الجمعة، 2 مارس 2012

جريمة لا تنسى ولا تغتفر


كتَبتْ هيئة التحرير في صحيفة الواشنطن بوست في 8 فبراير 2012 مقالاً تحت عنوان: “على أمريكا أن تُقدم المزيد لجمهورية جواتيمالا بسبب الدراسة التي أجرتها حول الأمراض المعدية جنسياً”.

هذا المقال يتحدث عن تجربةٍ غير أخلاقية وتتنافى مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان، قامت بها الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة في وزارة الخدمات الصحية العامة في الفترة من 1946 إلى 1948 على أكثر من 5100 إنسان في جواتيمالا بينهم رجال ونساء وأطفال، منهم من كان سجيناً ومنهم من كان جندياً ومنهم أيضاً الأطفال اليتامى الذين كانوا يعيشون في دور الأيتام، حيث قام الأطباء الأمريكيين بحقنهم بشكلٍ متعمد وبالقوة بسوائل تحتوي على جراثيم معدية تسبب أمراضاً جنسية للإنسان كمرض السيفلس، فكانت الحصيلة النهائية موت أكثر من 83 منهم وإصابة الآخرين بأمراض مزمنة عانوا منها طوال حياتهم، ومنهم من مازال حياً ليُقدم شهادة حية على ما قامت به هذه الأيدي الآثمة.

ولست أنا من يصف هذه التجارب السرية بغير الإنسانية والمرعبة، وإنما شهد على ذلك شاهد من أهل أمريكا، من بني جلدتهم ويتحدث بألسنتهم، ومن أعلى سلطة في أمريكا وهو الرئيس باراك أوباما.

فبعد اكتشاف هذه العملية من قبل باحثة أمريكية متخصصة في التاريخ الطبي من كلية ويلسلي في عام 2009، قامت بفضح هذه الأبحاث الشنيعة وتقديم نتائج بحثها في مؤتمرٍ علمي، ثم نشرها في مجلة الطبيعة في أكتوبر 2010، مما اضطر الإدارة الأمريكية رغماً عنها إلى اتخاذ موقفٍ محددٍ وواضح من هذه العملية الإجرامية والمنافية لأسس وقواعد البحث العلمي والعلاقات الإنسانية بين البشر.

ففي 1 أكتوبر 2010 اعترف الرئيس أوباما بوقوع هذه الحادثة المخزية، واعتذر رسمياً لرئيس جواتيمالا في مكالمته الهاتفية التي عَبَّر فيها عن أسفه الشديد لشعب جواتيمالا وكافة المتضررين من التجارب المفزعة والقاتلة التي أُجريت عليهم. 

كما جاء هذا الاعتذار أيضاً على لسان وزيرة الخارجية ووزيرة الصحة والخدمات الإنسانية من خلال بيانٍ مشترك جاء فيه: “الدراسة التي أُجريت من الواضح جداً أنها غير أخلاقية، وبالرغم من أن هذه الأحداث وقعت قبل أكثر من 64 سنة، إلا أننا غاضبون من أن هذا البحث الذي يستحق الشجب، يُجرى تحت إشراف إدارة الصحة العامة. نحن نتأسف بشدة من وقوعها، ونعتذر لكل الأفراد الذين تضرروا من هذا البحث الممقوت”. 

والجدير بالذكر أن أمريكا تحت شعار “البحث العلمي” لا تجري دراساتها الميدانية والإكلينيكية على الشعوب المستضعفة والفقيرة فحسب، وإنما تجريها أيضاً على شعبها ومواطنيها. فقد كشفت الوثائق التاريخية الطبية أنها قامت ببحوث سرية تحت عنوان:“دراسة تسكيجي للسفلس”، حيث تَركتْ عمداً في الفترة من 1932 إلى 1972 أكثر من 600 من المواطنين الأمريكيين الفقراء والمستضعفين من أصل أفريقي في ولاية ألباما والمصابين بأمراضٍ جنسية لأكثر من 40 عاماً دون علاج وذلك من أجل التعرف على أعراض المرض في مراحله المختلفة حتى مرحلة الموت.

ونظراً لفظاعة هذه الدراسة، اعتذر الرئيس الأسبق بل كلينتون في 16 مايو 1997 عن هذا العمل غير الأخلاقي وقال أمام ثمانية من الضحايا الذين عانوا من هذه الجريمة ومازالوا على قيد الحياة: “إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية قامت بشيء خاطئ.. خاطئ أخلاقياً وبشدة، ويتنافى مع التزامنا بالنزاهة والمساواة بين جميع المواطنين”.

ولذلك فإنني أُنبه الشعوب والحكومات من الحذر الشديد عند التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، سواء في المجالات العلمية البحثية أو المجالات الأخرى، فهي في كل الأحوال ترعى مصالحها فقط، والغاية عندها تبرر الوسيلة، ولا يرقُبون في أحدٍ إلاً ولا ذمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق