الأحد، 3 نوفمبر 2013

شللٌ في الصين


ليست هذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها ونقرأ عن شللٍ تام يصيب كافة مرافق الحياة في بعض المدن الصينية العريقة والمعروفة بنشاطها التنموي الواسع وازدهارها الاقتصادي المشهود، ولكن هذه المرة كانت كالضربة القاضية التي أوجعت كثيراً فأردت حركة الحياة وأنشطة الإنسان اليومية صريعة ميتة لا روح لها.

 

فالضباب الكثيف الذي نزل مؤخراً على عدة مقاطعات في الصين وبالتحديد في المناطق الشمالية الشرقية، وحَمَل في بطنه الآلاف من الملوثات المسرطنة والسامة، جثم فوق صدور الصينيين وقلوبهم لأكثر من أسبوعٍ طويلٍ وثقيل، فاضطرت الجهات الحكومية الرسمية المعنية في رصد الطقس اليومي والمناخ إلى رفع الأعلام الحمراء، وتوجيهِ تحذيرٍ قوي إلى الناس عن خطورة التعرض للملوثات الموجودة في الضباب، فأدى استمرار هذا الضباب المرعب إلى وقوع شللٍ كلي للحياة العامة في هذه المقاطعات وتوقف نبض قلب الحياة فيها، ومن أكثر المدن في هذه المقاطعات المنكوبة تضرراً بهذا الضباب المخيف هي مدينة هاربن (Harbin) عاصمة مقاطعة هيلونجينج(Heilongjiang province) التي يسكنها قرابة 11 مليون صيني.

 

فبعد نزول هذه السحب الكثيفة والضباب المميت على مستويات منخفضة من سطح الأرض، انحجبت أشعة الشمس عن المدن، وحَلَّ الظلام، وانعدمت الرؤية، فتحول الصبح مساءً والنهار ليلاً، وتعطلت الحركة المرورية في كافة أرجاء هذه المدن، وازدحمت الشوارع الرئيسة بالسيارات وتكدست في الطرقات العامة فتوقفت حركتها تماماً. وفي الجانب الآخر توقفت حركة القطارات بين المدن، وأَغلقت المطارات أبوابها وتوقفت حركة الطيران فتأخرت كل الرحلات الجوية، وبقي الملايين من الناس متجمعين في المطارات لعل الحركة الجوية تستأنف ولو بعد حين.

 

ومع توقف حركة المرور في الشوارع ووقوع شلل في حركة الطائرات، لم يتمكن الملايين من الناس إلى الوصول إلى مواقع أعمالهم وتجاراتهم، مما اضطرهم إلى البقاء في منازلهم، كما أعلنت السلطات الرسمية في الدولة إغلاق المدارس الابتدائية والإعدادية ودور حضانة الأطفال، وحثت الأطفال والمسنين على البقاء في بيوتهم تجنباً للتعرض لهذه السموم القاتلة، فقد أكدت أجهزة قياس الدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي يصل قطرها إلى أقل من 2.5 ميكروميتر على أن التركيز في الهواء الجوي بلغ نسبة عالية جداً وصل إلى1000 ميكروجرام من الغبار في كل متر مكعب من الهواء، أي أعلى من مواصفات منظمة الصحة العالمية بأكثر من 40 مرة.

 

وكل هذه المظاهر التي شاهدناها بسبب تلوث الهواء انعكست بشكلٍ مباشر على صحة الناس، فقد أفادت التقارير أن عدد الناس الذين دخلوا المستشفيات أثناء نزول الضباب القاتل زاد بنسبة 30% وهم يعانون من آلام في الصدر، وحرقة في العين، وضيق في التنفس، وأمراض القلب المختلفة، كما أن الكثير من الناس أصابتهم نوبة من الهلع والخوف من شدة تأثير هذا التلوث على الآخرين ومشاهدتهم سقوط الضحايا أمام أعينهم.

 

فهذه الكوارث البيئية والبشرية التي تنزل على المدن الصينية الصناعية العريقة بين الحين والآخر تؤكد لي أن هناك خللاً في نمط التنمية الذي تتبعه الصين، وأن هناك خطأً جسيماً في سياساتها التنموية وأسلوب ومنهجية قيامها وتنفيذها للأنشطة التنموية بكافة أنواعها وأشكالها.

 

فالصين كغيرها من الدول النامية أرادت أن تلحق بسرعة بقطار التنمية الذي بدأ خط سيره في الدول الغربية، فتبنت سياسة متطفرة تنظر إلى النشاط التنموي بعينٍ واحدة، فانصب جل تركيزها واهتمامها على التنمية الاقتصادية وتحقيق ازدهار مالي عظيم، فتمكنت خلال عقود قليلة من الزمن على تحقيق ما تصبوا إليه من نموٍ اقتصادي مشهود لا مثيل له. ولكن في المقابل دمرت وأفسدت بيئتها كلياً وسممت الهواء والماء والتربة، وانعكست مردودات هذا النمط المعوق من التنمية بشدة على صحة كافة المواطنين، فاهتز المواطنون دفاعاً عن صحتهم وبيئتهم وخرجوا في مظاهرات عنيفة يطالبون بتغيير هذا الأسلوب التنموي الأعمى وغير المستدام.

 

واستجابة للضغط الشعبي، اضطرت الحكومة الصينية إلى تعديل سياساتها التنموية لتكون أكثر رفقاً وعناية بالأمن الصحي للإنسان وبيئته.

 

ولكن السؤال الذي أطرحه هنا على الجميع: أليس من الأولى والأجدى اقتصادياً وبيئياً أن نُدخل البعد البيئي والصحي منذ أول خطوة تنموية نقوم بها حتى لا نضطر إلى صرف البلايين على علاج المرضى من التلوث وعلاج الخراب والدمار الذي حل بمكونات البيئة؟

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق