الجمعة، 8 نوفمبر 2013

الرصاص يحمي صحتك!

لا بد من أنك استغربت كثيراً عند قراءتك لعنوان هذا المقال، وأثار لديك سؤالاً مشروعاً هو: كيف يكون عنصر الرصاص المعروف تاريخياً بسُميته الشديدة للإنسان والكائنات الحية الأخرى واقياً لصحة الإنسان؟

في الحقيقة أن هذه الجملة، أو هذا العنوان الغريب:”الرصاص يساعد على حماية صحتك“، قرأته في مجلة ناشينالجيوجرافيك(National Geographic ) في العدد الخامس من المجلة، والمنشور قبل نحو قرنٍ من الزمان، وبالتحديد في نوفمبر 1923، وهذه المجلة العريقة والعلمية تعتبر منذ أكثر من قرنْ من أفضل وأرقى المجلات البيئية والمهتمة بحماية الحياة الفطرية وإنمائها على مستوى الكرة الأرضية، ولذلك كيف توافق مثل هذه المجلة التي تدافع عن حقوق البيئة وتهتم بصحة الإنسان والحياة الفطرية أن تنشر مثل هذا الخبر؟

لقد جاء هذا العنوان على شكل مقالٍ دعائي إعلامي من شركة إن إل الصناعية، أو الشركة الوطنية للرصاص(NL Industries) في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تقوم بصناعة وإنتاج أصباغ وألوان من الرصاص المستخدمة في الدهان المنزلي، حيث أكد المقال على أهمية الرصاص بالنسبة لــ الحياة العصرية للمواطن الأمريكي، ودوره في تحسين المعيشة للفرد والمجتمع، وتطوير أسلوب الحياة الراقية والمتحضرة.

ولم يكن هذا المقال هو الوحيد من نوعه الذي يُمجد فيه هذا المنتج الجديد الذي دخل الأسواق ويمدح مميزات الرصاص ويصف خصائصه الفريدة التي لا يمكن أن يستغني عنها الإنسان العصري، فقد تكررت مثل هذه المقالات الإعلانية عدة مرات في هذه المجلة المرموقة وفي الصحف الأمريكية. فجميع هذه المقالات ركزت على ثقافة استخدام منتجات الرصاص العصرية في تلك المرحلة الزمنية من تاريخ أمريكا، فالمنتجات التي تحتوي على الرصاص، أو إنها كلياً مصنوعة من الرصاص دخلت في كافة مناحي الحياة، وأصبحت جزءاً مهماً في حياة الإنسان الأمريكي، وتم إقناعه من خلال هذه المقالات الدعائية في أنبل المجلات والصحف أن هذه المنتجات كالفانوس السحري الذي نزل على الأمريكيين، والذي سيغير حياتهم نحو الأفضل، ويجعلها أكثر رفاه وراحة وأمناً.

فالرصاص يوجد في أوني ومستلزمات المطبخ، والرصاص يدهن به المنزل باللون الأبيض الناصع الجميل، والرصاص موجود في أدوات ولوازم الحمامات والأثاث المنزلي، وهو نفسه في جازولين السيارات والبطاريات والإطارات، كما هو موجود في ألعاب الأطفال ومستلزمات الزينة والجمال للمرأة العصرية المثقفة، والرصاص تصنع منه أنابيب المياه، فالرصاص في كل مكان ولا حياة عصرية بدونه، حتى إنه تحول إلى مكونٍ رئيس من ”الثقافة الأمريكية“. 

ولكن بعد فترة زمنية ليست ببعيدة تحول السحر على الساحر، فهذا الرصاص الأعجوبة ومنتجاته السحرية الضرورية لحياة المواطن الأمريكي العصرية، تحولت إلى لعنةٍ صحيةٍ مزمنة، فقد تغلغل الرصاص في أعماق مكونات البيئة فدخل إلى جسم الإنسان وتراكم في أعضائه، ونزلت عليه الأمراض والأسقام العضال التي لا يمكن علاجها والتخلص منها، والآن وبعد عقود من العهد الذهبي للرصاص، نقرأ عن مقالات تندد باستخدام الرصاص وتدعو إلى التخلص منه نهائياً من جميع المنتجات.

فهذه ”الدورة“ للمنتجات التي تُسوق بين الحين والآخر بأنها الحل الأمثل للبشرية، وأنها المنتجات التي لا غنى عنها للإنسان، قد تكررت عدة مرات منذ الثورة الصناعية الأولى، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، السجائر التي دخلت إلى الأسواق بأنها المنتج الفريد الذي يعطي للرجل رجولته وهيمنته، وأنها للرجل العصري المتحضر، وأن لها فوائد جمة تظهر مع الوقت، ثم هناك مادة ”التفلون“ وهي المادة التي تتحمل الحرارة ولا يلتصق بها أي شيء، فاستخدمت في كافة مستلزمات الطهي والمطبخ وفي الأنابيب والآلات، وتم تسويقها بأنها منتج القرن العشرين، وما إلى ذلك من المنتجات التي نعرف الآن يقيناً بأنها تضر بالإنسان أكثر مما تنفعه، وعَرَّضت صحة الإنسان لمخاطر جسيمة تعاني منها أجيال من البشر.  

ولذلك لا بد من توخي الحذر الشديد عند سماعنا عن أي منتجاتٍ جديدة نزلت في الأسواق، فلا ننجر وراءها ونتسرع في إدخالها في حياتنا ومنازلنا، ولا ننخدع ببعض المقالات ”العلمية“ التي تُمول من قبل هذه الشركات لتسويق منتجاتها وإقناع الناس بأهميتها وفوائدها، فالتاريخ يعيد نفسه، وعلينا أن نتعظ بالتاريخ قبل أن يتعظ التاريخ بنا.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق