الخميس، 4 أبريل 2019

خسرنا الحرب ضد تلوث الهواء


كوارث وحوادث بيئية كثيرة نزلت على البشر منذ مطلع القرن المنصرم، وضحايا بشرية سقطت بسبب تدهور المكونات البيئية من هواء وتربة وماء، وأشد هذه الكوارث بطشاً وتنكيلاً بالإنسان كانت نتيجة لتلوث الهواء الجوي وتدهور صحته، فهل هذه الحوادث القاتلة كانت تقع في زمن التاريخ القديم، أم أنها مازالت تنزل علينا حتى الآن بصور ومصطلحات مختلفة، ولكن نتيجتها واحدة هي مرض وموت البشر؟

فقد دخل الإنسان في كل مدن العالم في حروبٍ ضروس لا نهاية لها، صَنعها بنفسه منذ أكثر من مائة عام عندما أَطلق عدواً هو التلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص، وخاض الكثير من المعارك الخاسرة في هذه الحرب الطويلة، وأولى هذه المعارك الطاحنة والدموية التي دارتْ بينه وبين تلوث الهواء كانت في الفترة من 27 إلى 31 أكتوبر عام 1948 في مدينة دونورا بالقرب من مدينة بتسبرج بولاية بنسلفانيا الأمريكية. فقد زار المدينة ضيف ثقيل الظل على النفس، وكئيب على القلب، ومفسد للجسد، فحلَّ على المدينة دخان كثيف وضباب أسود قاتم مشبع بخليطٍ قاتل من الملوثات السامة والخطرة منها الجسيمات الدقيقة والعناصر الثقيلة وأكاسيد الكبريت والنيتروجين، واستمر هذا الضيف يخيم بظلاله المظلمة والقاتلة لمدة خمسة أيام على سماء المدينة، فحول النهار ليلاً، وانعدمت الرؤية طوال هذه الأيام العصيبة، وأعلنت حالة الطوارئ الصحية البيئية وبخاصة عندما سقط الناس صرعى يعانون من ضيق التنفس وآلام في الصدر ومتاعب في القلب، فمات أكثر من 26 على الفور ومرض أكثر من نصف سكان المدينة، ولولا فضل الله عليهم ورحمته بعباده لتضاعف عدد القتلى والمرضى، ولكن رب العالمين أرسل إليهم الأمطار الغزيرة التي نزلت عليهم برداً وسلاماً، فغسلت السماء بالماء العذب الفرات الصافي، وأزالت ظلمة الغيوم والضباب الأسود فأشرقت الشمس، وظهر النهار مرة ثانية.

فهل انتهت هذه المعركة في هذه المدينة المنكوبة أم أنها مازالت مستمرة؟

لقد جاءت الإجابة عن هذا السؤال في الدراسة المنشورة في المجلة الأمريكية للصحة العامة في أبريل 2018 تحت عنوان :"مراجعة لضباب مدينة دونورا بعد سبعين عاماً"، حيث أشارت إلى أن المعركة مستمرة ومازالت حامية، ولكن انكشفت مصادر أخرى جديدة إضافة إلى المصادر الصناعية التي كانت موجودة في الأربعينيات من القرن المنصرم، وظهرت ملوثات حديثة بثوبٍ جديد لم تكن موجودة في ذلك الزمان، كما انكشفت مظاهر للتلوث لم يعرفها الإنسان في تلك الحقبة الزمنية. فهذه المدينة، ومدن أخرى حول العالم تشبعت بدخان السيارات وكونت مجموعة كبيرة ومعقدة من الملوثات المؤكسدة، كغاز الأوزون وظهر في سماء هذه المدن الضباب الضوئي الكيميائي القاتل للبشر والحجر على حدٍ سواء، مما يعني أن الإنسان خسر معركة عمرها أكثر من 80 عاماً ضد التلوث الهواء في هذه المدينة.

والمعركة الثانية المشهورة وقعت في قلب العاصمة البريطانية لندن، وبالتحديد في أيام الأعياد والأفراح في الأسبوع الأخير من ديسمبر عام 1952، حيث سقط عشرات الآلاف من الناس بسبب تدهور وفساد الهواء الجوي، فمنهم من قضى نحبه، وبلغ عددهم نحو أربعة آلاف شخص خلال أسبوع واحد فقط، ومنهم من أُدخل إلى الطوارئ ليتلقى العلاج من السموم التي استنشقها في الهواء الجوي. فهل تغير الوضع الآن بعد مرور نحو سبعين عاماً، وهل انتصر الإنسان في معركته منذ ذلك الوقت حتى الآن ضد التلوث؟

فالإحصاءات الحكومية الرسمية تؤكد الخسارة البيِّنة للإنسان في معركته حالياً، كما خسرها من قبل، حيث تؤكد التقارير بأن الذي يُنقلون سنوياً إلى مثواهم الأخير في سنٍ مبكرة بسبب تلوث الهواء بلغ 9000 إنسان في لندن وحدها، وقرابة 40 ألف على مستوى بريطانيا برمتها.

ومدن أخرى حول العالم ليست بأحسن حال فمعظمها يعاني من تلوث الهواء الجوي وتدهور صحته، فهواء مدن الصين الحضرية الكبيرة تحول من هواء يشفي البدن ويقوي الجسد إلى هواءٍ يضعف الجسم ويهلك كافة أعضائه ويعرضه للأسقام والعلل المزمنة والمستعصية، حتى أن الصين أعلنت رسمياً الحرب على التلوث منذ سنوات ولكن دون جدوى، فأسلحتها وعتادها الموجود حالياً لمحاربة التلوث لا يوازي ولا يجاري درجة التلوث التي تعاني منها مدنها.

كذلك الكثير من المدن الهندية، مثل نيودلهي ومومباي رفعت الأعلام البيضاء أمام فساد نوعية الهواء الجوي، حتى أن الهواء في 14 مدينة هندية دخل في أعلى سلم قائمة المدن الأشد تلوثاً في العالم، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية المنشور في عام 2018.

فمعاركنا التي نخوضها ضد التلوث كلها باءت بالفشل والخسارة المذلة، والتقارير التي تُنشر على المستوى القاري أو الدولي تؤيد هذا الاستنتاج، فتلوث الهواء يتحمل مسؤولية القتل المبكر لنحو 800 ألف أوروبي سنوياً، وأكثر من 1.8 بليون طفل دون سن الـ 15 عاماً يعانون من أمراضٍ مزمنة نتيجة لتعرضهم كل ساعة للهواء الملوث في داخل المنزل وخارجه، وقرابة 600 ألف طفل منهم قضوا نحبهم في عام 2017 بسبب أمراض الجهاز التنفسي الناجمة عن تلوث وتدهور نوعية الهواء الجوي، وفي العالم كله يصل عدد الموت المبكر من تلوث الهواء إلى 8.8 مليون، حسب آخر الإحصاءات المنشورة من منظمة الصحة العالمية.

ولذلك بعد هذا العرض الموجز السريع منذ مطلع القرن الماضي حتى يومنا هذا، أستطيع أن أُجزم بأن الإنسان يقف عاجزاً أمام تحديات التلوث بصفةٍ عامة، وتلوث الهواء بصفةٍ خاصة، فمعظم المعارك التي دخل فيها ضد التلوث قد خسرها وفشل في مكافحته والقضاء عليه، ولا أظن بأنه في القريب المنظور سينجح في كسب الحرب ضد التلوث.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق