الخميس، 24 يناير 2019

استنزاف الثروات البحرية وهدر مواردها


تناولتْ وسائل الإعلام خبراً في السابع من يناير من العام الحالي حول تأجيل مجلس الشورى لمناقشة قانون بتعديل قانون تنظيم عملية استخراج الرمال البحرية وبيعها، حيث أقرتْ الحكومة ولأول مرة وبشكل واضح لا لبس فيه بأن المنطقة البحرية الشرقية من جزيرة البحرين والتي تم اعتمادها لسنوات لاستخراج الرمال أصبحت الآن شبه معدومة، أي لا توجد بها رمال كلياً تصلح لعمليات البناء والإنشاء، وأن الحكومة تدرس إيجاد البديل لهذه المنطقة التي تم القضاء عليها.

وهذا التصريح الحكومي والاعتراف الرسمي بنضوب الرمال البحرية بعد أن تم استخراجها واستنزافها لسنوات طويلة، وهدرها بشكلٍ مستمر دون وجود أي رقيبٍ صارم، أو حسيب دائم، يمكن أن نستخلص منه العديد من الاستنتاجات الهامة.

أولاً هو أن التشريع المتعلق بتنظيم عملية استخراج الرمال البحرية وبيعها لا داعي له في المرحلة الراهنة، فقد جاء متأخراً جداً، أو كما يقول المثل "بعد خراب بصرة"، وخاصة بعد أن نفد الرمل تماماً من سواحل البحرين الشرقية، ولذلك لا حاجة مُلحة وعاجلة الآن لعملية تنظيم استخراج الرمل، أو تقنين بيع هذه الثروة البحرية العامة التي هي من المفروض أن تكون ملكاً للدولة ولكل مواطن، فهذا القانون كان ضرورياً ومجدياً لو تم سنه وتطبيقه في السبعينيات من القرن المنصرم.

ثانياً انتهاك حرمات الموارد البحرية المتمثلة في الرمال بهذه الطريقة العشوائية غير المستدامة، واستنزافها خلال فترة قصيرة نسبياً من الزمن، يُعد أفضل مثال أستطيع أن أضربه وأُقدمه للناس بأننا فعلياً لا نُطبق بشكلٍ كامل وفعلي مبادئ التنمية المستدامة التي نرفعها منذ زمن شعاراً وعَلَماً يرفرف في برامج الحكومة وفي أدبياتها ووثائقها الرسمية ونفتخر بها في المحافل الدولية. فلو كُنا نتبع ونطبق سياسة التنمية المستدامة في عمليات استخراج هذه الثروة البحرية لما وصلنا إلى هذا الوضع الحرج، ولكان عطاؤها مازال مستمراً لنا وللأجيال اللاحقة من بعدنا.

فتنفيذ مبادئ التنمية المستدامة التي تستند على ثلاثة أركان رئيسة هي التنمية الاقتصادية جنباً إلى جنب مع التنمية الاجتماعية والبيئية، كانت كفيلة بحماية هذه الثروة البحرية الحيوية لسنواتٍ طويلة، وكانت ضامنة لاستمرارية عطائها دون أن تجف أو تنبض.

فعملية الحفر التي تمت عندنا منذ أكثر من ستين عاماً لم تأخذ في الاعتبار حتى الجانب الاقتصادي، حيث إنها كانت سلعة مجانية، وثروة مستباحة لكل من كانت له القدرة على استخراجها بأسرع وقت ممكن وبأكبر كمية ممكنة، فتسابق الناس إلى هذه الثروة العامة التي لا حامي لها، وأفرطوا في استخراجها بكل الطرق والوسائل المتاحة دون أي اعتبار للدمار الذي تحدثه آليات الحفر العملاقة والضخمة على البيئة البحرية الرملية من جهة وعلى البيئات البحرية الأخرى وثرواتها الحية من جهة أخرى، فحدثت مجازر على مستوى كبير جداً للموارد البحرية الحية من أسماك وربيان وغيرهما التي هي من أساسيات الأمن الغذائي الفطري للبحرين والمورد الوحيد للبروتين المحلي للناس.    

فعمليات حفر البحر في البحرين بشكلٍ عام أُجريت على نطاق بحري واسع ولعدة أغراض، منها استخراج الرمل ونقله إلى المنطقة الساحلية لدفنها حيث إن مساحة البحرين زادت نحو 300 كيلومتر مربع نتيجة لدفن السواحل، أي أن أحجام الرمل التي استخدمت كانت كبيرة جداً، كما أن عمليات الحفر البحري عملت لتوسعة وتعميق القنوات المائية لعبور السفن، أو لعمليات الاستكشاف عن النفط والغاز الطبيعي، وأخيراً أجريت عمليات الحفر لاستخراج الرمل واستخدامه كمادة للبناء. وكل هذه العمليات كانت لها مردودات سلبية طويلة الأمد هددت الثروة البحرية بشكلٍ عام، منها تدهور جودة المياه عن طريق زيادة الرواسب الترابية وارتفاع مستوى عكارة الماء وانخفاض درجة الرؤية، وانعكاس كل هذا على الكائنات البحرية التي كانت تعيش في مناطق الحفر أو بالقرب منها، إضافة إلى ارتفاع ملوحة المياه الجوفية الساحلية بسبب عمليات الحفر، وبالتحديد في المناطق البحرية التي كانت تقع تحتها طبقات المياه الجوفية. وجدير بالذكر بأن هناك المرسوم بقانون رقم (5) لسنة 1981 بشأن تنظيم صيد الأسماك، حيث ورد في المادة رقم (14)، الفقرة الثانية، بأنه يحظر في مناطق الصيد إجراء عمليات الحفر والردم التي تلحق ضرراً بالثروة السمكية، ولكن هذا القانون تجده الآن في الأرشيف ولا وجود فعلي له!
وما حدث للرمال البحرية من حيث سوء الإدارة وتأثيراتها المباشرة والعميقة على الثروة البحرية عامة، تكرر ومازال يتكرر بالنسبة للثروات البحرية الأخرى وفي مقدمتها الثروة السمكية، حيث إننا أيضاً في هذه الحالة لم نُطبق مبادئ التنمية المستدامة في الاستغلال الرشيد والحكيم لهذه الثروة الحيوية وتنميتها اقتصادياً واجتماعياً وبيئياً، فعوامل تدهورها كثيرة وكبيرة وظاهرة للعيان. فمن جهة هناك الصيد الجائر باستخدام كافة الوسائل الشرعية وغير الشرعية وفي جميع المواسم للأسماك والروبيان حتى تناقصت أعدادها إلى درجةٍ ملموسة شهد لها الجميع. وهناك من جانب آخر عمليات دفن السواحل التي قضت جذرياً على أكثر سواحل البحرين إنتاجاً وثراء وعطاء بالنسبة للثروة السمكية، وهي سواحل المد والجزر وبيئات الطحالب والأعشاب البحرية الساحلية وبيئات أشجار القرم. كذلك هناك المخلفات السائلة التي كانت تُصرف في البيئات الساحلية المعطاة، سواء من محطات معالجة مياه المجاري أو من مئات المصانع الساحلية.

ولذلك أتمنى في المستقبل أن أي قرار نريد أن نتخذه في أي قطاع كان، يجب أن يعتمد كلياً على دراسات شاملة ومتكاملة لأسس التنمية المستدامة، والتأكد أن هذا القرار مستدام من الناحية الاقتصادية والبيئية والاجتماعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق