أثار انتباهي كثيراً القرار السريع جداً الذي اتخذه الاجتماع رقم (29) للدول الأطراف في اتفاقية التغير المناخي، والذي عُقد في الفترة من 11 إلى 22 نوفمبر 2024 في باكو في أذربيجان.
فهذا القرار بالإجماع أُتخذ في اليوم الأول من الاجتماع المناخي، وفي الساعات الأولى من عقد الاجتماع، وبسرعة فائقة حطمت الرقم القياسي لزمن اتخاذ القرارات في مثل هذه الاجتماعات الأممية، وبدون عراقيل أو قيود، علماً بأن النمط العام والسائد لاتخاذ القرار في مثل هذه الاجتماعات يكون في معظم الحالات بطيئاً جداً وصعباً، ويحتاج إلى مفاوضات ماراثونية عقيمة وشاقة، ومخاض عسير وبطيء حتى تصل الوفود وفي الساعات الأخيرة ومن آخر يوم من الاجتماع إلى صيغة وسطية معتدلة تحظى بإجماع كافة ممثلي الدول، والذي يبلغ عددهم عادة زهاء 200 دولة.
فهذه العجالة غير المعهودة، وغير الطبيعية في اتخاذ هذا القرار في مثل هذه الاجتماعات التي تشارك فيها معظم دول العالم الغنية والفقيرة، المتقدمة والنامية، جعلتني أشكُ في الدول التي ستستفيد من هذا القرار، وانتابني شعور بأن هذا القرار لا شك وأنه سيصب في مصلحة الدول الصناعية الغنية الكبرى المتنفذة والمهيمنة على القرارات الأممية والتي تُسيِّر عجلة هذه الاجتماعات، وتحرك دفتها نحو مصالحها القومية، ومصالح شركاتها الاقتصادية بشكلٍ خاص.
فهذا القرار هو الموافقة على وضع أنظمة واشتراطات ومعايير ونظام عام لما يُطلق عليه بعدة مصطلحات منها "أرصدة المناخ"(climate credit)، أو ائتمان الكربون(carbon credits)، أو "الاتجار في أرصدة الكربون"، أو "سوق الكربون".
فهذا القرار يعطي الحرية المطلقة والمرونة المطلوبة للدول العظمى الصناعية، وشركاتها العملاقة متعددة الجنسيات في اتخاذ الإجراءات اللازمة والمناسبة لها ولمصالحها لخفض انبعاثاتها من الغازات المتهمة بالتغير المناخي ورفع سخونة الأرض، ولكن ليس بالضرورة أن تكون هذه الإجراءات في الدولة نفسها، أو في المصنع نفسه في تلك البلاد، وإنما قد تكون إجراءات الخفض في دولة أخرى من خلال شراء أرصدة الكربون من الدول التي تفي بالتزاماتها من نسبة الانبعاث التي تَصْدر منها. فمثل هذا القرار الأممي يرفع أية قيود قد تُوضع على هذه الشركات المتنفذة الملوثة للبيئة، فلا يُحملها ما لا تطيق، ولا يضيق الخناق عليها، كما أن مثل هذا القرار الأممي المناخي لا يقيد حركة ونمو شركات الدول المتقدمة، ولا يؤثر قيد أنملة على أعمالها التشغيلية اليومية ولا على أرباحها السنوية.
فهذا القرار يمهد الطريق للدول الغنية المتقدمة في خفض انبعاثاتها وتحقيق انجاز صوري وسطحي وبطرقٍ رخيصة وغير مكلفة، ولا تُحدث أي ضرر اقتصادي ملموس لها. فبدلاً من أن تقوم هذه المصانع الموجودة في الدول العظمى من إرهاق ميزانياتها من خلال وضع أجهزة ومعدات غالية الثمن للتحكم في الانبعاثات الملوثة للهواء والمسببة للتغير المناخي، تقوم بتخصيص مبلغٍ زهيد من المال للدول النامية والفقيرة لحماية غاباتها وصيانتها والحفاظ عليها من أعمال القطع والتجريف، فهذه الغابات تقوم بامتصاص الملوثات عامة، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون المسبب للاحتباس الحراري من الهواء الجوي. كما أن هذا القرار ييسر على مصانع الدول المتقدمة التقيد بخفض انبعاثاتها بأرخص الأثمان، فبدلاً من إنفاق مئات الملايين من الدولارات على احداث تغييرات كبيرة في العمليات الصناعية داخل المصنع، فإنها تتبنى برامج وأنشطة زهيدة الثمن في الدول الفقيرة، كالقيام بعمليات التشجير وزيادة وتوسعة الرقعة الخضراء التي تسهم في خفض مستويات غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. وعلاوة على ذلك، فمثل هذا القرار في نهاية المطاف لا يشجع الدول والمصانع الكبيرة، سواء التي تولد الطاقة باستخدام أحد أنواع الوقود الأحفوري، أو التي تستخدم هذه الأنواع من الوقود لتشغيل مصانعها ووسائل المواصلات عندها من الانتقال سريعاً من هذا النوع من الوقود إلى الأنواع النظيفة والمتجددة التي لا تنبعث عنها الملوثات المتهمة برفع حرارة الأرض وارتفاع مستوى سطح البحر. فهذا القرار إذن يساعد الدول الصناعية الكبرى ومصانعها الملوثة على التحايل والالتفاف على مسؤولياتها التاريخية في خفض الانبعاث من مصادر الانبعاث ووضع حدود معينة تلتزم بها سنوياً، بل ويسمح لها هذا القرار بصفة قانونية دولية على تلويث الهواء الجوي بالملوثات المسببة للتغير المناخي، ودون أن يكون عندها الحافز والدافع القوي والضغوط الدولية لخفض الانبعاث من المصدر نفسه.
فمثل هذه العمليات والتداولات الكربونية المناخية يُطلق عليها بـ "سوق الكربون الدولي"، أو تجارة الكربون والذي سيعمل تحت اشراف الأمم المتحدة. فالهدف الرئيس من هذه السوق هو تبادل أرصدة الكربون بين الشركات والدول حول العالم، ومساعدة الدول التي تنبعث عنها ملوثات بأحجام ومستويات عالية جداً ولا تستطيع خفض انبعاثاتها، فتقوم بالتعاون مع الدول التي انبعاثاتها أقل بكثير من المسموح لها وتشتري جزءاً من هذا الرصيد الكربوني المناخي. وبعبارة أخرى فالدول التي انبعاثاتها مرتفعة جداً ولا تستطيع خفض انبعاثاتها بمستويات محددة لأي سبب من الأسباب فإنها تتمكن من شراء حصة الدول الأخرى التي مستويات الانبعاث فيها منخفضة ومقبولة دولياً، مما يجعلها تحقق أهدافها المناخية التي التزمت بها ضمن خطتها القومية.
وهذا المقترح ليس جديداً على المجتمع الدولي وعمره قرابة ثلاثين عاماً، فهو يقع ضمن المواضيع الموجودة في جدول أعمال الاجتماعات المناخية السابقة، ولكن لم تنجح الدول كالعادة في مثل هذه الاجتماعات إلى الوصول إلى صيغة جماعية مشتركة، وتصور دولي واحد يرضي معظم دول العالم. فهذه الفكرة تم التفاوض عليها في عام 1997 في اجتماع كيوتو في اليابان، حيث وردت في أحد بنود بروتوكول كيوتو تحت مسمى "آلية التنمية النظيفة"(Clean Development Mechanism).
وربما أحد أسباب فشل مثل هذه السوق الكربونية المناخية والتأخر في تفعيلها على المستوى الدولي هو أنها عُرضة للاستغلال غير المشروع من قبل بعض المحتالين للكسب الحرام السريع والوفير في التسويق لمشاريع وهمية لا وجود لها، أو تضخيم قدرة وإمكانات المشروع في نسبة خفض انبعاث الملوثات. وهذا بالفعل ما حدث لرجل الأعمال الأمريكي "كينيث نيوكومب"(Kenneth Newcombe) الذي أُدين في محاكم نيويورك في الولايات المتحدة بتهم الاحتيال والتلاعب في أرصدة الكربون في 4 أكتوبر 2024 في أفريقيا وآسيا، حسب المنشور من "وكالة بلومبيرج"، إضافة إلى المقال المنشور في صحيفة "يابان تايمس" اليابانية في 19 نوفمبر 2024، تحت عنوان: "هل ينجح اجتماع الدول الأطراف في اتفاقية التغير المناخي في ابعاد الشبهات عن فضائح تعويضات الكربون؟"، إضافة إلى البحث المنشور في مجلة(Nature Communications)في 14 نوفمبر 2024 تحت عنوان: "تقييم منهجي لإنجازات خفض الانبعاث من مشاريع أرصدة الكربون".
ولذلك فمن الواضح في تقديري أن سوق الكربون الدولي هي أداة احتيال غربية بحتة، وآلية تستخدمها الدول الغنية المتقدمة وشركاتها الملوثة للبيئة منذ أكثر 200 عاماً للالتفاف على مسؤولياتها التاريخية في خفض الانبعاث من الملوثات من مصادرها في دولهم، وبالتالي توفير مبالغ مالية كبيرة تسمح لهم بمواصلة النمو وتحقيق الازدهار الاقتصادي مثل العقود الماضية، وكأن شيئاً لم يتغير عليهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق