الأربعاء، 27 فبراير 2019

الصفقة الخضراء الجديدة للكونجرس الأمريكي

يطرح الحزب الديمقراطي الأمريكي، ممثلاً في السيناتورة الجديدة التي ولجت أبواب الكونجرس هذا العام أَلِكسنْدرِيا أكاسُيو كُورتِز، صفقة خضراء جديدة (Green New Deal) محورها مواجهة تحديات ظاهرة التغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض والتداعيات المهددة للأمن القومي الأمريكي التي تنجم عن هذه الأزمة البيئية المستمرة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، منذ أن رأتْ النور في المسرح الدولي في مؤتمر قمة الأرض في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية عام 1992 وحتى اجتماع بولندا الأخير الذي عُقد في ديسمبر عام 2018.

وهذه السياسة، أو الخطة البيئية الجديدة تُعد في تقديري منهجاً معتدلاً ووسطاً بين سياسات الرؤساء الأمريكيين السابقين، فهي تتوافق في رؤيتها الاستراتيجية مع وجهة نظر الرؤساء والحكومات الأمريكية السابقة، فهي خطة وسطية بين رؤية الرئيس الديمقراطي الأسبق كلينتون والرئيس الجمهوري جورج بوش الابن، كما إنها خطة معتدلة في سياساتها بين استراتيجيات الرئيس أوباما الديمقراطي والرئيس الحالي ترمب الجمهوري.

وقد استفادت هذه الخطة الجديدة من مخزون التجارب السابقة، وتراث الخبرات التي تراكمت مع الزمن في التعامل مع هذه القضية الشائكة والمعقدة لكي تتجنب السقوط في هفوات وأخطاء الحكومات السابقة ويكتب لهذه الخطة النجاح والاستدامة والحصول على موافقة الحزبين المتناحرين والمتنافسين في الكونجرس، الديمقراطي والجمهوري.

فالتاريخ المعاصر أكد لي أن المدخل "المتطرف" وغير المعتدل في إدارة القضايا البيئية لن ينجح، سواء اتبع هذا المدخل حماة البيئة والمدافعين عن شؤونها وشجونها، أم اتبع هذا المنهج المتطرف من يتجاهل هموم البيئة ويغفل عنها. فالمطلوب إذن "المنهج التوافقي الوسطي المعتدل" الذي يأخذ في الاعتبار مرئيات وهموم الجميع، ويدمج في سياسته النهائية وقراره الأخير كافة الأبعاد المتعلقة بالقضية وهي البعد البيئي جنباً إلى جنب مع البعدين الاقتصادي والاجتماعي، وهذا المنهج يُعرف أيضاً بالتنمية المستدامة.

فهذه الخطة الخضراء الأمريكية الجديدة وضعتْ نصب عينيها هذا المدخل الجديد، فقد فشل الرئيس الأسبق بل كلينتون عندما وقَّع على بروتوكول كيوتو في اليابان في عام 1996 دون أن يحصل على التوافق والدعم المطلوبين من الحزب الجمهوري، ولذلك عندما دخل جورج بوش الجمهوري البيت الأبيض لم يُصادق على البروتوكول وألغى أي دورٍ للولايات المتحدة الأمريكية في هذا البروتوكول الدولي التاريخي، كذلك أعاد التاريخ نفسه عندما وقَّع الرئيس الأمريكي السابق أوباما على اتفاقية باريس للتغير المناخي في عام 2015 دون الحصول على موافقة الكونجرس، وبالتحديد الحزب الجمهوري، فجاء ترمب المعادي للتغير المناخي وانسحب كلياً من الاتفاقية في الأول من يونيو عام 2017 ونسفها من أولها إلى آخرها. 

فالخطة الخضراء الجديدة المطروحة الآن على الكونجرس أخذت في الاعتبار هذا التاريخ الحديث المعاصر، وهذه التجربة المريرة التي أخرَّت العالم كله أكثر من ثلاثين عاماً في التعامل مع هذه القضية المهددة للبشرية والكرة الأرضية جمعاء. 

فقد اعتمدت وثيقة القرار المعروض على الكونجرس على صياغة توافقية دقيقة من خلال انتقاء العبارات والمصطلحات غير الخلافية والتي لا تسبب أية حساسية لدى الجمهوريين، أو تثير حفيظة جماعات الضغط الخاصة بشركات الفحم والنفط ومحطات توليد الكهرباء، كما انطلقتْ الوثيقة من عدة معطيات مشتركة متوافقة بين الحزبين لا خلاف بينها، واستندت بدرجة رئيسة على التقارير الرسمية المعتمدة من حكومة ترمب الجمهوري والتي صدرتْ مؤخراً حول تهديدات التغيرات المناخية وارتفاع درجة حرارة الأرض على مصالح الأمن القومي الأمريكي، وآخرها التقرير المنشور من وزارة الدفاع الأمريكية في 18 يناير من العام الجاري تحت عنوان: "تأثيرات التغير المناخية"، وأكدت فيه التهديدات الأمنية التي تمثلها تداعيات التغير المناخي على الأمن القومي، وبالتحديد على القواعد الأمريكية الساحلية في مختلف دول العالم، حيث خلص التقرير إلى استنتاجٍ خطير جداً وجاء فيه بأن "تأثيرات التغيرات المناخية تُعد قضية أمن قومي، ولها مردودات خطيرة على المهمات التي تقوم بها وزارة الدفاع وعلى خططها التشغيلية وعلى منشآتها".

وفي الجانب الآخر ركز مشروع القرار في الوقت نفسه على دور هذه الصفقة الخضراء في تنمية وتحسين الاقتصاد ورفع المستوى المعيشي للمواطنين من خلال خلق الوظائف الجديدة للشعب الأمريكي في كافة القطاعات، ومنها قطاع الطاقة الكهربائية، والطاقة النظيفة المتجددة كالرياح والطاقة الشمسية، وقطاع المواصلات والزراعة، إضافة إلى توفير الغطاء السياسي والتشريعي لتشجيع المستثمرين وأصحاب المال في ضخ أموالهم للاستثمار في هذه المجالات والقطاعات.

وعلاوة على ذلك، فقد اعتمد القرار على سياسة النفس الطويل والتطبيق التدريجي البطيء والميَّسر، بحيث ينتهي من تنفيذه بحلول عام 2030، وهذه السياسة في التنفيذ تعطي الفرصة الكافية والوقت المطلوب لقيام جميع المعنيين بالقرار في كافة القطاعات التنموية بالتكيف معه والتأقلم مع أية تداعيات قد تنجم عنه، وعدم تحميلهم ما لا يطيقون وتجنب تكبدهم خسائر مالية نتيجة لتنفيذه، مما يقلل من أعداد المعارضين له داخل وخارج الكونجرس.

فهذه الخبرة الأمريكية في معالجة ومواجهة القضايا البيئية يجب أن لا تمر علينا مرور الكرام، فعلينا الوقوف أمامها والاستفادة منها عند أخذ أي قرار يمس المواطن البحريني، سواء أكان قراراً بيئياً بحتاً أم قراراً اقتصادياً خالصاً، فالتوافق والاعتدال بين جميع القطاعات وفئات المجتمع هو المطلوب، حتى يخرج الجميع رابحاً، ويكون القرار ناجحاً ومستداماً.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق