، والتي لا تقهر ولا يمكن تدميرها، لإزالة ومسح كل ما يقف أمامها من بنية تحتية خدمية وغير خدمية، ومرافق أساسية ضرورية يعيش عليها سكان غزة البالغ عددهم أكثر من 2.4 مليون نسمة.

 

وفي الوقت نفسه، ومع فظاعة وهول كل هذه القوة التدميرية الشرسة الواسعة، استخدم الصهاينة أسلحة أخرى لا تقل فتكاً وفساداً لإضعاف الشعب الفلسطيني عامة وكسر معنوياته، وانهاك قواه الجسدية رويداً رويداً، وإضعاف مقاومته وصموده والتفافه حول رجال المقاومة الأشداء، ودفعه تدريجياً نحو رفع العلم الأبيض والاستسلام.

 

وهذا السلاح هو أيضاً من أسلحة الدمار الشامل والإبادة الجماعية للشعوب، ويتمثل في منع سكان غزة من الخدمات الأساسية التي يحتاج إليها الإنسان لاستدامة حياته، وحظر ومنع حصول هؤلاء الملايين من الفلسطينيين المختنقين بسبب الحصار لأبسط حقوقهم الإنسانية التي لا حياة كريمة بدونها، ومنها الحق في الحصول على الماء السليم نوعياً وكمياً، والحق في الحصول على الكهرباء لاستمرار حياته. أي أن الصهاينة استخدموا أسلحة التدمير الشامل مرتين، الأولى الأسلحة التقليدية التفجيرية التدميرية ذات التأثير السريع والفوري والمباشر، والثانية أسلحة الدمار الشامل البطيئة والتدريجية للنيل مع الوقت من الجانبين النفسي والجسدي لهذا الشعب المستضعف والفقير. 

 

وفي الحقيقة هذه ليست ادعاءات لا سند لها من الواقع، وليست انطباعات غريبة غير منطقة، وإنما هي ما صرح بها وزير الدفاع الصهيوني السابق "يواف جالانت"( Yoav Gallant) عندما نزلت عليه حالة من الهستيريا الغاضبة بعد طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، فأمر في التاسع من أكتوبر وهو يعيش وضعاً مأساوياً عقيماً لم يشهده من قبل في حياته، ولا في حياة الغزاة المغتصبين من أجداده، بفرض حصارٍ شامل مُحكم وخانق على قطاع غزة من جميع المناحي، حيث قال سيكون الحصار تاماً: "لا كهرباء، لا طعام، لا ماء، لا وقود....كل شيء مغلق"، وأضاف قائلاً وهو يموت حسرة وذل: "نحن نقاتل حيوانات ونتصرف وفقاً لذلك". وتنفيذاً لهذه الأوامر المخالفة لكل القوانين الدولية، والتشريعات الإنسانية قام وزير الطاقة بقطع إمدادات المياه فوراً عن شعب غزة، وفي المقابل قام الجيش الصهيوني البربري بهجمات ممنهجة ومتعمدة لا مثيل لها في التاريخ البشري، وقصف وهدم كل ما هو متعلق بالماء، من تحلية، وتخزين، وتوزيع، ونقل، ومحطات معالجة مياه المجاري.

 

واليوم، وبالتحديد في 19 ديسمبر 2024 وبعد أشهر عجاف ثقيلة وطويلة عاني منها سكان غزة، ومازالت المعاناة مستمرة وشديدة وقاسية، تأتي منظمة دولية حقوقية إنسانية هي "هيومن رايتس واش"(Human Rights Watch) والتي تعتبر أكبر منظمة حقوق إنسان في الولايات المتحدة الأمريكية، في التأكيد على أن ما يدور في غزة يمثل حربْ استئصالية شاملة، وأعمال إبادة جماعية للبشر باستخدام سلاح "المياه" ذي التدمير الجماعي الشامل للنفس والجسد البشري.

 

وهذا التقرير الحقوقي الإنساني المكون من 184 صفحة جاء تحت عنوان: "الإبادة وأعمال الإبادة الجماعية"، ويغطي الفترة الزمنية من أكتوبر 2023 إلى سبتمبر 2024. وقد أكد التقرير ولأول مرة رسمياً بأن الكيان الصهيوني ارتكب ممارسات وأعمال عدائية متعمدة وممنهجة باستخدام المياه كسلاح قاتل ضد سكان غزة وتعريضهم للإبادة الجماعية الشمالية، حيث تمثل في قطع امدادات الماء الصالح للشرب عن سكان قطاع غزة، أو في الأقل خفض حجم المياه التي تصل إلى القطاع بكميات أقل من التي يحتاج إليها الإنسان في اليوم والليلة، حسب منظمة الصحة العالمية. ومثل هذه الأعمال تعد جريمة ضد الإنسانية، وإبادة جماعية شاملة للبشر. وقد توصلت المنظمة إلى هذه النتيجة الحاسمة عندما قام الكيان بعدة هجمات متعمدة على المرافق الخدمية الضرورية لحياة سكان غزة، وعلى البنية التحتية الخاصة بإنتاج المياه، وتصفيتها، وتنقيتها، وتوزيعها، إضافة إلى تدمير خزانات وأنابيب نقل المياه ومحطات التحلية ومعالجة مياه المجاري، مما اضطر سكان غزة إلى شرب المياه من مصادر ملوثة غير صالحة للاستهلاك الآدمي، ونجم عن هذا الحرمان من مياه الشرب النظيفة والصحية وعدم وجود معالجة لمياه المجاري، إصابة الكبار، وبخاصة الأطفال بأمراض معدية وقاتلة كالإسهال ومرض شلل الأطفال الذي تم الكشف عنه كأول حالة في 16 أغسطس 2024.

 

وتزامناً مع هذا التقرير حول استخدام الماء كسلاح وأداة قاتلة للإبادة الجماعية، نشرت منظمة "أطباء بلا الحدود"(Medecine Sans Frontieres) تقريراً تحت عنوان: "غزة: الحياة في فخ الموت" حول الأوضاع في غزة في 19 ديسمبر 2024. وقد أكد التقرير على أن هناك: "مؤشرات واضحة بارتكاب إسرائيل لأعمال التطهير العرقي"، كما قالت المنظمة بأن أطباءنا المتطوعين في غزة شاهدوا أمام أعينهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر من أعمال وممارسات الإبادة الجماعية، كظروف الحياة غير الإنسانية التي يعيشها أكثر من مليوني فلسطيني، وإجبار السكان بالقوة للنزوح من مناطقهم ثم قصفهم بالطائرات، علاوة على الجروح الجسدية، والعقلية، والنفسية التي يقاسون منها ولعقود طويلة قادمة.

 

كذلك نُشر تقرير "منظمة العفو الدولية" في 4 ديسمبر 2024، والمكون من 296 صفحة، حيث أفاد التقرير بأن سكان غزة، أي 2.4 مليون إنسان قد تعرضوا لأشد وأقسى أنواع العذاب الجسدي، والنفسي، والعقلي، حيث ارتكب الجيش الصهيوني أعمالاً تخالف القوانين والمعاهدات الدولية، وتتمثل في القتل الجماعي الشامل لسكان غزة باستخدام جميع أنواع الأسلحة، وهدم مرافق الخدمات الضرورية للإنسان بطريقة متعمدة وشاملة للكهرباء، والماء، والمستشفيات، والمساجد، ومعالجة المجاري، وكل هذه الممارسات تمثل إبادة جماعية للبشر، والشجر، والحجر.

 

وبعد كل هذه التقارير والاعترافات الأممية التي أَجمعتْ على قيام الكيان الصهيوني باستخدام جميع أدوات القتل الجماعي، ووصفتها بأنها جرائم حرب وضد الإنسانية، وأن هذا الكيان المعتدي قد ارتكب إبادة جماعية شاملة لسكان غزة. فبعد كل هذا، ما هو مصير هذه التقارير؟ وهل توجد جهة دولية ذات نفوذ وسلطة قوية ستحاسب وتعاقب هذا الكيان الصهيوني، وكل من قام بارتكاب هذه الجرائم البشعة التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً؟  

 

الأربعاء، 18 ديسمبر 2024

قضية من نوع جديد أمام محكمة العدل الدولية

 

خطفتْ محكمة العدل الدولية في مدينة لاهاي بهولندا وجذبت أنظار العالم واهتماماتهم في السنة الماضية، وقامت وسائل الإعلام بتسليط أضوائها على وقائع اجتماعات وقرارات أعلى وأكبر هيئة قضائية دولية تابعة للأمم المتحدة، وبخاصة بعد طوفان الأقصى عندما تم تحويل عدة قضايا من بعض الدول والمنظمات إلى المحكمة، وبالتحديد تلك المتعلقة بارتكاب الكيان الصهيوني لجرائم حرب، وجرائم الإبادة الجماعية للبشر والشجر والحجر في غزة بعد السابع من أكتوبر 2023.

 

فمثل هذه القضايا الأمنية والسياسية والحقوقية للإنسان تقع مباشرة ضمن اختصاص هذه المحكمة التي أُسست لتتولى مهمة الفصل طبقاً للقانون الدولي في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول وتقديم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي تحيلها إياها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.

 

فمن الأحكام التاريخية الجريئة والفريدة من نوعها التي اتخذتها المحكمة في 24 مايو 2024 هي أنه يتعين على إسرائيل الوقف الفوري لهجومها العسكري على مدينة رفح، وتجنب العمليات التي قد تفرض على الفلسطينيين في غزة ظروفاً يمكن أن تؤدي إلى تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، إضافة إلى القرار في 19 يوليو 2024 وهو عدم قانونية استمرار وجود دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة وهي غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.

 

ولكن اليوم نشهد وقوف محكمة العدل الدولية في الثاني من ديسمبر 2024، ولأول مرة في تاريخ المحكمة، لإصدار حكم قانوني بالنسبة لقضية تبدو لأول وهلة أنها غير أمنية، وغير سياسية، ولا تمثل نزاعاً عسكرياً بين الدول، وربما يظن المراقب لعمل المحكمة بأنها لا تصب في أهداف إنشائها، ولا علاقة لها باختصاصاتها المعروفة.

 

فهذه القضية المرفوعة الآن أمام قضاة المحكمة، ظاهرها أنها بيئية بحتة ولها علاقة مباشرة بأحد عناصر البيئة، ولكن بداخلها وتفاصيلها تكمن قضايا كثيرة معقدة ومتشابكة، ولها أبعاد أمنية، وحقوقية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية، وصحية، وهي مشكلة العصر، وأعقد قضية تواجهها البشرية جمعاء، ألا وهي ظاهرة التغير المناخي والتداعيات الدولية الناجمة عنها من سخونة الأرض وارتفاع حرارة كوكبنا، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حموضة المياه، إضافة إلى الكوارث المناخية العقيمة والمدمرة التي زادت في تكرار وقوعها واتسعت حدودها الجغرافية، وارتفعت شدتها قوتها وقدرتها التدميرية، وبخاصة على الجزر الساحلية المنخفضة الواقعة على سواحل المحيطات.

 

وقد جاء طلب التداول في هذه القضية للمحكمة، وتقديم الرأي الاستشاري القانوني من اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة الذي عقد في 29 مارس 2023، حيث وافق أعضاء الجمعية العمومية للأمم المتحدة بالإجماع على هذا الطلب تحت عنوان: "التزامات الدول المتعلقة بالتغير المناخي". وتَضَمن الطلب الإجابة عن سؤالين هما أولاً: ما هو دور والتزامات وواجبات الدول حسب القانون الدولي في حماية الأنظمة المناخية من انبعاثات الأنشطة البشرية من غازات الاحتباس الحراري مثل غاز ثاني أكسيد الكربون، وثانياً: ما هي العواقب القانونية لهذه الالتزامات والأضرار الناجمة عنها للنظم المناخية ذات العلاقة بالدول، وبالتحديد على الدول الجزرية النامية، والناس، والأجيال المستقبلية.

 

والسؤال الذي يثار الآن: ما هي علاقة التغير المناخي باختصاصات محكمة العدل الدولية؟ ولماذا يُطلب من هذه المحكمة تقديم الرأي والمشورة حول هذه القضية؟

 

للإجابة عن هذا السؤال يجب علينا الرجوع إلى أصل نشؤ قضية التغير المناخي وتاريخ هذه القضية. فظاهرة التغير المناخي وسخونة الأرض انكشفت مع الثورة الصناعية الأولى في الدول الصناعية المتقدمة منذ قرابة قرنين من الزمان، حيث تم استخدام وحرق الوقود الأحفوري، وبخاصة الفحم أولاً ثم النفط ومشتقاته في مصانع توليد الطاقة، وتشغيل المصانع، وفي وسائل المواصلات وغيرها. وعند احتراق هذا النوع من الوقود تنبعث ملوثات كثيرة، منها غاز ثاني أكسيد الكربون الذي تَسَبَبَ مع الزمن في وقوع ظاهرة الاحتباس الحراري، وبالتالي ظهور تداعياتها مثل سخونة الأرض ومياه المحيطات، وارتفاع حرارة وحموضة مياه البحار. وهذه التداعيات تسببت في وقوع الكوارث المناخية والفيضانات والأمطار الغزيرة غير الطبيعية، مما أدي إلى تدمير المرافق الساحلية. ومن أكثر الدول تضرراً من هذه التداعيات هي الدول الجزرية الصغيرة الفقيرة والنامية، والتي لا دور لها كلياً في وقوع التغير المناخي وتداعياتها. أي أن الدول التي تتضرر الآن لم يكن لها أي يدٍ في انكشاف هذه الظاهرة، وإنما نجمت كلياً من الدول الصناعية المتقدمة الغنية والثرية.

 

فهذه الظاهرة كشفت عن عدم وجود "عدالة دولية" على مستوى الدول والشعوب بين المتسبب لهذه الظاهرة وبين المتُضرر، حيث إن الدول المتسببة تتهرب من تحمل مسؤولياتها التاريخية، وتحاول أن تتجنب الوفاء والالتزام بواجباتها تجاه هذه الدول الضعيفة التي ليست لديها الإمكانات المالية والتقنية لمواجهة الكوارث المناخية المتزايدة نوعاً وكماً. ونظراً لتعنت الدول الغنية في تقديم الدعم المالي المناسب للدول النامية الفقيرة منذ أكثر من 30 عاماً، كان لا بد من رفع هذه القضية إلى محكمة العدل الدولية لتحقيق العدالة البيئية، والحقوقية، والاجتماعية، والاقتصادية، وبيان الرأي القانوني الدولي لضرورة قيام الدول المتقدمة لواجباتها وتحمل مسؤولياتها التاريخية.

 

والنقطة الثانية فهي أن الإنسان في كل جيل يجب أن يتْرُك مكونات البيئة بصحة جيدة لكي ينتفع بها البشر في الأجيال اللاحقة، أي المطلوب هو تحقيق "العدالة البيئية" بين الأجيال المتلاحقة، فلكل جيل الحق في التمتع ببيئة سليمة وصحية ومنتجة. وأما الوضع الحالي فيشير إلى أن هذا الجيل سيُورث الأجيال القادمة مشكلات وقضايا ذات أبعاد كثيرة تؤثر على أنشطتها التنموية، وقد تعرقل كل برامجها، وتوقعها في أزمات متلاحقة لا يستطيع الخلاص منها.

 

ولذلك برز دور محكمة العدل الدولية في تنظيم جلسات الاستماع في الفترة من 2 ديسمبر إلى 13 ديسمبر 2024، وشارك فيها مائة دولة وأكثر من 12 منظمة دولية، ثم اصدار الحكم بعد جلسات الاستماع في عام 2025 حول هذه القضية الدولية المشتركة، من حيث محاسبة الدول الصناعية المتقدمة والغنية على تحمل مسؤولياتها تجاه الدول الفقيرة التي تتحمل منذ عقود تبعات برامج وأنشطة الدول الغنية المستمرة لأكثر من 200 عام، أي تحقيق العدالة بين دول العالم، ثم تحقيق العدالة والمساواة بين الأجيال وعدم تحميل الأجيال المستقبلية أخطاء وزلات هذا الجميل الحالي.

 

فالقضية إذن تقع ضمن النزاع الدولي بين الدول المتقدمة الغنية التي تسببت في تلويث الهواء الجوي ووقوع ظاهرة التغير المناخي وبين الدول والشعوب الفقيرة والضعيفة التي تعاني من تداعيات هذه القضية منذ أكثر من قرن من الزمان. ولذلك فهذه الدول تناشد العدالة الدولية ممثلة في محكمة العدل الدولية للحكم لصالحها، ودعوة الدول الثرية لدعم ومساعدة الفقراء من الدول الضعيفة للتصدي للتغير المناخي والتعامل مع الأضرار التي تنجم عنها، فهي بالنسبة لهم قضية وجودية، وقضية حياة أو موت للشعوب والدول.