الازدحام المروري في
شوارعنا ليس وليد اليوم، ولكن اليوم بلغ مستويات مزمنة لا تُطاق، ووصل إلى درجة
شديدة لا يمكن تحملها أكثر والصبر عليها وعلى تداعياتها المهددة لصحتنا النفسية
والجسدية وسلامة بيئتنا، والمؤثرة على نجاح البحرين في تحقيق التنمية المستدامة،
إضافة إلى تركها بصمات قوية على سرعة الإنتاجية والحركة الاستثمارية.
فهذا الاكتظاظ المروي لم
ينزل علينا مرة واحدة وفجأة وبدون سابق إنذار من السماء من حيث لا نعلم ولا نحتسب،
كنزول الكوارث الطبيعية التي لا يمكن في أغلب الأحيان التصدي لها، ومواجهتها
ومنعها بخطط وقائية وأخذ التدابير الأولية لتجنبها. فالازدحام جاء تدريجياً،
ويوماً بعد يوم، وعلى مدى سنوات طويلة من سياسة التجاهل والغفلة وعدم المبالاة، من
حيث العشوائية في نمو أعداد السيارات بدرجة طفرية مشهودة لا تتماشى مع مساحة
البحرين الصغيرة والمحدودة جداً، إضافة إلى عدم مواكبة أعداد الشوارع وضيق مساحتها
مع هذا النمو المتطرف السريع غير المسبوق. وهذا يعني أن النمو في أعداد السيارات
كان في ارتفاع وزيادة مطردة مع الزمن ويسير على قدمٍ وساق، في حين أن متطلبات
مواجهة هذه الزيادة كانت في غفلة ساهون، وهذا أدى إلى تكوُن معادلة غير متساوية من
الطرفين، فطغى أحد أطراف وجوانب المعادلة وتغلب على الجانب الآخر، فخلق تطرفاً
وعدم توازن في المعادلة، وأوقع أزمة عقيمة تحتاج إلى حلٍ جذري متكامل وسريع ومكلف.
ودعوني أُلقي نظرة سريعة
على تاريخ نمو عدد السيارات في البحرين منذ عام 1954، والذي كان عدد السيارات 3396
سيارة. وبعد ثلاث سنوات، وبالتحديد في عام 1957 وصل العدد إلى 5595، ثم في عام
1960 كان العدد 6417. وفي هذه الحقبة الزمنية كانت الزيادة في عدد السيارات بسيطة
ومعقولة وتتناسب مع عدد ونوعية الشوارع الموجودة في البلاد. ولكن في فترة
السبعينيات من القرن المنصرم، تزايدت وتيرة نمو السيارات، وقفزت أعدادها إلى درجة
عالية ونسبة مرتفعة جداً. فعلى سبيل المثال، وصل العدد في عام 1977 إلى 45850
سيارة، ثم بدأت ظاهرة الطفرات المتسارعة، والقفزات الواسعة والكبيرة في الأعداد
بمستويات غير طبيعية وملفتة للانتباه من قبل جميع المواطنين، حتى أننا أصبحنا في
مقدمة قائمة الدول ذات الكثافة المرورية العالية، وأصبحت أعداد السيارات في سباق
مع عدد السكان في البحرين. ففي عام 2015 بلغ رقماً مهولاً هو 545 ألف، وارتفع في
عام 2018 إلى 640 ألف، ثم قفز إلى 711 ألف في عام 2019، وأخيراً وحتى نهاية أكتوبر
2023 بلغ العدد 750341 سيارة، كما أن التقديرات تشير إلى أن العدد سيتجاوز المليون
سيارة خلال الشعر سنوات القادمة.
فكل هذه الزيادة العشوائية غير المدروسة لأعداد السيارات لم تواكبها في
الوقت نفسه وتمشي بالتوازي معها الزيادة في عدد الشوارع، والجسور العلوية،
والأنفاق، مما أدى إلى تشبع الشوارع وامتلائها بهذه السيارات المتزايدة المكتظة.
ففي السنوات القليلة الماضية كان هذا التشبع، أو ما يُطلق عليه بساعة الذروة
المرورية في أوقات الدوام وأيام العمل الرسمي، سواء في الصباح عند الذهاب إلى
العمل، أو بعد الظهر عند الخروج من العمل، ولكن اليوم وقت الذروة تحول إلى معظم
أوقات اليوم والليلة، وفي جميع الأيام، وطوال العام. وهذا يعني أننا بالنسبة
للشوارع تحولنا من مرحلة التشبع إلى مرحلة ما "فوق التشبع". وهنا تكمن
الخطورة في تفشي تأثيراتها السلبية على جوانب وقطاعات تنموية كثيرة ومتنوعة، ليس
من ناحية الازدحام المروري في الشوارع فحسب، وإنما من الناحية البيئية كارتفاع
نسبة الملوثات وتدهور جودة الهواء، ومن الناحية الصحية النفسية والجسدية، ومن
الناحية الاجتماعية والأخلاقية للفرد وممارساته المخالفة للأنظمة المرورية وقلة
صبره وارتفاع درجة غضبه وسوء معاملته أثناء قيادة السيارة، ومن ناحية الاستهلاك
الشديد لوقود السيارات وهدره أثناء الازدحام وكثرة توقف السيارات. إضافة إلى
تداعياتها على التنمية المستدامة من ناحية ضعف وبطء الإنتاج، وزيادة الأمراض
والعلل بين الناس، علاوة على تأثيراتها على الاستثمار من ناحية سرعة حركة الأفراد
والبضائع من منطقة إلى أخرى، ومن البحرين إلى خارج البحرين عبر الموانئ البرية،
والبحرية، والجوية.
فقضية الازدحام المروري خارجة من رحم قضية السيارات التي تعاني من
انعكاساتها كل مدن العالم العريقة، في الدول الفقيرة والنامية، والدول الغنية
المتقدمة على حدٍ سواء، وهذا يعني بأن الحل معقد جداً ومتشابك، وليس ردود فعل
سريعة وسطحية للاكتظاظ المروري. ولذلك فإنني أدعو إلى تبني الحل المنهجي
المستدام، وهو النظرة الشاملة والمتكاملة
إلى السيارات، ودراسة تداعياتها على التنمية المستدامة بأركانها الثلاثة، وهي
التنمية المستدامة بيئياً، واقتصادياً، واجتماعياً. فلا يوجد حل واحد سحري لمشكلة
السيارات، كما لا يوجد الحل السحري الفريد لمشكلة الازدحام الخانقة، فهناك مجموعة
من الحلول والإجراءات التي يجب تنفيذها معاً، وفي آنٍ واحد، وتصب جميعها في تخفيف
ظاهرة الازدحام المروري، وخفض آثارها على الفرد والمجتمع. فمنها الحلول المرورية،
ومنها الحلول الاجتماعية، ومنها الحلول الاقتصادية، ومنها الحلول البيئية، ولنجاح
كل هذه الحلول المتنوعة متعددة الاختصاص، يجب أن يكون هناك تنسيق قوي، وتعاون وثيق
بين كل الجهات الحكومية وغير الحكومية المعنية بأحد الحلول والإجراءات(لمزيد من
المعلومات يمكن الرجوع إلى كتابي المنشور عام 1999 تحت عنوان: "السيارات: المشكلة
والحل").
ولا بد لي مع ختام المقال من التذكير والتنبيه وتصحيح مفهوم خاطئ وضيق
الأفق قد يعتقد به بعض المسؤولين، وهو اختزال وحصر حل مشكلة السيارات والازدحام
الناجم عنها في حلٍ واحد فقط، وهو بناء الشوارع الجديدة وتوسعة الشوارع الموجودة
حالياً. ولكي أُثبتُ لكم عدم فاعلية واستدامة هذا الحل في حد ذاته على المدى
البعيد، سأُقدم لكم قصة معبرة ومفيدة جداً من فقرة واحدة عاصرتها بنفسي. فأنا من
سكان عالي، ونظراً لضيق أحد الشوارع، وبالتحديد شارع 36، اتخذتْ الجهات المعنية
قراراً بتوسعة الشارع، ولكن بعد البدء في أعمال التوسعة بأيام فقط، توقف العمل
لأكثر من 6 أشهر دون ذكر الأسباب. فاتصلتُ بالجهة المختصة لمعرفة أسباب توقف
العمل، فأخبرني المسؤول بأن توسعة الشارع توغلت ودخلت على أراضي بعض المواطنين
الخاصة، مما كان من الضروري أولاً تسوية هذا العائق الشرعي الذي استغرق وقتاً
طويلاً، ثم استئناف العمل. فهذه القصة لها استنتاجات خطيرة جداً تحد من بناء
الشوارع الجديدة وتوسعة القديمة منها مستقبلاً، فأعمال تشييد الشوارع تحتاج إلى
أراضي ملك عام وليس ملك خاص، وعلماً بأن مساحة البحرين ضيقة جداً ومحدودة، ومعظم
الأراضي، إن لم يكن كلها أصبحت أملاك خاصة، فأين إذن سنبني شوارع المستقبل؟ وكيف
نوسع الشوارع الحالية إذا لم نجد الأرض للبناء عليها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق