الثلاثاء، 31 ديسمبر 2024

ارتفاع مستوى سطح البحر في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة

 


لم تعد قضية ارتفاع مستوى سطح البحر من المواضيع والمجالات العلمية البحتة الهامشية التي يناقشها العلماء والباحثون في مؤتمراتهم ودراساتهم الضيقة البعيدة عن بهرجة أنظار الإعلام والصحافة، وإنما تخطت البعد البيئي والعلمي لتتحول إلى قضية أمنية وسياسية جامعة تخص كل دول العالم بدون استثناء، الغنية والفقيرة، المتقدمة والنامية، كما تعدت في الوقت نفسه الاجتماعات العلمية الخاصة لتبلغ إلى أعلى المستويات الدولية الهامة، وهي اجتماعات الأمم المتحدة السياسية والأمنية وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي، والاجتماعات السنوية للجمعية العمومية للأمم المتحدة.

والاجتماع الأخير الذي ناقش تهديدات ارتفاع مستوى سطح البحر على دول العالم، وبخاصة المدن والمجتمعات التي تعيش على السواحل، أو بالقرب منها وعلى الأراضي المنخفضة كان في 25 سبتمبر 2024 أثناء انعقاد الدورة (79) من اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في مدينة نيويورك الأمريكية.

وفي هذا الاجتماع الثاني للجمعية العمومية الذي أُطلق عليه اللقاء الحواري رفيع المستوى تحت عنوان: "معالجة التهديدات الحالية الناجمة عن ارتفاع مستوى سطح البحر"، ألقى الأمين العام كلمة في الجلسة الافتتاحية قال فيها بأن ارتفاع مستويات سطح البحر يهدد بوقوع الكثير من المآسي للملايين من البشر الذين يقطنون السواحل، حيث يتعرضون لمتغيرات الأمواج البحرية، وهم أول من يقع فريسة لارتفاع المد والأمواج العالية والأعاصير العاتية والفيضانات الغامرة، حيث يعيش في المناطق الساحلية المنخفضة قرابة 900 مليون إنسان. كما أضاف بأن غازات البيت الزجاجي الناجمة عن حرق الوقود الأحفوري تسخن كوكبنا، وتمدد من مياه البحر فتزيد في حجمها، وتزيد في الوقت نفسه من ذوبان الثلوج. كذلك أشار الأمين العام بأن هذا اللقاء يهدف إلى التركيز على بناء تفاهمات مشتركة وموقف سياسي موحد، وتعزيز التعاون والتنسيق المشترك بين جميع القطاعات التنموية على المستوى الدولي، إضافة إلى التفكير في الحلول الميدانية الشاملة لمساعدة الدول والمجتمعات الساحلية المتضررة ومكافحة ارتفاع مستوى سطح البحر.

كما عَقَد مجلس الأمن في 14 فبراير 2024 نقاشاً مفتوحاً على المستوى الوزاري تحت عنوان: "ارتفاع مستوى سطح البحر: آثاره على السلم والأمن الدوليين"، حيث قال الأمين العام للأمم المتحدة في جلسة الافتتاح بأن المجلس: "يلعب دوراً حاسماً في بناء الإرادة السياسية اللازمة لمواجهة التحديات الأمنية المدمرة الناشئة عن ارتفاع منسوب مياه البحار"، كما شدد على ضرورة العمل المشترك بشأن هذه القضية الحاسمة، ودعم حياة الأشخاص والمجتمعات الذين يعيشون في الخطوط الأمامية لهذه الأزمة. فارتفاع مستوى سطح البحر يسبب سيلاً من المشكلات بالنسبة لمئات ملايين الأشخاص الذين يعيشون في الدول الجزرية الصغيرة النامية وغيرها من المناطق الساحلية المنخفضة حول العالم.

ولذلك فإن طَرْح الجمعية العمومية ومجلس الأمن المعني بالحفظ على الأمن والسلام الدوليين لقضية ارتفاع مستوى سطح البحر يؤكد بأن قضية التغير المناخي وتداعياتها المتمثلة في ارتفاع مستوى سطح البحر تحولت اليوم إلى قضية أمنية تسبب زعزعة الأمن والاستقرار في الدول، وبخاصة الدول الجزرية والمدن التي تقع في مستوى منخفض من سطح البحر، فهي من العوامل المستجدة التي تُضاف إلى العوامل التقليدية المعروفة قديماً مثل الحروب والنزاعات المسلحة التي تُدهور أمن واستقرار الدول.

فقضية ارتفاع مستوى سطح البحر هي نابعة من القضية الأم وهي التغير المناخي التي سببها بسيط جداً، ويتمثل في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون وغازات أخرى كثيرة من حرق الوقود الأحفوري في السيارات والطائرات ومحطات توليد الطاقة، حيث ترتفع هذه الغازات إلى طبقات الجو العليا فتمنع الحرارة المنعكسة من سطح الأرض من الانتشار وتحبسها في تلك الطبقة، مما يؤدي إلى سخونة الأرض وارتفاع حرارتها. كما أن سخونة الهواء الجوي، إضافة إلى امتصاص المياه للغازات الملوثة للهواء، تؤدي إلى سخونة مياه المحيطات وارتفاع حرارة المياه مما يزيد من حجمها فتتمدد وتسبب ارتفاعاً في مستوى سطح البحر، وينجم عنها تيارات المد، والأعاصير، والفيضانات التي تهدد البشر والشجر والحجر، وجميع المرافق السكنية والسياحية وغيرهما الموجودة بالقرب من الساحل.

وهناك الكثير من الدراسات والتقارير الدولية التي تقدم تقييماً كمياً لارتفاع مستوى سطح البحر خلال العقود الماضية، وتَسَارع نسبة الارتفاع في العقد الماضي بشكلٍ خاص.

فقد نشرت "منظمة الأرصاد الدولية" تقريراً عنوانه "حالة المناخ 2022" مبنياً على قراءات الأقمار الصناعية، ويفيد بأن معدل ارتفاع مستوى سطح البحر يتسارع منذ عام 1900 أكثر من العقود الماضية، كما أن حرارة المحيطات وسخونتها زادت وارتفعت بالوتيرة نفسها خلال القرن المنصرم. ففي الفترة من يناير 2013 إلى يناير 2022 معدل الارتفاع بلغ 4.5 ميليمتر في السنة، والنمط العام كان 3.33، في حين أنه من يناير 2003 إلى ديسمبر 2012 كان الارتفاع 2.9، ومن يناير 1993 إلى ديسمبر 2002 كان المعدل 2.1 ميليمتر فقط.

كما نشر الفريق المختص في التغير المناخي في "الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء"( (ناسا) في 3 سبتمبر 2024 تقريراً توقع فيه ارتفاع مستوى سطح البحر إلى 50 سنتيمتراً بحلول عام 2050.

كذلك نشرت ناسا في 21 مارس 2024 تقريراً تحت عنوان: "ارتفاع مستوى سطح البحر"، وهذا التقرير الدوري يأتي ضمن سلسلة من التقارير عنوانها: "بيانات الأرض"(Earthdata وحسب برنامج "ناسا" المتعلق بـ"بيانات أنظمة علوم الأرض". وقد اعتمدت الدراسة في نتائجها على أحدث التقنيات وأكثر تطوراً ودقة ومصداقية، مثل الأقمار الصناعية المتخصصة في تقديم البيانات والمعلومات البيئية، وبخاصة المتعلقة بمؤشرات التغير المناخي، كما أن الدراسة قدَّمت بيانات مراقبة التغير في مياه سطح المحيطات لأكثر من 30 عاماً، وبالتحديد من عام 1992 إلى 2023. 

 فقد خلصت الدراسة إلى حدوث قفزة كبيرة وغير مسبوقة في مستويات سطح المياه في المحيطات على المستوى الدولي خلال الثلاثة عقود الماضية، ويمكن تقديم أهم الاستنتاجات كما يلي:

أولاً: المعدل العالمي لمستوى سطح البحر ارتفع قرابة 0.76 سنتيمتر من عام 2022 إلى 2023، أي بزيادة قرابة أربعة أضعاف عن السنة الماضية، حيث كان المعدل 0.2 سنتيمتر كل سنة.

ثانياً: الزيادة المطردة سنوياً لمستوى سطح البحر من عام 1993 إلى 2020، حيث كان المعدل الإجمالي لمستوى سطح البحر عالمياً في عام 1993، 0.18 سنتيمتر وارتفع سنوياً إلى أن وصل إلى 0.43 سنتيمتر حالياً. والتقديرات التي جاءت في الدراسة تفيد بأنه بحلول عام 2050 سيرتفع معدل مستوى سطح البحر 20 سنتيمتراً إضافياً، أي علينا أن نُضيف 20 سنتيمتراً على المعدل العالمي السنوي.

ثالثاً: المعدل الإجمالي لارتفاع مستوى سطح البحر بلغ اليوم 10.1 سنتيمتر منذ عام 1993 وحتى عام 2022.

رابعاً: تشير الدراسة إلى أن هناك سببين رئيسين لهذه الزيادة الكبيرة في أنماط تغير مستوى سطح البحر على المستوى العالمي، وبالتحديد في السنوات القليلة الماضية. أما السبب الأول فهو طبيعي ولا علاقة له بأيدي وأنشطة الإنسان بشكلٍ مباشر وهو ظاهرة ألنينو(El Nino)، حيث تسخن مياه المحيط وترتفع سخونتها أكثر وأعلى من السخونة الطبيعية، إضافة إلى سقوط الأمطار وانصهار الثلوج ودخولها مع مصادر المياه العذبة الأخرى في مياه البحار ورفع مستواها. وأما السبب الثاني فهو ناجم عن فعل أيدينا وبسبب أنشطتنا التنموية التي تنبعث عنها الملوثات الناجمة عن حرق الوقود الأحفوري وغيره، كما أشرنا إليه في مطلع المقال.

فمما سبق يجب أن نُدرك بأن ظاهرة ارتفاع مستوى سطح البحر حقيقية وواقعية، وتداعياتها مشهودة وملموسة في الكثير من دول العالم، مما يعني أن علينا مسؤولية كبيرة ونحن نعيش في جزيرة صغيرة منخفضة جداً مقارنة بمستوى سطح البحر، وتتمثل في اتخاذ الإجراءات العملية اللازمة لحماية المواطنين وحماية المرافق الساحلية قبل أن يغرقنا البحر.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق