الخميس، 5 يناير 2012

فيلم هتشكوك المرعب


 عندما كنت صغيراً في السن، وبالتحديد في مايو عام 1963، تم عرض أحد أشهر الأفلام السينمائية لمخرج الأفلام ألفرد هتشكوك (Alfred Hitchcock) الذي كسب سمعة عالمية في إخراجه لأفلام الرعب والإثارة والخوف، وهذا الفيلم الذي عُرض لسنواتٍ طويلة وحقق انجازات كبيرة في عالم السينما في ذلك الوقت ونال العديد من الجوائز، يعرفه الجميع حتى يومنا هذا، وهو فيلم الطيور.

فقد نقش في مخيلتي بعض المناظر المفزعة التي ظهرت في الفيلم، منها مشهد آلاف الطيور وهي تنزل كنزول المطر على المنازل في الحي، فتهز الأسطح، وتكسر النوافذ، وتدك الأبواب، فيقشعر لها جلود أصحاب هذه المنازل في المدينة ويصل بهم درجة الخوف والفزع في إصابتهم بالجنون وارتفاع أصواتهم وسقوطهم على الأرض مغشياً عليهم.

وهذا الفيلم لم يكن كله من نسج الخيال ومن إيحاءات كاتب هذه الرواية، أو من إبداعات هتشكوك في إحداث الرعب والفزع في قلوب المشاهدين، وإنما الكثير منه استخلص من مشاهد حية وقعت فعلاً في بعض المدن في الولايات المتحدة الأمريكية، منها ما وقع على الشواطئ الشمالية لولاية كاليفورنيا في 18 أغسطس عام 1961، في خليج مونتري(Monterey Bay)، حيث استيقظ سكان مدينة كابيتولا(Capitola) على أصواتٍ مخيفة جداً، أصواتٍ قوية ومستمرة تضرب أسطح منازلهم، فشاهدوا من خلال النوافذ منظراً غريباً لم يرونه قبل حتى في أحلامهم، فقد رأوا بأم أعينهم الآلاف من طيور النورس وهي في حالة هجوم مباشر على منازلهم، وشاهدوا هذه الجماعات الكثيفة من الطيور وهي تسقط صرعى على أسطح منازلهم، وكأنها عملية انتحارٍ جماعي لهذه الطيور. 

وهذا المنظر المرعب والغريب تكرر عدة مرات في الخليج نفسه، منها حادثة الموت الجماعي لطيور البجع في عام 1991، عندما شاهد سكان المدينة هذه الطيور وهي تتصرف بجنون وبطريقة غير عادية ثم تسقط على الأرض وتموت.

ولكن ربما يسأل القارئ، ما الذي ذكرني اليوم بفيلم الطيور، وبهذه الحوادث التي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الطيور؟

منذ عام 1961، عندما وقعت كارثة موت الطيور الأولى، والعلماء في حيرة من أمرهم، والدراسات والبحوث حول الأسباب وفك شفرات هذا اللغز لم تتوقف، فالإدعاءات غير العلمية والخيالية زادت منذ ذلك الوقت، حتى جاء الخبر اليقين من علماء الأحياء البحرية في جامعة ولاية لويزيانا الأمريكية، حيث أكدوا أن هذه الطيور كانت ملوثة بمادة كيميائية حامضية سامة للإنسان والحياة الفطرية وتتلف أعصاب المخ، وهي حمض الدوميك(domoic acid)، ونشروا نتائج دراستهم في مجلة “طبيعة علم الأرض”(Nature Geoscience) في العدد الصادر في يناير 2012، تحت عنوان: “الغموض وراء طيور هتشكوك”. 

فقد قام هؤلاء العلماء بتحليل عيناتٍ من أمعاء هذه الطيور، وعينات من السلسلة الغذائية التي تعيش عليها، مثل الكائنات النباتية العالقة في الماء كالطحالب، والأسماك بمختلف أحجامها، فأكدوا أن هذه الكائنات النباتية والحيوانية التي هي جزء من غذاء الطيور ملوثة بحمض الدوميك، ولكن من أين جاء هذا الحمض السام ليلوث الطيور؟

فالتحريات المخبرية التي قام بها العلماء ومراقبتهم لتحركات هذا السم في السلسلة الغذائية، أكدت أن مخلفات المزارع ومياه المجاري التي تصرف في البيئة الساحلية تؤدي إلى الطفرة الشديدة في نمو الطحالب الخضراء والحمراء التي تفرز سموماً وملوثات تؤثر على الأعصاب، من بينها حمض الدوميك، الذي ينتقل مع الوقت من هذه الطحالب التي لا ترى بالعين المجردة إلى المحار وسرطان وبلح البحر، ثم إلى الأسماك، وأخيراً إلى الطيور والإنسان الذي يتغذي على المحار والأسماك الملوثة، فإما أن تسبب له الأمراض الحادة، وإما أن تلقيه صريعاً ميتاً لا حول له ولا قوة.

وخلاصة القول فإن هذا الموت الجماعي للطيور والذي ظهر في فيلم هتشكوك يؤكد على حقيقة علمية تحدثت عنها كثيراً وهي أن التلوث يبدأ بالإنسان، فهو مصدر التلوث الرئيس، وهو أول من يتضرر من هذا التلوث.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق