الأحد، 18 ديسمبر 2016

الاتحاد الخليجي البيئي فَرضُ عَينْ





مازلتُ أتذكر الحَدَث التاريخي غير المسبوق، والكارثة البيئية الصحية العصيبة التي نزلت على الكويت خاصة ودول الخليج عامة أثناء الغزو العراقي للكويت عام 1991، والتي تمثلت في عدة مظاهر خطيرة منها فتح أبواب نارِ جهنم من خلال حرق أكثر من 800 بئرٍ نفطي، ومنها هدم صمام الآبار النفطية للسماح للزيت الخام بالدخول إلى مياه الخليج العربي.

أما الكَرْبْ العظيم الأول الذي هزَّ الكويت والعالم أجمع فلم يشهد له التاريخ مثيلاً، ولا أظن بأن التاريخ سيشهد يوماً ما أيامٍ نحساتٍ عظيمة كالتي نزلت على الكويت والخليج بسبب حرق الآبار النفطية وتلويث السماء بغَماماتٍ سوداء مرعبة أَلْقت الفزع والهلع في نفوس الناس في الكثير من دول العالم، حتى إنها انتقلت من سماء الكويت فبلغت أعالي جبال الهمالايا ووصلت إلى اليابان وهاواي. وكُنْت شخصياً ممن رأيتُ هذه السحب المرضية القاتلة في البحرين والتي حولت النهار ليلاً أيام قَيْظ الصيف وغيَّرت من درجة حرارة الجو، بل وأَمطرتْ السماء ماءً أسود اللون، لوَّث الإنسان، والأرض، والبحر.

والطامة الكبرى الثانية تمثلت في فتح حنفيات مخازن الزيت الخام في ناقلات النفط العملاقة الراسية في ميناء الأحمدي بالكويت وفي الآبار النفطية الواقعة بالقرب من السواحل، والتي نجمت عنها بحيرات نفطية في البر والبحر لم ير العالم مثيلاً لها من قبل، وهذه البحيرات النفطية في مياه الخليج العربي لم تراوح في مكانها في سواحل الكويت وإنما لوثت المياه، وسممت الأسماك والحياة الفطرية الأخرى على سواحل دول الخليج الأخرى كالسعودية والبحرين وقطر.

هذه النازلة التي حَلَّت بالكويت والخليج، والتي شهدناها جميعاً، إضافة إلى حوادث أخرى مماثلة أقل حِدة علينا وعلى بيئتنا تؤكد بأن الخليج خاصة، سواء في بيئة الهواء الجوي أو البيئة البحرية، يعتبر منطقة واحدة مترابطة ومتصلة ببعض ولا يمكن فصلها أو عزلها عن بعض، فهي كجسم الإنسان إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. فأية دولة من دول الخليج لن تتمكن، مهما بذلت من جهود من العمل لوحدها للحفاظ على هوائها، إذا لم تحافظ الدول الأخرى على هوائها أيضاً، وفي المقابل لا يجدي عملياً لدولة واحدة أن تعمل بعيداً عن تعاون الدول الخليج لحماية بيئتها البحرية الساحلية وغير الساحلية والحياة الفطرية فيها، إذا لم تقم الدول الخليجية الأخرى بحماية سواحلها من التلوث في الوقت نفسه.

وهذه ليست بدعة جديدة، أو فكرة مستحدثة غريبة، وإنما الواقع والضرورة يحتمان علينا أن نتوحد بيئياً ونُكوِّن "الاتحاد الخليجي البيئي"، بل وفي الواقع العملي نجد أن بعض الدول التي بينها عداوات مُعلنة، أو نزاعات حدودية مزمنة، يُجبرون على الجلوس مع بعض على طاولة واحدة لحل القضايا البيئية المشتركة، فيَنْسون كل خلافاتهم ونزاعاتهم السياسية والأمنية. فعلى سبيل المثال، اتحدت الصين، وكوريا الجنوبية، واليابان بيئياً، وذلك بالرغم من خلافاتها السياسة، والأمنية، والفكرية عبر العصور، فعقدت اتفاقية ثلاثية مشتركة وملزمة تهدف إلى خفض نسبة انبعاث الملوثات التي تنطلق إلى الهواء الجوي من الدول الثلاث، إضافة إلى منع صرف المخلفات السائلة إلى الأنهار والبحار والبحيرات التي تشترك فيها مع بعض في الحدود الجغرافية.

ولذلك كما أننا ندعو إلى اتحادٍ سياسي وأمني واقتصادي خليجي لحماية أراضينا وشعوبنا من أي عدوٍ محتمل يغزو بلادنا أو يتعدى علينا، فإن هناك حاجة ماسة وضرورة ملحة الآن للاتحاد الخليجي البيئي لحماية بيئتنا من عدوٍ آخر شرس لا يخفى على أحد وهو التلوث. فهذا العدو يجب أن لا نتهاون معه ولا نستصغر قوته على التدمير الشامل، فهو لا يمكن إيقافه من قبل أي دولةٍ لوحدها مهما كانت قوتها وعظمتها وعدتها وعتادها، ومهما كانت لديها من أجهزة متطورة، ومعدات حديثة، وذخائر ثرية، فهذا العدو، كما هو معروف للجميع، لا تنفع معه المعدات الحربية العسكرية من دبابات وصواريخ وطائرات وقنابل نووية أو تقليدية، فهو لا يَعْرف الحدود الجغرافية المـُصْطنعة، بل ولا يعترِفُ بوجودها، فينتقل بكل سهولةٍ ويُسر من دولةٍ إلى أخرى ومن منطقةٍ إلى أخرى، ويزحف من مكانٍ إلى آخر دون حسيبٍ أو رقيب، فيضرب ضربةً موجعة وقاسية في أية دولةٍ أو منطقةٍ ينزل عليها، فيُهلك الحرث والنسل، ويقضي على الأخضر واليابس، ويُفسد ويدمر كل شيء يقف في طريقه من إنسانٍ أو نباتٍ أو حَجَر.

فالمطلوب إذن في المرحلة الأولى من الاتحاد الخليجي البيئي سن التشريعات البيئية، ووضع الأنظمة اللازمة لحماية الهواء، وماء البحر، والبيئة البرية، ثم متابعة تنفيذ هذه القوانين من قبل الدول، ووضع آلية للمخالفات والعقوبات بحيث تتم محاسبة أية دولة لا تنفذ هذه التشريعات والأنظمة دون مجاملات أو وساطات.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق