الجمعة، 16 فبراير 2018

البلاستيك يقفز في سُلمْ أولويات الدول



المخلفات البلاستيكية فرضت نفسها بقوة على جدول أعمال الحكومات في الكثير دول العالم، فصعدت مع الوقت رويداً رويدا حتى بلغت الآن أعلى سلم أولويات هذه الحكومات وفي مقدمة قائمة البرامج العاجلة للتنفيذ الفوري، ولم يكن هذا ليحدث مع زحمة جدول أعمال الدول وكثرة القضايا الحيوية الجوهرية للدول لولا أن هذه القضية تحولت إلى همٍ شعبي عام وتهديدٍ للصحة العامة للبشر، وشأنٍ حكومي خطير لا يمكن تجاهله، أو تهميشه وتأجيله إلى أجلٍ غير مسمى ووضعه في أرشيف المواضيع المستقبلية.

ففي بريطانيا، على سبيل المثال، أعلنت تِيريزا مَاي رئيسة الوزراء في العاشر من يناير من العام الجاري عن خطة الحكومة البيئية للـ 25 سنة القادمة، حيث تعهدت بأن الحكومة البريطانية ستتخلص بشكلٍ جذري ونهائي من معظم المخلفات البلاستيكية بحلول عام 2024، وحددت الخطة الحكومية هذه المخلفات بأكياس البلاستيك بمختلف أنواعها، وأعواد البلاستيك، والمواد البلاستيكية المستخدمة في تغليف وتغطية المواد الغذائية، وبرَّرت رئيسة الوزراء هذا القرار الحازم والحاسم ضد البلاستيك قائلة: "نحن ننظر إلى الوراء بشيء من الخوف والفزع على التدمير الذي ألحقناه في الماضي إلى بيئتنا".

وعلاوة على هذا وتأكيداً لخطورة المخلفات البلاستيكية وتهديدها المحتوم لصحة الإنسان والحياة الفطرية البحرية والبرية، فقد بدأ في التاسع من يناير من العام الحالي تنفيذ القانون البريطاني المتعلق بمنع نوعٍ خطير من المواد البلاستيكية المجهرية المتناهية في الصغر والتي قد لا تُرى بالعين المجردة ويُطلق عليها "الميكُروبِيدْز"(microbeads)، أو الخَرَز والحبيبات المجهرية، في كافة المنتجات الاستهلاكية كمعجون الأسنان، وكريمات الوجه والجسم واليد، والعلكة، ومنتجات التنظيف المنزلية والصناعية. وجدير بالذكر فإن الولايات المتحدة الأمريكية سَبَقتْ بريطانيا في حظر استعمال الميكروبيدز أو الجسيمات البلاستيكية الدقيقة في منتجات الجمال والصحة الاستهلاكية التي تستخدم بشكلٍ يومي حسب قانون "المياه الخالية من الميكروبيدز" لعام 2015، كما قامت كندا ونيوزلندا ودول أخرى بإصدار تشريعٍ مشابه للقانون البريطاني والأمريكي.

وكل هذه التشريعات في دول العالم جاءت استجابة لنداءات وتحذيرات العلماء ورفعهم للعلم الأحمر منذ عقودٍ من الزمن حول التهديدات العصيبة والمخيفة التي تُشكلها المخلفات البلاستيكية الصغيرة منها والكبيرة على البيئة بشكلٍ عام وعلى صحة البشرية بشكلٍ خاص. وهذه التحذيرات المدوية لم تأت من فراغ، أو من تنبؤات واستشراف المستقبل، وإنما هي وليدة استنتاجات الدراسات الميدانية الواسعة والشاملة التي أُجريت خلال السنوات الماضية، ومبنية على المشاهدات الواقعية للمخلفات البلاستيكية في البحار والبراري وفي كل شبرٍ صغيرٍ كان أم كبير، وفي كل بقعة قريبة أو نائية بعيدة كل البعد عن أي نشاط إنساني، فالمخلفات البلاستيكية دخلت وجثمت الآن في كل مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، وانتقلت مع الوقت إلى أجسامنا وتراكمت في أعضاء أبداننا من حيث ندري أو لا ندري.

ودعوني أضرب لكم بعض الأمثلة الواقعية لأثبت بالدليل المادي المحسوس والقاطع بأن المخلفات البلاستيكية فعلاً نراها في كل مكان، ولو كُنا في بروجٍ مشيدة في أعالي السماء، أي لا توجد بقعة على وجه الأرض في البر أو البحر بمنأى عن التلوث البلاستيكي. فقد أكدت دراسة قام بها المعهد النرويجي لأبحاث المياه ونشرت 27 ديسمبر 2017 أن المخلفات البلاستيكية الدقيقة أو الميكروبيدز موجودة في القواقع البحرية الزرقاء في بحار ومحيطات دول العالم سواء في المواقع البحرية العذراء البعيدة والنائية كبحار القطبين الشمالي والجنوبية أو البيئات البحرية الواقعة على المدن الرئيسة، ووجود هذه المخلفات في القواقع يعد أحد المؤشرات القوية على تلوث البحر بالبلاستيك وانتقال البلاستيك في السلسلة الغذائية البحرية التي تنتهي بالإنسان. كذلك اكتشفت إحدى الدراسات المنشورة في 16 نوفمبر 2016 اكتشافاً غريباً تقشعر لها جلود الأبدان حيث وجدت مخلفات بلاستيكية في أمعاء القشريات التي تعيش في أعماق  المحيطات السحيقة وفي الظلام الدامس الحالك والماء البارد حيث تنعدم الرؤية ولم تصل إليها أيدي البشر، وبالتحديد في أعمق بقعة بحرية على وجه الأرض وهي أخدود أو خندق ماريانا(Mariana Trench) المعروف في المحيط الهادئ،وعلى بعد أكثر من عشرة آلاف متر، أو عشرة كيلومترات تحت سطح البحر.

فالمخلفات البلاستيكية إذن موجودة في كل مكانٍ في كوكبنا، وجميع الدول مسؤولة عن هذا التلوث البلاستيكي، والجميع معني بالمساهمة في علاج هذه الكارثة البيئية الصحية العصيبة، وواجبنا في البحرين تحمل مسؤولياتنا مع المجتمع الدولي، والعمل على اتخاذ خطوات محددة للمساهمة في الحل ومواكبة المستجدات والمتغيرات في مجال التعامل مع المخلفات البلاستيكية. فعلى سبيل المثال، علينا توجيه الجهات المختصة إلى منع استيراد المنتجات التي تحتوي على "الميكروبيدز"، والتفكير في إصدار تشريعات تهدف إلى خفض إنتاج المخلفات البلاستيكية من مصادرها المختلفة من جهة، والعمل على إعادة استعمالها وتدويرها من جهةٍ أخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق