الخميس، 29 سبتمبر 2016

بعد فضيحة الرصاص في مياه الشرب في أمريكا تنكشف فضيحة أخرى



لا أدري كيف تُصنَّف دولة في العالم بأنها متقدمة ومتطورة جداً، وأنها دولة عظمى، وبلغت أعماق الكون السحيقة، وسبرت أغوارها البعيدة، واكتشفت خفاياها وأسرارها الدفينة، وفي المقابل لم تنجح هذه الدولة المتقدمة نفسها، وهي الولايات المتحدة الأمريكية من توفير أبسط احتياجات الإنسان التي لا حياة بدونها، وهي مياه الشرب الآمنة والصحية والسليمة لجميع أفراد المجتمع؟

فقد نشرتُ مقالاً في أخبار الخليج في 18 يوليو من العام الجاري تحت عنوان:" 18 مليون أمريكي يشربون ماءً مسموماً بالرصاص"، لأُقدم فيه الدليل العلمي الميداني المشهود على هذه الفضيحة الكبرى، وهذا التأخر الفاضح الذي لا يليق بدولةٍ متطورة تُعد أقوى دولة في العالم مثل أمريكا، في مجال حقوق المواطن الأساسية في الحصول على ماء الشرب الصحي، واستندتُ في مقالي على التقارير العلمية المنشورة في الولايات المتحدة الأمريكية ومن جهة حكوميةٍ رسمية هي وكالة حماية البيئة.

وقد ظَننتُ أن هذه الكارثة البيئية الصحية مُقتصرة على عنصر الرصاص السام فقط، وإذا بي اليوم أقف أمام تقريرٍ آخر يفضح رجعية وتأخر الولايات المتحدة الأمريكية، ويُقدم الدليل العلمي المـَخْبري على وجود مادة مسرطنة في مياه الشرب التي يشربها قرابة 218 مليون أمريكي، أي أن هذا العدد الضخم من المواطنين يشربون في كل ساعة من اليوم من مياه الحنفية الموجودة في منازلهم، ويُدخلون في أجسامهم هذا السُم القاتل، مما يعني أن هذا العدد الكبير من الأمريكيين سيعانون مستقبلاً من تهديد الوقوع في فَك مرض السرطان يوماً ما!

فقد نَشرتْ جمعية أهلية مستقلة تهدف إلى حماية صحة الإنسان والبيئة، وتُطلق على نفسها المجموعة العاملة البيئية(Environmental Working Group) تقريراً مخبرياً في 20 سبتمبر من العام الحالي، وقَدمتْ فيه نتائج تحليل أكثر من ستين ألف عينة من مياه الشرب المأخوذة من جميع الولايات الأمريكية، وأكدت النتائج أن زُهاء 75% من هذه العينات، والتي تمثل قرابة 218 مليون أمريكي، كانت مسمومة بالكروميوم الذي يسبب عدة أنواع من السرطان للإنسان، وبتركيز يصل إلى أكثر من 0.02 جزءاً من الكروميوم في البليون جزء من ماء الشرب، أي أعلى من النسبة المسموح بها في مياه الشرب.

وقد تناقلت الصحف الأمريكية هذا التقرير الخطير وقامت بالتحقيق فيه ونشره إلى الرأي العام الأمريكي، كمجلة النيوز ويك الأمريكية التي قَدَّمتْ تحليلاً وافياً وشافياً لمحتويات هذا التقرير في العدد المنشور في 20 سبتمبر.

وهذا الاكتشاف الجديد يحيي في ذاكرة الأمريكيين شبح كارثة بيئية صحية وقعت مشاهدها في التسعينيات من القرن المنصرم، فهناك تاريخ عميق محفور في شرايين المجتمع الأمريكي مع عنصر الكروميوم، حتى أنه دخل عالم السينما عن طريق هوليود في الفيلم الذي خَلَّد ذكرى هذه الكارثة وعنوانه:"(ErinBrockovich). فقد نزلت هذه الطامة الكبرى على سكان مدينة هنكلي(Hinkley) في ولاية كاليفورنيا بسبب صرف مصنع لتوليد الكهرباء لمخلفات سائلة تحتوي على الكروميوم إلى المياه الجوفية المستخدمة للشرب، والذي أدى مع الوقت إلى إصابة السكان بالسرطان وارتفاع حالات الإجهاض عند النساء وولادة الأطفال المشوهين خَلقياً، مما أجبر المتضررين إلى رفع دعوى قضائية في المحكمة، حيث اتخذت المحكمة بعد سنواتٍ من معاناة المواطنين، وبالتحديد عام 1996 حكماً بتعويضهم بمبلغ قدره 333 مليون دولار.

ومع هذا الاكتشاف الجديد، مازالت تداعيات تغلغل الرصاص السام في مياه الشرب الأمريكي تثير غضباً وخوفاً وقلقاً شديداً عند المجتمع الأمريكي بسبب تكرار الحوادث المتعلقة بتلوث مياه الشرب، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وحسب التقرير المنشور في المحطة الإخبارية سي إن إن في الأول من سبتمبر من العام الحالي، تم إخلاء مجمعٍ سكني ضخم بُني عام 1972 في مدينة إيست شيكاغو(East Chicago) بولاية إنديانا(Indiana) من جميع السكان الذين يبلغ عددهم 1100 أمريكي، واضطروا إلى هَجر منازلهم وشِقَقهم في الأول من سبتمبر من العام الجاري، والبحث عن مساكن مؤقتة بديلة، وذلك بعد اكتشاف نسبٍ مرتفعة من الرصاص السام في التربة المحيطة بالمنزل والتي يلعب فيها أطفالهم، والاكتشاف الأخطر من هذا كله هو انعكاس وجود الرصاص في التربة في دِماء فلذات أكبادهم من الأطفال وبنسبٍ مرعبة تهدد حياة هؤلاء الأطفال بالأمراض الجسمية والعقلية.

وإنني أتساءل الآن إذا كانت مثل هذه الفضائح الصحية والبيئية تقع في دولة كبرى وعظمى ومتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، فكيف سيكون حال البيئة والناس في دول العالم الثالث النامي والمتخلف؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق