الثلاثاء، 15 يناير 2019

لماذا تصر الدول على خوض التجارب الفاشلة؟


مهما كَتَبنا وقُلنا وصرخنا فإن الدول الناشئة والنامية التي تأخذ طريقها نحو التقدم والتنمية ترتكب هذا الخطأ الفادح والعظيم المتمثل في التنمية المتطرفة الأحادية الجانب، أو التنمية المعوقة غير المستدامة، وتُصر على أن تخوض التجربة الفاشلة بنفسها التي خاضتها من قبل الدول الصناعية، فتُعرِّض نفسها بيدها في السقوط في الهفوات والزلات التي سقطت فيها الأمم المعاصرة السابقة، ثم بعد ارتكابها لهذا الإثم الكبير والذنب العقيم، وبعد أن حلَّ الفساد وانتشر في البر والبحر والجو تتراجع هذه الدول إلى الوراء وتبدأ شيئاً فشيئاً بالإصلاح وتبني المنهج المعتدل والوسطي والمستدام في أنشطتها التنموية.

وآخر مثال أستطيع أن أضربه لكم اليوم، ولن يكون حتماً المثال الأخير هو ما حدث في الصين من تغييرات جذرية وجوهرية في سياسات وأنماط التنمية التي تبنتها خلال أكثر من أربعين عاماً، بدءاً من مطلع السبعينيات من القرن المنصرم.

فالصين كانت تُعد من الدول النامية الفقيرة ذي الاقتصاد البسيط والضعيف والمتدهور، حيث تم في عام 1978 تقدير الناتج المحلي الإجمالي للفرد الصيني 156.4 دولار، في حين أن المعدل الدولي كان 1973.79، أما في عام 2017 فقد ارتفع معدل الناتج المحلي الإجمالي للفرد الصيني بنسبٍ عالية جداً لم تكن متوقعة، فأصبح 8826.99 دولار والمعدل العالمي 10714.47، أي بزيادة قدرها 56.4 مرة في الصين مقارنة بـ 5.43 في دول العالم.

فقد نجحت الصين نجاحاً باهراً وفي سنوات قليلة مقارنة بالدول الصناعية المتقدمة الكبرى في تحقيق ما أُطلق عليه بالمعجزة الاقتصادية والطفرة المشهودة في نسبة النمو الاقتصادي والتي ضُربت بها الأمثال بين دول العالم، حيث بلغ النمو أكثر من 12% في سنوات الذروة الاقتصادية.

ولكن السؤال الذي بدأ يطرح نفسه قبل سنوات، وأصبحت الحكومة الصينية والشعب الصيني معاً يحاولان الإجابة عنه هو: هل تمكنت الصين من تحقيق "الاستدامة" من هذا النمو الاقتصادي؟ وهل نجحت الصين في بلوغ أهداف "التنمية المستدامة" التي تُعمِّر ولا تدمر وتنمي ولا تفسد، فتسعى لتحقيق التنمية الاقتصادية جنباً إلى جنب مع التنمية البيئية والاجتماعية؟

فبعد عقود من النمو العشوائي المتسارع وغير الرشيد، تأكد بأن هذا النمو الاقتصادي صاحبه في الوقت نفسه انكماش وتدهور شديد وعميق لم يسبق له مثيل في الجانب البيئي بصفةٍ خاصة، فقد غطى هذا الفساد البيئي كل شبرٍ صغيرٍ أو كبير من البر والبحر والجو وفي أعماق المياه في باطن الأرض، وانعكس هذا التدهور العصيب بشكلٍ قاتل على الإنسان نفسه في كل أرجاء المدن الحضرية الكبيرة. فالتقارير الحكومية الرسمية وتقارير منظمات الأمم المتحدة المعنية مثل منظمة الصحة العالمية أكدت بأن تلوث الهواء فقط يقضي على قرابة مليون صيني سنوياً فيلقون حتفهم مبكراً، حتى أن عُمدة العاصمة الصينية اعترف بهذا الوضع الكارثي للهواء الجوي عندما قال في 28 يناير من 2015 أن: "هواء بكين غير قابل للحياة"، أو بعبارة أخرى هواء العاصمة الصينية لا يمكن العيش فيه بالنسبة للإنسان. كما أن الصين أَقرتْ بوجود أكثر من 500 قرية سرطانية، أي قرى ترتفع فيها مستويات الإصابة بالسرطان نتيجة لتدهور الهواء، والمياه السطحية والجوفية، وتسمم التربة الزراعية. فهذه المظاهر التدميرية التي ألمت بالصين شعباً وبيئة، اضطرت الحكومة الصينية إلى الاعتراف بالخطأ الفادح في نمط التنمية، وألزمتها إلى اتخاذ مواقف جديدة، وتبني سياسات مغايرة جداً للسياسات التنموية السابقة، حتى أن الرئيس الصيني أعلن في عام 2014 ولأول مرة في تاريخ البشرية الحرب رسمياً على هذا العدو الغاشم الذي غزا الشعب والبيئة الصينية، وهو التلوث، كما أن الحكومة الصينية أعلنت خفض مستوى النمو ليبلغ 6.3% في عام 2019 حسب ما ورد في صحيفة يوميات الصين في 25 ديسمبر من العام المنصرم، مقارنة بـ 6.6% عام 2018.

ولكن السؤال الذي يُحيرني دائماً وأرغب في أن أطرحه أمامكم، لماذا لا تُريد الأمم والدول أن تتعلم الدروس الحية من غيرها والتي تراها أمامها، فتأبى أن تتعظ بها وتتجنب أخطائها؟

ولماذا لا تريد الحكومات أن تستفيد من أخطاء الدول الأخرى ومن تجاربها الفاشلة التي مازالت تنبض أمام أعيننا، وليست في صفحات التاريخ الغابرة والقديمة؟

في الحقيقة فإنني أعزو هذه الظاهرة الغريبة وغير المنطقية إلى عدة عوامل منها:
أولاً: سوء الفهم عند رجال السياسة وقادة الدول بأن حماية البيئة والمحافظة على ثرواتها من التدهور الكمي والنوعي تبطئ العملية التنموية، وتُشكل حجر عثرة أمام سرعة انطلاقها في تحقيق النمو الاقتصادي، وتُمثل عائقاً أمام تطور وتقدم الدول.
ثانياً: الاستعجال بشكلٍ عشوائي غير متبصر في تنفيذ البرامج والأنشطة التنموية دون دراسة الانعكاسات التي تنتج عن هذه الأنشطة على نوعية الهواء والماء والتربة والحياة الفطرية النباتية والحيوانية وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على الصحة العامة. 
ثالثاً: هناك انطباع خاطئ عند الكثير من المسؤولين أن إهمال البيئة وتجاهلها أسهل وأسرع في تنفيذ المشاريع، إضافة إلى أنها تكون أقل كُلفة عندما تهمش الاعتبارات البيئية للمشروع.
رابعاً: القضايا والسلبيات البيئية لا تظهر في يوم واحد، أو بين عشية أو ضحاها، وإنما تتراكم مع الزمن وتنكشف على شكل كوارث يصعب علاجها، ولذلك فالقادة لا يحسون بها إلا بعد أن تتفاقم وتقع الطامة الكبرى.

فهل نُكرر في البحرين هذه التجارب التنموية الفاشلة وغير المستدامة، أم إننا نتعظ بالتاريخ قبل أن يتعظ بنا؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق